حقًا في العقرب أنت من الله أقرب

ترى تأثرتم بفيلم شبكة الجزيرة عن العقرب؟! هل ما زلتم تدعون لإخوانكم القابعين في جنباته.. أم كان تأثرا لحظيا وانفعالا عابرا؟! كيف هي مشاعركم وأنتم تتلقون نبأ إضراب إخوانكم عن فتات لا يسمن ولا يغني من جوع؟! تعلمون أيها الناس.. ليس إخوانكم في مقبرة العقرب بأحوج منكم إلى ما تقدمونه لقضيتهم من الدعم والدعاء!! قد يصعب شرح العبارة السابقة بكلمات.. ولكن دعوني أحاول!!

سجن العقرب -لمن لا يعلم- هو ثاني أسوأ مكان يمكن أن تطأه قدماك في مصر بعد سجن العازولي، وعلى الرغم من وجود أماكن احتجاز أخرى تهدر فيها الكرامة الإنسانية على أعتابها، إلا أن العازولي جمع من صور البشاعة الحيوانية، وما لا يمكن حتى أن يمارسه الحيوان مع أخيه الحيوان فوق ما يمكن أن يحيط به الخيال، ولولا أنا قابلنا من نجا منه ورأينا ما تبقى من صورته الآدمية، وكان له وعليه من البيان المبين ما كنا صدقنا أن شيئا من هذا يمكن أن يحدث بهذه البشاعة في مصر القرن الحادي والعشرين.

أما سجن العقرب فلم نكن نحتاج أن نقابل شهود عيان؛ فقد كنا أحد زواره.. والفارق الوحيد بينه وبين المقبرة أنه يمكن أن ترجع منه إلى الحياة الدنيا -إن كتب الله لك هذا- وهذا بلا شك احتمال وارد، كما حدث معنا.. إلا أن الأصل هو أن تتصل حياتك البرزخية الدنيوية فيه بحياتك البرزخية الأخروية في المقبرة، كما حدث مع كثيرين.

أنت في العقرب إذن أنت من الله أقرب.. تلك هي الكلمات الأشهر التي يتداولها سكان مقبرة العقرب والتي لم يرد شرحها في الفيلم الوثائقي الذي حاولت شبكة الجزيرة من خلاله تقريب المأساة للمشاهدين.. ولكن هيهات فليس المخبر كالمعاين.

يمكن أن تفهم من خلال تلك الكلمات أنك قريب من الموت وهو بلا شك معنى صحيح لا يختلف عليه اثنان ممن عايشوا، أو إن شئت الدقة فقل: عاينوا الموت فيه.. إلا أن هذا الكلمات لم تكن تهدف إلى التعبير عن هذا المعنى.. بل ثم معنى آخر كان هو المقصود!!

لقد أزال سجانوك في هذه المقبرة كل ما يذكرك بالحياة الدنيا.. تلك الحياة التي كانت عائقا أمامك عن رؤية الحقيقة وعن استشعار المعاني الصادقة التي تاهت وسط زيف المعاني، التي زينت دنيانا وأغشت أبصارنا، وشغلتنا عن الأهم في هذا الوجود.

لقد تفنن سجانوك بإشعارك بالضعف.. وهذا سبب آخر يجعلك من الله أقرب.. ففي كل مواطن الضعف يحدثك الوحي أن الله هو الأقرب منك.. فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.. وعن المريض يقول: لو عدتني لوجدتني عنده.. فكلما تجردت من أسباب القوة التي طالما شجعتك على الطغيان، ونسبت بها إلى نفسك ما أنت عاجز عنه، كلما انطلقت إلى سماء (لا حول ولا قوة إلا بالله).. وهناك في العقرب ثق بأنك من الله أقرب.

أعلم أن أكثركم كلما سمع عن العقرب سمع عن الإهانة وإهدار حقوق الإنسان بل والحيوان.. وعن الإهمال الطبي والموت البطيء.. وعن إذلال الزيارة بالمنع أو حتى بالسماح بها – وهذا بلا شك يستعصي إدراكه إدراكا حقيقيا عمن لم يذق- إلى آخر ذلك المسلسل البغيض إلى نفوس الأحرار…!!

لكن ثم جوانب للمحنة ومعان شريفة غابت وراء تلك الاستغاثات.. تحتاج إلى تسليط الضوء عليها ليعلم كيف أننا على خطر، فهم في حال القرب من الله، أما نحن ففي حال الغفلة والانشغال عن مهمات الدين، وشكر نعمة العافية والحرية، لاسيما من ذاق مرارة فقدها.

تلك المعاني اقتربت أنا منها مع أول يوم لنا في العقرب وفي اللحظات الأولى، تلك اللحظات التي حفرت ذكراها في قلبي، إلى أن استدعيتها بعد مرور أكثر من مائتي يوم وسطرتها.. وكنت ما زلت خلف القضبان.. ولكنها كانت قضبان مختلفة، قضبان سجن استقبال طره المجاور لسجن العقرب.. فلتعيشوها معي:

بعد 200 يوم من الأسر.. يعود بينا شريط الذكريات إلى اليوم الأول في سجون مصر.. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ).. وصلنا قبيل الفجر يوم 25 سبتمبر 2014 إلى أبواب سجن العقرب.. وعلى أعتابه خلعنا أثواب الحرية وارتدينا أثواب الأسر البيضاء.. وفى طرقاته سرنا حفاة نتحسس برد الشتاء بأقدامنا.. كان الصمت يخيم على الأجواء إلا من صوت أقدامنا وصوت مفاتيح السجان يضعها في أبواب طرقات، يقودنا من خلالها إلى آخر عنبر في السجن، والذي علمنا اسمه فيما بعد إنه (عنبر الدواعي الأمنية).. وما أن فتح بابه حتى تعالت الصيحات ودوى التكبير في العنبر وكأننا في الميدان.. ليسقط قناع الصرامة الزائف من على وجه السجان.. ويظهر عليه الارتباك.. فيسرع بإدخالنا واحدًا تلو الآخر إلى الزنازين الانفرادية المظلمة.. لينصرف وسط صيحات الأخوة المزلزلة.. وليتسابق الأخوة بعدها في الاطمئنان علينا.. ويخرج أحدهم بصوته الرخيم لينشد لنا نشيد المجد والإيمان.. ويشد من أزرنا، ويبث الأمل بفجر نصر يدك كل أبنية الظلم والطغيان، فيقول:

أما والله لا نخشى عدوا … يظل برغم قسوته جبانا
نلوذ بمن أرانا الحق حقا … ومن بظلال رحمته احتوانا
أحبتنا لنا حق عليكم … ومن عرف الحقوق رعى وصان

كان هذا هو استقبال أخوة لنا سبقونا إلى القيد.. فلم يشغلهم همهم عن همنا.. ولا ألمهم عن ألمنا.. وحملوا على عواتقهم مسؤولية دعم كل قادم جديد.. لينسوه أثر التعذيب وليحطموا أمام عينيه قهر السجان.. وليعلم أنه ليس وحيدًا في هذا الطريق.. فيأنس بهم وبكلماتهم وبمعروفهم.. ولم يكونوا يفرقون بين قادم وقادم.. وكان إحسانهم يصل إلى الجميع متحدين أسوأ الظروف.. ولم يكونوا يبخلون ولو بيسير ملبس ومطعم وسبل حياة.. لكنها في ذلك السجن للأسير كانت تعني الكثير..

لن ننسى في اليوم التالي عندما خرج أحدهم لزيارة أهله.. فوزع طعامه على العنبر.. ولم يكن الطعام بتلك الكثرة التي تكفي الأخوة.. ولكنهم أشربوا خلق المواساة ولو بالقليل.. كنا نتذوق مع كل لقمة طعمًا جديدًا عزّ أن يوجد خارج تلك الأسوار..

لن ننسى ذلك الكيس الذي امتلأ بالملابس وأدوات النظافة.. والذي جمعه لنا الدكتور صفوت عبد الغنى والدكتور حسام أبو البخارى من أخوة عندهم في العنبر المجاور.. يواسون به إخوانهم في عنبر الدواعي.. لن ننسى سلامهما الخاص الذي أرسلوه لنا فقد كان له أثر عميق في نفوسنا.. فقد أثبتوا حقا أن أخوة الإيمان تتحدى الجدران..

لن ننسى كيف تحدينا تلك الكتل الخرسانية التي أسكنونا فيها.. لنقيم بين تلك الزنازين الجمعة والجماعة.. فما فرقه وثاق السجان جمعه رباط الايمان.. لن ننسى تجاوب الأخوة معنا في مجالس التدبر القرآنية.. تراهم قيامًا خلف أبواب الزنازين، كل منهم ملتحف ببطانية مهترئة يحاول أن يخفف من وطأة البرد، يتلقفون رسائل الهدى من الآيات من فتحة في باب الزنزانة تسمى النظارة.. صنعها السجان ليدخل حقير الطعام؛ لكيلا يفتح علينا باب.. نعم كانت ضيقة.. ولكنها كافية لينساب منها نور الوحي؛ فتطمئن القلوب وتسكن النفوس. حقًا في العقرب أنت من الله أقرب.


التعليقات