هل يمكن أن نقود حياتنا بعقولنا بعيدًا عن الوحي؟

قضية العلاقة بين العقل والنقل من القضايا التي شغلت المفكرين المسلمين على مر الأزمان، ولا زال صداها يتردد حتى الآن، ومن المصطلحات التي ارتبطت بتلك القضية: العقل الجمعي والرشد الإنساني.

ومما يلفت النظر إصرار دعاة تجديد الخطاب الديني على استخدام المصطلحات التي تشير إلى النظريات الغربية التي تعلموها في محاولة منهم لفرضها على الأذهان كحقائق وأسس علمية وما هي إلا آراء انتقدها علماء الغرب أنفسهم. يقول الدكتور نصر أبو زيد في رسالته عن الإمام الشافعي: «ومما يتصل بعدم الفهم المشار إليه مسألة “صياغة الذاكرة” في عصر التدوين، وهو مصطلح يبدو غائبًا تمامًا في وعي كاتب التقرير رغم إشارتنا إليه في صلب الكتاب أكثر من مرة، وصفًا للعصر الذي أنتج الإمام الشافعي فيه خطابه أو هو مفهوم مشتق – كما أسلفت الإشارة – من “نظرية الاتصال الثقافي” يجعل الكتاب من خلاله حقيقة الصراع بين “أهل الرأي” و”أهل الحديث” على أساس أنه صراع حول برنامج تدوين الذاكرة الجمعية للأمة: هل يتم بناء العقل الثقافي طبقًا لآليات الحفظ والتدوين. أم وفقًا لفاعلية الاستنباط والاستدلال.

وبعبارة أخرى: هل تكون ” النصوص” هي الإطار المرجعي الأول للعقل الجمعي، أم يتحدد الإطار المرجعي في فعالية الاستنباط والاستدلال؟

ومصطلحات “العقل الجمعي” و”الذاكرة الجمعية للأمة” و”العقل الثقافي” تعود بنا إلى الفترة ما بين عام 1858 م وعام 1917م وهي الفترة التي عاشها دور كايم ذلك اليهودي الفرنسـي الذي تخصص في علم الاجتماع وله فيه كتب من أشهرها “مقدمة في على الاجتماع”. وقد أخذ دور كايم عن دارون التفسير الحيواني لإنسان، ومدده ليغطي ميدان العلاقات الاجتماعية… وخلاصة آرائه أن الكائن البشـري محكوم “بنزعة القطيع” التي تحكم عالم الحيوان وتسيره دون وعي فيه ولا إرادة.

ولئن كان فرويد قد قالها دون مدارة، حين زعم أن البشرية الأولى قتلت أباها الأول لتستولي على الأم، مستندًا إلى أن قد قال مثل ذلك في عالم البقر. فإن دور كايم لم يشأ أن يستخدم المصطلح الحيواني مباشرة فلم يسمها – في عالم الإنسان – “نزعة القطيع”، وإنما سماها “العقل الجمعي”، ونسب إليها في عالم الإنسان كل ما ينسب في عالم الحيوان إلى نزعة القطيع.

ويعرّف العقل الجمعي بأنه شيء كائن خارج عقول الأفراد، ليس هو مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقًا لعقل أحد منهم ولا لمزاجه الخاص (عقل من هو إذن؟!). وأنه يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم، ولا يملكون إلا أن يطيعوه ولو على غير إرادة منهم! ثم يقول إنه دائم التغير.. يحل اليوم ما حرمه الأمس.. ويحرم غدًا ما أحله اليوم.. بلا ضابط ولا منطق معقول!

ويقول – وهو بيت القصيد -إنه لا يمكن من ثم تصور ثبات شيء من القيم على الإطلاق لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد! وإن النظر إلى هذه الأمور على أنها أمور قائمة بذاتها هو تفكير غير معقول. يقول: كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزاعات ليست فطرية في الإنسان!

ولنقف مع التساؤل الأخير للدكتور «هل تكون النصوص هي الإطار المرجعي الأول للعقل الجمعي، أم يتحدد الإطار المرجعي في فعالية الاستنباط والاستدلال؟». فالدكتور وضع النصوص، القرآن والسنة، وشروحهما (أي الأصلية والثانوية) في مقابلة الاستنباط والاستدلال، ولم يقل سلطة النصوص، بل قال النصوص، ولم يفرق بين النص الأصلي (القرآن) والنصوص الثانوية.

ومرة أخرى يهدم الدكتور نظريته، فالاستنباط يستلزم مستنبطًا منه، والاستدلال يستلزم دليل. وهذا الذي اتفق عليه أهل الحديث، وأهل الرأي: أن النصوص لا تستغني عن العقل، والعقل لا يستغني عن النصوص. فكما أن النصوص هي التي تحث الإنسان على استثمار العقل في فهم وتدبر الوحي والاجتهاد في تطبيقه، كذا العقل لا يستغني عن النصوص، وكيف يستغني وهي التي تدله على تفاصيل المصالح، وترشده إلى طريق الفلاح في الدنيا والآخرة.

إلا أن العصرانيين يزعمون أننا يمكن بعقولنا وحدها أن نقود حياتنا، وأن النبوة قد ختمت بعدما وصل العقل إلى الرشد الإنساني. ويعطونه الحق في أن يسن القوانين، ويشرع الشرائع، ويحلل ما يستحسنه ويحرم ما يستقبحه. ولا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح، فإن الله قد فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح. وركب في عقولهم إدراك ذلك، والتميز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار، والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتميز بين أنواعه.

والفطرة الأولى – وهي فطرته العباد على الفرق بين الحسن والقبيح – هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات، وأما الفطرة الثابتة – وهي فطرته للعباد على الفرق بين النافع والضار – فمشتركة بين أصناف الحيوان.

والذي ينبغي أن ينازع فيه أمور:
الأول: أنّ هناك أمورًا هي مصلحة للإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها بمجرد عقله؛ لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته، فمن أين للعقل معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته..؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومن أين له معرفة تفاصيل محبته ورضاه، وسخطه وكراهيته؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يظهر الله عليه أحدًا من خلقه إلا من ارتضاه من رسله، إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته.

الثاني: أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع، وإن أدركت التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكًا كليًا شاملًا. فالعقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد.

الثالث: أن العقول قد تحار في الفعل الواحد، فقد يكون الفعل مشتملًا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة. وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك، وتأني الشرائع ببيانه، فتأمر به من هو مصلحة له، وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقه. وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشـرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة، والمفسدة الراجحة. وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية: “الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول”.

الرابع: ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحًا فإنه ليس إلا فرضيات، قد تجرفها الأراء المتناقضة، والمذاهب الملحدة. ولو استطاعت البقاء -في غيبة الوحي- ستكون تخمينات شتى، يلتبس فيها الحق بالباطل.


التعليقات