حتى نفهم صراع الخليج

[1] ما قبل الصراع:

هل ما حصل في السعودية هو “التغيير” ؟

لا أظن ذلك، بل هو :

  1. تمهيد لتغيير، يتم به استباق ظرف التغيير، وهذا من جهة من قاموا به، وما يهدفون إليه، حتى يستتب لهم ما يرونه مستقبلا قريبا.
  2. وتفجير لتغيير آخر، قد ينازعهم به غيرهم،ممن يحوزون عددا من مراكز القوى المؤثرة، ويعتبرون ما حصل موجها ضد مستقبلهم القريب. والأهم: ما الذي سيتبع ذلك في مصر والمنطقة؟

[2] راعي الصراع:

دعم ترامب عددا من التفجيرات في المنطقة:

الأول: [أممي] صهيوني / فلسطيني (خاصة : غزة – حماس).
الثاني: [إقليمي] المحور الإماراتي / المحور القطري (والتركي).
الثالث: [داخلي] بعض أجنحة الحكم / بعضها الآخر (خليجيا).

وهذا قد يحقق له مصالح سريعة، بدون استقرار حقيقي، فتفجر الوضع قد يخرج المنطقة عن السيطرة الأمريكية الحالية، وقد يساهم في تكوين تحالفات جديدة تدعمها متغيرات اللحظة الراهنة،ولعل ذلك يغير حال أمتنا، ولو عبر بعض الآلام. (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

إن خبرات التدخل المباشر في العراق وأفغانستان ليست جيدة (في المحصلة) بالنسبة لأمريكا. وما تمتلئ بها منطقتنا اليوم من نزاعات سياسية وعسكرية هو تطبيق واضح للحرب بالوكالة.

[3] حيثيات الصراع:

منطقتنا والحرب بالوكالة:

أمريكا اليوم ليست في أقوى حالاتها، وقدرتها على اتخاذ قرار بالحرب المباشرة ليست كبيرة. فلديها داخليا مشاكلها الاقتصادية التي تصعب هذا الأمر، فضلا عن الإشكال السياسي الداخلي. ولديها عالميا تنازع أقطاب متعددين متفرقين، يصنعون لها المشاكل، أو ينازعونها النفوذ والتأثير، وهذا من أوربا إلى الصين مرورا بروسيا. ولديها إقليميا قوى مركزية، وتحالفات إقليمية وعالمية لا بد من مراعاتها، فضلا عن مصالح وأذرع لبعض ذوي النفوذ العالمي المنافسين لأمريكا.

إن خبرات التدخل المباشر في العراق وأفغانستان ليست جيدة (في المحصلة) بالنسبة لأمريكا. وما تمتلئ بها منطقتنا اليوم من نزاعات سياسية وعسكرية هو تطبيق واضح للحرب بالوكالة. حروب الوكالة تجعل لقوى الداخل قيمة وتأثيرا أكبر بكثير مما يمكن في الصراع المباشر مع أمريكا، وتتيح فرص لإعادة تشكيل موازين القوى، بما يغير معادلة القرار دائما .

تذكروا .. كيف استفاد الجهاد الأفغاني من مثل ذلك (أفغان وغيرهم)؟.. كيف استفادت منه باكستان نوويا؟.. كيف استفاد العراق من حرب الخليج الأولى عسكريا وعلميا؟.. انتظروا تغييرا أرجو أن يكون نحو الأفضل لأمتنا، حصلت له ممهدات، ويمر الآن بمخاض وآلام، لكنه قد يعطينا نقلات تختصر لنا الزمن عبر مراحل سريعة .. فمالك الملك يستعمل أعداءه بالقدر، كما يستعمل أولياءه بالقدر والشرع، والعاقبة للمتقين.

نعم، إيران لها عقيدتها ومشروعها المخاصم لنا، لكن هذا لا يمنع من تقاطعات سياسية استفادت منها القاعدة أحيانا، كما استفاد منها الجهاد الإسلامي وحماس أكثر (وإن حصل تأثر عند بعض الجهاد الإسلامي، دون الباقين).

 

[4] داخل الصراع:

أطراف الصراع: هل هم قطر الصغيرة في مقابل تكتل عدد من الدول العربية؟

الحقيقة أكبر من ذلك، وهناك عدد من القوى تعلم أنها أصيلة في هذا الصراع، وأن ما ستسفر عنه هذه الجولة ستكون له تداعياته بعدها على رقعة أكبر من الواقع، بل إن هناك من يراقب ويتلمح فرصة يريد أن يستثمرها في ظل هذا الوضع قد لا تتاح له في غيره.

ومن لا يميز أطراف الصراع جيدا لن يحسن حساب معطيات الصراع، فضلا عن تصور احتمالات نتائجه التي ليست صغيرة ولا سهلة، وذلك بالنسبة للجميع.

(1) تركيا وقطر:

لقد جمع بينهما موقف سياسي متقارب ومتميز من أحداث المنطقة، على تفاوتات قليلة التأثير في الصراع الحالي. وتركيا لا تعتبر أن ما يحدث بعيد عن محاولة الانقلاب الفاشلة على أرضها، والتي قد لا تكون الأخيرة.

بل قد لا تعتبر أن تسليح الأكراد في سوريا بعيد عن هذا الصراع، ولا حتى إغراء تيار جولن بمخاصمتهم أو تشجيع حزب الشعوب ضدهم بعيد عن هذا الصراع. تركيا أقوى عسكريا ومجتمعيا وسياسيا من قطر، لكن كلا منهما تحتاج إلى الأخرى، وتركيا تعلم أنه ليس بعد نجاح تغيير قطر إلا تغيير تركيا. ولهذا فتركيا طرف أصيل في الصراع القائم.

(2) إيران وقطر:

رغم الاختلافات والخلافات بينهما على مستويات المذهب الديني، أو حتى الكثير من قضايا السياسة النازلة في منطقتنا، إلا أن الصراع الحالي قد جمع بينهما. فالخط الاستئصالي الذي تدعمه الحكومة الأمريكية الجديدة، يضع في أهدافه إيران التي تغولت من أيام بوش الابن وإلى أيام أوباما.

نعم، إيران لها عقيدتها ومشروعها المخاصم لنا، لكن هذا لا يمنع من تقاطعات سياسية استفادت منها القاعدة أحيانا، كما استفاد منها الجهاد الإسلامي وحماس أكثر (وإن حصل تأثر عند بعض الجهاد الإسلامي، دون الباقين). إيران خطيرة سياسيا، كما هي خطيرة عسكريا وفكريا، وهي تدرك أن قطر أول القاطرة وليست آخرها، وأن لها مكانا في قاطرة المستهدفين في هذا التصعيد الأخير للصراع، فالعاقل لا ينتظر دوره في الاستهداف. ولهذا فإيران طرف أصيل في الصراع القائم .

حماس حركة مميزة سياسيا أكثر من كونها مميزة عسكريا أو اجتماعيا، وهي تدرك تداعيات الصراع الحالي عليها

(3) حماس وقطر:

فلسطين في قلب الصراع الأممي بيننا وبين الصهاينة (يهودا ونصارى) ، وحماس على واجهة هذا الصراع من جهتنا شاء من شاء وأبى من أبى، وتكرس ذلك منذ سيطرت على قطاع غزة (وسلم لها بذلك واقعيا، مع رفضه سياسيا من كل الأعداء) .

والمنظومة التي تضم ثورات الربيع والإسلاميين عموما والإخوان خصوصا وقطر وتركيا تضم حماس، بل حماس تحتل مكانا مميزا فيها، لخصوصية فلسطين كمركز في الصراع، ولخصوصية حماس كحركة جهاد إسلامي .

حماس حركة مميزة سياسيا أكثر من كونها مميزة عسكريا أو اجتماعيا، وهي تدرك تداعيات الصراع الحالي عليها، في ظل وضع متأزم وضيق ابتداء. نحن نعلم أن موقف حماس صعب، وأن حساباتها شديدة التعقيد، وأن الأثمان عندها بالدماء وما قاربها، لكنها اللحظة الحرجة التي لا يكون ما بعدها كما قبلها .. فماذا ستفعل ؟؟ إن حماس طرف أصيل في الصراع القائم.

[5] محيط الصراع:

(1) أوربا وروسيا وقطر:

إن التبعية التقليدية من القارة الأوربية لأمريكا ليست اليوم في وضع جيد، فهناك تفرق (أوربي/أوربي) من جهة، وهو تفرق مدعوم أمريكيا الآن، وبالتالي هناك تفرق (أوربي/أمريكي) من جهة أخرى . كما أن التنافس (الروسي/الأمريكي) واضح في المنطقة بقوة في كل الملفات الممكنة (سوريا، وإيران …) وتم استثماره أكثر من مرة (كما من مصر، وتركيا).

ومع أن المنطقة تعد داخل دائرة النفوذ التقليدي لأمريكا، إلا أن هذا لا يمنع من وجود أذرع لقوى متنافسة فيها، كما لا يمنع دخولها في دوائر مناطق نزاع النفوذ، أو حتى إنشاء تحالفات جديدة فيها، فضلا عن استثمار مناطق الفراغ بين القوى الدولية المتنافسة أو المتنازعة.

أوربا وروسيا تراقبا الصراع القائم، تمدان أيديهما برفق، تحاولان الاستفادة من الصراع من خلال التعامل مع كل أطرافه بحسب الإمكان، ولا تستطيع أمريكا منعهما من ذلك .. وفي الصراع فرص قد لا تتكرر كثيرا، فيجب اقتناصها. إن هناك مراكز نفوذ عالمي متعددة لها مصالح وأذرع في الصراع القائم.

(2) الصين وكوريا وقطر:

ليست الصين ولا كوريا الشمالية أطرافا أصيلة في الصراع الحالي، ولكن هذا لا يعني أنهما لا تأثير لهما على معطيات الصراع . فكوريا الشمالية بما تمثله من تهديد عسكري للنفوذ الأمريكي، وبشبه الدعم الذي تلقاه من روسيا والصين، يتعدى إزعاجها منطقتها الآسيوية، وستبقى ذات أثر عندما تفكر أمريكا في أي مغامرة عسكرية، فقد تبددت أسطورة الجيش الأمريكي الذي يخوض حربين ناجحتين في نفس الوقت .

أما الصين فتغولها الاقتصادي الذي اقتحم الأسواق الأمريكية نفسها، ونافس أمريكا في أسواق العالم، والذي يغتنم كل الفرص المتاحة لزيادة تغوله على حساب غيره، فهي ليست بعيدة عن الأسواق الخليجية عموما والقطرية خصوصا، ولا شك أنها ترحب بالمزيد من الفرص.

إن الحصار الذي يتم برعاية أمريكية، إنما هو فرصة جديدة وكبيرة لتمدد صيني، كما حصل سابقا مع إيران (مثلا) ، مع عدم قدرة أمريكا وحدها إجبار الصين على خلاف ذلك، في عالم متعدد الأقطاب، بل وتزداد قوة الأقطاب المنافسة لأمريكا فيه مع الوقت.

إن وجود كل من الصين وكوريا الشمالية بوضعيتهما الحالية، كأقطاب منافسة للنفوذ الأمريكي، تمنح قطر مساحة واسعة للمناورة، وتعطيها بدائل تقلل من خطورة خصومها عليها .

[6] أسرع المتأثرين بصراع الخليج:

أولا: الكيان الصهيوني، الذي أعلن أنه أمام فرصة مميزة لترسيخ وضعه في المنطقة، ولا شك أن أي متغيرات سريعة أخرى ستكون ذات مردود قوي بالنسبة له.

ثانيا: السعودية، التي تعبر صراعاتها الخارجية في حقيقتها عن صراعات داخلية، فالزمن مع ثمرات الصراع ستكون مؤثرة في تشكيل الحكم وترتيب التحالفات داخليا وخارجيا.

إن الحركة الإسلامية التي صعدت على واجهة المجتمع في أجواء الثورة، أو على واجهة الحكم في ظل أجواء الحرية، هي الحاضر الغائب في هذا الصراع .

[7] كلمة السر في صراع الخليج:

هو صراع بين أنظمة حكم، وبين أجنحة حكم، لكن هذا ليس كلمة السر. وهو صراع بين مراكز نفوذ اقتصادي وسياسي، لكن هذا أيضا ليس كلمة السر. وهو صراع بين طلاب حرية وأقطاب استبداد، لكن هذا كسابقيه ليس كلمة السر. إلى آخر أركان التفجير الحقيقية والظاهرة في هذا الصراع، لكنها لا تمثل كلمة السر التي “هي محور إشكاله ومفتاح حله”.

إن الحركة الإسلامية التي صعدت على واجهة المجتمع في أجواء الثورة، أو على واجهة الحكم في ظل أجواء الحرية، هي الحاضر الغائب في هذا الصراع .

ومثال توضيحي لحضورها: إن أكبر أسرار بقاء بشار إلى اليوم هو الثنائية القائمة بينه وبين الإسلاميين في سوريا، وأكبر أسرار تمدد حفتر في ليبيا هو نفس هذه الثنائية .. وعلى هذا تقاس بقية المنطقة. أما وجه غيابها: فيتجلى في عدم قدرتها على حسم هذا الصراع بسرعة في المنطقة، ثم في ضعفها عن توجيه معطياته لتكون في مصلحتها.

لكنها موجودة، متفاعلة، بل هي ثقيلة في كل الحسابات المستقبلية لمنطقتنا، سواء أكانت تلك المفرطة في التشاؤم (والتي لا أؤيدها) أم كانت تلك المفرطة في التفاؤل (والتي أميل إليها بنسبة). والسنن الربانية تعلمنا أن الإيمان وحملته هم محور الثقل في الأقدار، نعم ليسوا وحدهم .. لكنهم سر الأسرار .


التعليقات