الوطنية المصرية بين الهوية الإسلامية و الديموقراطية الغربية

 (تعليق على مقال د. مصطفى الفقي بعنوان :حول المشروعات المطروحة للمصالحة الوطنية في جريدة الأخبار بتاريخ 15 / 2 / 2016 )
 
تميز مقال الفقي بالصراحة في توصيف الحالة المصرية ، حيث جزم بأن الخلاف في الحالة المصرية – شديدة التعقيد – ليس سياسيا فقط ، و لكنه عقائدي أيضا .
مستشهدا بكلام السيسي في لقاء صحفي أجنبي ،من أن كل القوى المتصارعة سياسيا في مصر هي قوى مصرية تنتمي إلى الوطن ، و تنتسب إليه ، و لكن المشكلة كانت و لا تزال في (( تحديد هوية الوطن المصري )) .
 
و لما كان الخلاف في تحديد الهوية ، فلم يكن هناك ما يدعو إلى الاستشهاد الذي قام به بمحبة النبي – صلى الله عليه و سلم – لوطنه مكة ، أو بآيات القرآن التي تدل على عدم إنكار الروابط القبلية و الشعبية ، لأن هذا لم يكن محل الخلاف ، فكل الأطراف المختلفة تجعل من حبها للوطن ، و تمسكها بهويته مبررا لما تقوم به ، و لكنها المزايدة و إهدار الآخر .
 
إلا أن صراحته أوقعته في تناقض صارخ عندما احتج على الإسلاميين بأن ( النص النظري لمفهوم الأممية الإسلامية لا يتعارض أبدا بالتمسك بالوطن و الحرص على هويته ) ثم يعلق قبول المصالحة مع الإسلاميين المعارضين على مراجعتهم لمواقفهم ، و قبولهم بالديموقراطية الغربية ، و إيمانهم بأن الأمة مصدر السلطات .
 
فهل أيضا مفهوم الأممية الإسلامية لا يتعارض مع الديموقراطية الغربية ؟!
و كيف تقبل الشريعة الإسلامية بأن تكون الأمة مصدر السلطات ؟!
فالسلطات ثلاث : تشريعية ، و قضائية ، و تنفيذية ، و لا نزاع في أحقية الأمة في اختيار من ينوب عنها في السلطتين القضائية و التنفيذية ، و إنما محل النزاع بين الإسلاميين و العلمانيين هو في مصدر السلطة التشريعية ؛ فالإسلاميون ينازعون من أجل استعادة هيمنة الشريعة الإسلامية على شؤون الحكم و الحياة ، ملتزمين بأحكامها فيما فيه نص ، و بقواعد الاجتهاد الشرعية فيما لا نص فيه .
 
فكما أن الخلق خلق الله ، فالأمر أمره ؛ ( ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين )
فلا حلال إلا ما أحله الله ، و لا حرام إلا ما حرمه الله ، و لا دين إلا ما شرعه الله .
بينما يسعى العلمانيون لتثبيت الوضع القائم بفعل الاحتلال ، و الإبقاء على تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم و القضاء ، و جعل السلطة التشريعية للأمة ، مثلها مثل السلطتين القضائية و التنفيذية ، ملتزمين بقواعد الديموقراطية الغربية ، فلا دين في السياسة ، و لا سياسة في الدين ، معتبرين أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية فرض لكهنوت رجال الدين ، و ارتداد للعصور الوسطى المظلمة حين كانت تحكم أوروبا بتحالف استبدادي بين الإقطاع و الكنيسة ، متغافلين عن أنه لا كهنوت في الإسلام ، و لكنها حملات التغريب تؤتي أكلها .
 
إن تحكيم الشريعة الإسلامية هو المعبر عن الهوية الإسلامية للوطن المصري التي يسعى الإسلاميون لاستعادتها كاملة غيى منقوصة ، أما الديموقراطية الغربية فهي المعبر عن الهوية العلمانية التي يريد النظام الحاكم تثبيتها .
و إن دعوة الفقي – و من وراءه – الإسلاميين للإيمان بالديموقراطية الغربية ، التي عدها معيارا للوطنية الصادقة – بزعمه – اكثر من كونه ( مخزونا حضاريا للمصريين جميعا بلا استثناء ) ما هي إلا استجابة لتوصيات تقرير راند الأمريكي الذي كان بعنوان : (( بناء شبكات إسلامية معتدلة )) ، و الذي وضع شروطا للإسلام المعتدل على رأسها : الإيمان بالديموقراطية الغربية ، و التخلي عن فكرة تحكيم الشريعة الإسلامية ، و إلا كان أصوليا متطرفا .
 
إن هذا الإكراه في الديموقراطية ، لا يرضاه الإسلام الذي رفع شعار :
 
(( لا إكراه في الدين و جعل الشريعة الإسلامية نظاما حاكما مؤسسا على وحي إلهي ، يحمي من استظل بمظلته من إكراهات الأنظمة الوضعية ، المؤسسة على آراء و أهواء حفنة من البشر يستعبدون بها الناس ، و هل ابتعثنا الله – نحن المسلمين – إلا لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان ، كما قال ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس عندما سأله من انتم فأجاب : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا و الآخرة ، و من جور الأديان إلى سعة الإسلام .
إنه لا عدل إلا في شريعة الإسلام ، و لن يمكن أن تكون الديموقراطية الغربية معيارا للوطنية الصادقة ، بل هي العبودية للغرب ، بديلا عن العبودية لله ، المتمثلة في الطاعة له ، و الانقياد لشريعته .
 
إن التشكيك في ثوابت الإسلام كالخلافة و تحكيم الشريعة من خلال إيهام الناس أن هذه الأفكار خاصة لجماعة لا تمثل الإسلام ، و أن الطعن في هذه الأصول ليس طعنا في الإسلام ، هو في الحقيقة مناورة رخيصة لم تفلح – و لن تفلح – مع شباب مسلم يقرأ كتاب الله ، فيخبره أن الإنسان خليفة في أرض الله يعمرها بشرع الله و يُحكم بين الناس بمقتضاه ، قال الله – تعالى – ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) ، فالعدول عن الحق الذي انزله الله في كتابه ( و بالحق أنزلناه و بالحق نزل ) هو الهوى في مقابل الشرع ، و الضلال في مقابل الهدى .
و أخيرا :. لن تفلح محاولات التقية السياسية التي تخاطب الغرب في صحفهمظهرة حقيقة الصراع حول الهوية ، ثم تخفيه في خطابات الداخل ، تاركة دور تأسيس العلمانية ليقوم به كهنة الإعلام . و ما ذاك إلا لأن الشباب دفعوا ثمن وعيهم بمخطط التغريب و العلمنة باهظا بما يكفي ، سلوا عن هذا الثمن إن شئتم أمهات الشهداء و المعتقلين و زوجاتهم قبل آبائهم و أبنائهم .
 
لقد أعلن الشعب المصري عن هويته الوطنية المؤسسة على دين مصر الرسمي بقوله : الشعب يريد تطبيق شرع الله .
و بذل في سبيل ذلك النفس و النفيس ، و استنصروا بالله على من استنصر بالغرب و الشرق ، ( و كفى بربك هاديا و نصيرا ) .
 
و أخيرا :. لن تفلح محاولات التقية السياسية التي تخاطب الغرب في صحفه مظهرة حقيقة الصراع حول الهوية
 
و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون .

التعليقات