ولا تنسوا الفضل بينكم

منذ حوالي عشرين سنة تقدمت لخطبة فتاة متدينة من أسرة طيبة، ولسرعة الاطمئنان الذي حصل بيني وبينهم عجلنا بكتابة عقد الزواج رغم اتفاقنا على تأخير الزفاف لمدة عام، وقد تطورت العاطفة بيني وبينها هي وأهلها بشكل كبير، حتى كنا نفكر في التعجيل بالزفاف، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن! تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال حتى اضطررنا للانفصال عن بعضنا.

 كان حقها الحصول على نصف الصداق المتفق عليه وفقا للآية الكريمة “وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ”، فعرضته عليها كاملا رغم الضائقة المادية وقتها، وما كان منها إلا أن قالت: لا، كان بودي ألّا آخذ منه شيئا لولا أن ذلك قد يحزن أهلي. فكان كل منا حريصا على العمل ببقية الآية “إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ”، فأخذَتْ نصفه وكنا في غاية الحزن على الفراق، وحرصت وقتها على استمرار العلاقة مع إخوتها ووجدتهم كذلك حريصين على ذلك، وكنت أحضر في مناسباتهم كأحد أفراد العائلة، حتى توفيت أمها وتم استدعائي كأني ولدها لأشارك في أمور التجهيز والدفن، بل قالوا لي: أنت أدرى منا بالأمور الشرعية، ولك كامل الحرية في التصرف إذا رأيت خطأ ما. وظل الحال هكذا حتى تزوجتُ وتزوجَتْ، واستمر التواصل بين الأسرتين دون شعور بالحرج أو حدوث مشكلة والحمد لله.

لم تكن خاتمة الآية “وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ” مجرد توجيه متعلق بالطلاق والفراق بين الزوجين، بل هي قاعدة عامة في المعاملات الإنسانية، بحيث لا يتم قطع حبال الوصال ولا حرق سفن العودة كما يحدث الآن بين أي طرفين كان بينهما علاقة ثم انقطعت لسبب من الأسباب، فقد تكون شراكة وقد تكون زمالة وقد تكون صحبة بل قد يكون موقفا عابرا ترك في النفوس أثرا، وخلال هذه العلاقات يكون من الطرفين فضلا وخيرا على الطرف الآخر، فلا ينبغي عند انقطاع العلاقة أن ننسى هذا الفضل أو نجحده، فالإنسان كريم الخُلُق طيب النفْس يعرف الفضل لأهله حتى لو افترق عنهم أو اختلف معهم. وهاكم أمثلة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أناس كفروا به ولم يتبعوه -بل- وحاربوه.

 – أبو البختري ابن هشام

عندما أعلنت قريش مقاطعتها لبني هاشم، وفرضت الحصار عليهم في شِعْب أبي طالب، وعلقت صحيفتها الظالمة، قام أبو البختري ابن هشام بدعوة بعض أصحاب النخوة والشهامة في قريش لنقض هذه الصحيفة ووقف هذه المقاطعة، وبالفعل نجح في تجميع عدد من الرجال على ذلك الأمر. فلما كان يوم بدر خرج أبو البختري في جيش المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل المعركة: “من لقي منكم أبا البختري بن هشام فلا يقتله”. قال ابن إسحاق في السيرة: “وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أَكَفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب.” (انظر دلائل النبوة للبيهقي)

– المطعم بن عدي

بعدما رفض عامة أهل مكة دعوة الصادق الأمين لهم بالدخول في الإسلام، خرج صلى الله عليه وسلم لدعوة أهل الطائف الذين آذوه وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم، حتى سال الدم الطاهر من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، ورجع رسول الله إلى مكة ليجد أهلها متربصين به يمنعونه من دخولها، فأعلن المطعم بن عدي أن محمدا في جواره (أي: في حمايته) ولبس هو وأولاده السلاح ووقفوا عند أركان الكعبة ليسمحوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالطواف بالبيت دون أن يعترضه أحد.

فلما انتصر المسلمون في بدر، وأسروا سبعين رجلا من قريش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته الشهيرة: “لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأسلمتهم إليه” (صحيح البخاري) وما ذلك إلا تذكيرا عرفانا بفضل الرجل الذي مات كافرا، لكن كفره لم يكن مانعا من ذكره بالمعروف الذي أسداه وإكرامه بما يستحق.

ومن القصص الرائقة الشيقة حول هذا المعنى، قصة زينب بنت رسول الله مع زوجها أبي العاص بن الربيع (ابن هالة بنت خويلد) يعني أنه كان ابن خالة زينب. ولجمال القصة آثرت أن أذكرها كاملة دون تصرف أو تعقيب.

عندما نزل الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام أمر أبو لهب ولدَه عتبة بفراق زوجته رقية بنت رسول الله، ففارقها (كان ذلك قبل الدخول، وتزوجها عثمان بن عفان)، ثم مشوا إلى أبي العاص فقالوا: فارق صاحبتك ونحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت.” قال: “لا والله إذاً لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش.”

 خرج أبو العاص في غزوة بدر مع المشركين لمحاربة النبي ولما أُسِر بعدها، بعث أهل مكة في فداء أسراهم وبعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقـال: “إن زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا”. فوافقوا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام اتفق معه على أن يرجع إلى مكة فيرسل له ابنته زينب، وأرسل معه مرافقين لاستلامها على مشارف مكة، وبالفعل وفى بوعده وأرسلها على الفور.

أقامأبو العاص في مكة بعد فراق زوجته زمناً، حتى إذا كان قبيل الفتح بقليل، خرج إلى الشام في تجارة له، فلما قفل راجعا إلى مكة ومعه عيره التي بلغت مئة بعير، ورجاله الذين كانوا تقريبا مئة وسبعين رجلا، برزت له سرية من سرايا الرسول صلوات الله وسلامه عليه قريبا من المدينة، فأخذت العير وأسرت الرجال، ولكن أبا العاص أفلت منها فلم تظفر به.

 فلما أرخى الليل سدوله واستتر أبو العاص بجنح الظلام، دخل المدينة خائفاً يترقب، ومضى حتى وصل إلى زينب، واستجار بها فأجارته. ولما خرج الرسول صلوات الله وسلامه عليه لصلاة الفجر، واستوى قائما في المحراب، وكبر للإحرام وكبر الناس بتكبيره، صرخت زينب من صفة النساء وقالت: “أيها الناس، أنا زينب بنت محمد، وقد أجرت أبا العاص فأجيروه.” فلما سلم النبي من الصلاة، التفت إلى الناس وقال: “هل سمعتم ما سمعت؟” قالوا: نعم يا رسول الله. قال: “والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه، وإنه يجير من المسلمين أدناهم”، ثم انصرف إلى بيته وقال لابنته: “أكرمي مثوى أبي العاص، واعلمي أنك لا تحلين له”.

 ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير وأسرت الرجال وقال لهم: “إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أخذتم ماله، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، كان ما نحب، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، وأنتم به أحق”. فقالوا: “بل نرد عليه ماله يا رسول الله”. فلما جاء لأخذه قالوا له: “يا أبا العاص، إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله وصهره، فهل لك أن تسلم، ونحن ننزل لك عن هذا المال كله فتنعم بما معك من أموال أهل مكة وتبقى معنا في المدينة؟”

فقال: “بئس ما دعوتموني أن أبدأ ديني الجديد بغدرة.”

مضى أبو العاص بالعير وما عليها إلى مكة فلما بلغها أدى لكل ذي حق حقه، ثم قال:

“يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟”

قالوا: “لا وجزاك الله عنا خيرا، فقد وجدناك وَفِيًّا كريما.”

قال: “أما وإني قد وفيت لكم حقوقكم، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

والله ما منعني من الإسلام عند محمد في المدينة إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم.

فلما أداها الله إليكم، وفرغت ذمتي منها أسلمت.”

ثم خرج حتى قدم على رسول الله، فأكرم وفادته ورد إليه زوجته، وكان عليه الصلاة والسلام يقول عنه: “حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي”.


التعليقات