الاصطفاف

يقول الله تعالى : {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} فالاصطفاف القوي المتماسك واجب شرعي لا يتخيل تحقيق انتصار بدونه . ولعل أغلب المعارك التاريخية انتهت بالانتصار للفريق الذي أحسن الاصطفاف ونجح في تفريق صفوف أعدائه .

والموضع الوحيد الذي يفشل فيه الاصطفاف هو عندما يكون ضد الحق كما قال تعالى عن غزوة الأحزاب : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } ، وكما قال تعالى :{وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }. ، فعندما يكون الحق هو المقصود والاصطفاف هو السبيل يكون النصر بإذن الله

***
وكل اصطفاف له أسئلته ، مع من؟ ضد من؟ على أي أرضية؟ ، والإجابة هي التي تحدد شكل المعركة واتجاهها وهويتها .
وعلى سبيل المثال الحزب الإسلامي المحسوب على الإخوان في العراق قرر بعد الإطاحة بصدام الدخول في اصطفاف مع أمريكا و إيران – كممثل للسنة – ضد الحركات الجهادية، ولكن نهاية هذا التحالف كانت الاستغناء عنه بعد فقدانه رصيده واستنفاذ مهمته وانتهى الأمر بطارق الهاشمي منبوذا مع حكم بالإعدام . وهذا لأن هذا الاصطفاف قامت فكرته على إعطاء الحزب تمثيل مقابل إضفاء الشرعية لهدف هو القضاء على الحركات الجهادية ، فعندما ضعفت الحركات الجهادية انتهى هدف الاصطفاف وتم الاستغناء عن الحزب .
فالإجابة على أسئلة الاصطفاف وتحديد أهدافه وأرضيته هي التي تحدد حقيقته ونتائجه.

ونبدأ بأهم سؤال وهو على أي أرضية؟

الإجابة المتداولة في المشهد المصري حاليا هي ، على أرضية ٢٥ يناير ، ولكن عند العودة إلى أرضية ٢٥ يناير نجد أنها كانت أرضية مؤقتة ومحددة في عدم رفع أي شعار سياسي أو فكري حتى الإطاحة بمبارك وعدم النقاش فيما بعد ذلك ، وهذه الأرضية نجحت بالفعل في الإطاحة بمبارك ولكنها أفرزت نزاع داخلي في أطياف هذا الاصطفاف بعد ذلك عندما استحوذ الإسلاميين على النسب الكبرى مما دفع البقية إلى اعتبار ” اصطفاف ٢٥ يناير دون إلزام الإسلاميين وتشكيل المشهد سياسيا خطأ لا يمكن تكراره” ، ودفعهم هذا للمشاركة في إسقاط الإسلاميين بدعم من الجيش .
فنحن إذا لا نشهد حاليا محاولة اصطفاف على أرضية ٢٥ يناير ، لأن أرضية ٢٥ يناير كانت إغلاق باب المستقبل وتغييب المكاسب السياسية وليس فتح حوار المستقبل واعداد وثائق يتنازل فيها الإسلاميون بدعوى استعادة الثقة .

***

الأرضية المطروحة حاليا – إذاً – ليست أرضية ٢٥ يناير كما يروج لها بل هي نقيضها تماما ، وهي لا تنطلق من العودة إلى ٢٥ يناير أكثر من كونها محاولة ليبرالية لحل أزماتها فيما بعد ٢٥ يناير وفقط ، وهذه الأزمات يمكن تلخصيها في محورين: الأول : الفشل الجماهيري في أي استحقاق ، والثاني: انهيار المصداقية بعد جريمة ٣٠/ ٦ ، وهي أزمات كفيلة بإسقاطه مستقبليا في حال سقوط السيسي دون حلها ، وأغلب أطروحات الاصطفاف الحالي قائمة على حلها بلا مقابل.
فهل هذا ما تحتاجه الثورة؟ وما الفائدة العائدة على الشعب وعلى مسار الثورة من هذه الأرضية؟

***
أضف إلى ما سبق أن أرضية ٢٥ يناير كما نجحت في إزاحة مبارك تسببت في إشكاليات أفرزت لنا ٣٠/ ٦ ، وهي قصر المشكلة في الرأس دون الجسد ، وفقدان الرؤية أو الحس الجماهيري لجوهر الخلل مما انعكس على غياب الأهداف المحددة والآليات الحاسمة ، وهذه الإشكاليات في أرضية ٢٥ يناير هي التي أدت إلى انتصار الثورة المضادة ثم فشل جهود التجميع ثم في النهاية التماهي مع اصطفاف يائس من غير أجندة.

إذاً، على أي أرضية يكون الاصطفاف؟

من الممكن تحديد ثلاث محاور ترسم الرؤية الصحيحة لأرضية الاصطفاف :

المحور الأول: الهوية الإسلامية : وهذا لعدة أسباب منها:

– أن الثورات تحتاج لإطار فكري وأخلاقي للإصلاح ، وأن هذا الإطار لا بد أن يُستمد من هوية الأغلبية ، دون هضم للأقليات ، ومع رؤية تفصيلية ومقبولة مجتمعيا للبناء ، بالإضافة إلى أرضية تحمله وتتضحي من أجله.

– أن الانقلاب الحالي ذو أيدلوجية علمانية تهدف لإقصاء الفكرة الإسلامية وتجفيف منابعها في المجتمع ، وأن هذه الفكرة هي التي وحدت الجهود وحافظت على جذوة الثورة لعامين ويزيد ، وهي التي أعطت بعدا مقدسا للتضحيات الباهظة ، فأي اصطفاف رافض لهذه الفكرة سيفكك الاصطفاف الحالي وسيفقده قدرا كبيرا من جذوته ، مما يعني تفتيت القوة الصلبة والتخلي عن الاسقاط الحقيقي للانقلاب.

– أن رفض التيارات الليبرالية الاعتراف بالمرجعية الإسلامية وإصرارها أن يتبرأ التيار من رؤيته للإسلام كمنهج حياة لقبوله هو من أهم أسباب تفكك الميدان ، وهذه الفكرة نشأت بعد التنحي بشكل مخابراتي مقصود أبعدت هذه التيارات عن الإسلاميين ، وهذا عكس روح ٢٥ يناير التي تصدت لمحاولة النظام اللعب على وتر الهوية بالتأكيد عليها وعلى احترام الإسلاميين وقتها، ومن الممكن مراجعة كلام د.رفيق حبيب عن هذا فهو موسع ويؤكد أن ٢٥ يناير كانت الهوية الإسلامية سر قوتها.

– أن الزخم المتصاعد والفاعل في الشارع هو الشباب الإسلامي ، وهو زخم أثبت أنه لا يتوقف مهما ارتفعت سقف التحديات ، وهذا الزخم كان ساخط على مشهد ما بعد ٢٥ يناير رغم حيازة الإسلاميين للأغلبية لعدم قبوله بالسقف المنخفض وقتها ، فالتوهم أنه بعد أن قدم هذه التضحيات وقطع هذا الشوط وبعد موقف التيارات المدنية في ٣٠/ ٦ وبعد فشل التجربة السابقة سيقبل باصطفاف يرفض الهوية في أرضيته هي أوهام غير مسئولة ، خلاصتها سحب الغطاء السياسي عن الشباب الإسلامي مما يعقد المشهد أكثر ويرسم لفترة أكثر تعقيدا من الحالية .

المحور الثاني: الخروج عن الهيمنة الأمريكية : وهذا لأسباب:

– أن الثورات في حقيقتها تغيير لموازبن القوة لصالح الشعوب ، ومن المعلوم أن الأنظمة العربية خاضعة للنفوذ الأجنبي ، وصل بالبعض أن يقول أن رئيس مصر القادم هو من تحدده أمريكا” ، وهذه الهيمنة ليست بالشكل الساذج الذي يتوقعه البعض أنها من خلال وكلاء إذا تم اسقاطهم سقطت ، فهذه الهيمنة مسيطرة على مفاصل الاقتصاد والسياسة والإعلام والجيش ووفق اتفاقات ومواثيق محكمة تمثل أعمدة وبنيان يقوم الوكيل بإدارتها ، فتغيير الوكيل لا يسقط البنيان ، فضلا أن التمسك بالعلاقة مع السيد الأجنبي هو في الحقيقة تمسك بالعبودية له ، ولذلك فأي نظام تنتجه الثورة في ظل الهيمنة لن يحقق إلا الوهم للشعوب وفقط.

– أن الهيمنة الأجنبية هي أصل الخداع والمكر وهي قائمة على استغلال الشعوب وسرقة مواردها بلا مقابل ، فالتعامل معها باعتبار النزاهة والثقة هو سذاجة منقطعة النظير فضلا عن وهم خداعها ، والتدخل الأجنبي في ثورات سابقة أفرز أنظمة أشد ولاءً ونفعا لها ، فالتوافق مع الرمزيات التابعة لها وشروطها وصمامات أمانها هو توسيع للهيمنة لتشمل معسكر المعارضة بالإضافة إلى معسكر السلطة بلا ضمان حقيقي بأي شيء .

– أن موارد البلد خاضعة لهيمنة الشركات أجنبية ، وكما ذكر المفكر روجيه جارودي عن أمريكا أنها قد تعتبر عدم الالتزام بقرض صندوق النقد الدولي سببا كافيا للحرب لأن شروطه تُحكم هيمنتها الاقتصادية ، فالتفكير في أي إصلاح اقتصادي حقيقي دون كسر الهيمنة وهم خاصة وأن إضعاف الدولة وإفشالها هدف استراتيجي خدمةً للكيان اللقيط .

المحور الثالث: تطهير منظومة الفساد المؤسسي: فالنظام نجح في استعادة رأسه لأنه حول المؤسسات إلى معسكرات تتحكم فيها عائلات وعصابات، مما جعل الفساد متجذر ومترابط وممنهج ومنظم . يجعل تأمين هذه المؤسسات أو محاولة التصالح معها عبث وهو تصالح مع النظام بشكل آخر. والثورات التي لا تقوم بتطهير المؤسسات محكوم عليها بالفشل

****
هذه القضايا هي الإجابة الثورية على سؤال على أي أرضية يكون الاصطفاف ؟ ،
أما الانطلاق من القبول والتسليم بالواقع العلماني ، الأجنبي ، العسكري في مقابل ما بُسمى رجوع الجيش إلى ثكناته، هو خلق لشكل مدني يقوم بدور العسكر حاليا كواجهة ، في مقابل البقاء ، مع بعض الشعارات كخداع لأنفسنا ، وهو ما يعتبر حصار للثورة لصالح مراكز القوة .

والله الهادي لسواء السبيل


التعليقات