كان مره واحد اسمه عمر

أول مرة ارتأته عيناي كان ولداً صغيراً نير الوجه واسع العينين، يلبس قميصاً أبيض ناصعاً مهندماً، ربعة إلى القصر أقرب، ينسى كثيراً ولا يتكلم إلا قليلاً.. وعلى وجهه ابتسامة عجيبة كأنها خُطت مع ملامحه الجميلة يوم خلقه الله، وحمرة خجولة لم يفقدها حتى وهو رجل يافع شديد البأس..

ثم تقطعت بي أزمان رؤيته ولقائه بحسب لقاء والده الكريم، الرجل الوقور الصبور المتخفف من الدنيا، ذلك الوقور المشيب الهاديء الحديد الذي قضى جل حياته في الدعوة إلى الله في بقاع الدنيا والإماكن النائية وكان على رأس أولوياته مقاومة التنصير، كما تسيطر على جل تفكيره مناظرة الرافضة ودحرهم في كل موطن..

وكم كان يحب شيوخاً ملئوأ الدنيا ضجيجاً بكلمات ربما حركت مكامن نفسه الطاهرة وأثارت أشجانه غير عابئ بنقائصهم ولا هناتهم ولا ما يقال عنهم ولا ما يراه من تقصيرهم في حق الأمة والملة

في هذه البيئة نشأ عمر الفاروق ، بين أم كريمة لا يشغلها شيء مثل إعانة الفقراء وإطعام المساكين، ووالد قد عقد عزيمة أمره ومعقد رشده على بيع النفس والولد لله ولدينه.. عهدته مذ عرفته وهو يعد مشاريع للشهادة ونصرة الدين يدفع ببنيه في كل موطن للخير، حتى كانوا جميعاً مثالاً لكلمة الله التي يجعل في أعقاب عباده المؤمنين؛ لكنه ومن بينهم كان دائماً ما يتبدى هذا الصامت الصامد..

نعم كان خجولاً وكان حيياً وكان صامتاً وكان نسياً لكنه كان كذلك متحدياً وأبياً يصارع شيئاً ما هناك في الخفاء ويتصدى لعدو ما هناك في العلن ، وما بين منطقتي الخفاء والعلن وفي حيز ما بين الغيب والشهادة وفي مساحة ما بين الشروق والمغيب ، كانت ترتكز الحقيقة؛ حقيقة فتىً عقد عزمه ومضي..

رأيته باكياً وهو يمثل مشهداً عن غزة يصور فيه شاباً لاهياً غافلاً عن طريق الله ، ثم استفاق ليهرع إلى الله ويسير في درب الشهادة وهو يصرخ طالباً من الله التوبة والقبول فيعض أصابع الندم ويعض كل بنان وقد غفل عن حقيقة موقفه بالكلية واستجاب لربه استجابة من اعتاد مناجاته والإقبال عليه بالامتنان، فطار عقله حتى كأنه غفل عن نفسه وتاه عن ذاته ليرتكز على ركبتيه ودموعه تهراق فقد كسرت في نفسه الدنان. هيه يا عمر ؛ أما ما حدث بعدها فشتان..

كان مراسل موقع حكاية كاميليا و اقتحم في سبيل مهمته كل وعر ولم يترك مرة إلا شارك فيها رحمه الله، ثم كان من أبرز من ينقل ويصور كل مواقع الحرية ومنازع النضال في بلاده التي طالما أحبها في ثورة جاءت لترويه بماء الحرية وتسقيه ماء الكرامة ليحيا الله بها يباب نفسه بعد استيقان موتها في قفر أرضها.

“لستم شيوخي” قالها عمر الفاروق وما أدراك من عمر الفاروق ولا ما ديار الفاروق، شيوخي هم من قالوا للظلم لا وفارقوا قومهم لدينهم لا لمصلحتهم ولا لجماعتهم ولا خيبتهم وضيعتهم

وكم كان يحب شيوخاً ملئوأ الدنيا ضجيجاً بكلمات ربما حركت مكامن نفسه الطاهرة وأثارت أشجانه غير عابئ بنقائصهم ولا هناتهم ولا ما يقال عنهم ولا ما يراه من تقصيرهم في حق الأمة والملة ، فلم يحمل الضغن لأحد فضلاً عن هؤلاء وهم من هم في قلوب الناس ، كم كانت نفسه رائقة لا تعرف الشوب ولا تقارف العيب .. لكنه هاله ما رأى من خذلانهم الحق في مواطنه فانطلق ليلقي إليهم عهدهم على سواء ويتركهم كما تركوه وتركوا المؤمنين ليموتوا هناك في رابعة وما أدراك ما رابعة وما أدراني ما رابعة وما درى الناس ما رابعة ؟! هناك حيث النار ذات الوقود بين العسكر والجنود ويكأنها أصحاب الأخدود هناك حيث فرعون وثمود ، حيث فُتن المؤمنون فُقتلوا ثلاثة آلاف أو يزيدون، هناك وقف الليث غضوباً لا يصده شيء وقد استودعنا وصيته الأخيرة إلى بعض مشايخه في الأزهر ممن خانوه وخانوا الأزهر، إلى بعض من حملوه ما حسبه من الكتاب وما هو من الكتاب ، لكنه سطر في كتاب الظلمة ،  وقد حُملوا الآيات فلم يحملوها فحملوا أوزارهم كاملة، إلى الذين حدثوه يوماً عن الجهاد والشهادة ونصرة الدين والريادة ، ثم باعوه هناك وخذلوه وتاجروا بالدين إذ تحالفوا مع من تاجر بالدماء ، فكتب لهم وصيته ليستودعها التاريخ ويسطرها بمدام لا يمحوه الماء إذ هو الدماء.

“لستم شيوخي” قالها عمر الفاروق وما أدراك من عمر الفاروق ولا ما ديار الفاروق، شيوخي هم من قالوا للظلم لا وفارقوا قومهم لدينهم لا لمصلحتهم ولا لجماعتهم ولا خيبتهم وضيعتهم، شيوخي هنا في الميدان إخواني وخلاني، شيوخي هم عهد الحسين وورثة الأوزاعي وسلسال بن حنبل ودماء النفس الزكية..

لذا كان يجعل من نفسه خادماً لكل واحداً فينا كبيراً او صغيراً وسيد القوم خادمهم يا خادم القوم بل سيدهم ، كان يخدم العلم الذي احتملوه والحق الذي ضحوا من أجله والدين الذي أحبه فيهم ومنهم يوم أحبوه .. ضاحكه رفاقه هناك في رابعة وفي ساح طيبة مول حيث حلقت الخُضر الطيور فقالوا له قبل كربلاء الرابعة وحسينية رابعة الرائعة ببضع ساعات:- مالك تنام وتقول أنك تستعد لصباح دام يُفض فيه الميدان ؛ ما نراك إلا تفر ، فنظر في وجوههم كالغضوب وكاد أن يقول كلمة يُظهر فيها إقباله فكأنه استحى من الله فقال :- غداً نرى من يفر ومن يستقر ومن يقبل ومن يدبر ، فلقي الله هناك فأقبل عليه ولطالما اشتاق إليه ، فوقف هناك غير هياب ولا وجل ليقول لقناة القدس على الهواء إنهم يقنصوننا بالرصاص الحي ، وإني لأظنني مقتول الآن فقتلوه ليموتوا هم يوم ماتت قلوبهم ويبقى هو الحي..

وكفاني يا فاروق ما بي من ألم هيجه تقرير لجنة إخفاء الحقائق التي أهدرت دمائكم مرتين ، وكاهن خائن خرج ليبيع دينكم وحقكم مرتين ، وإني لا أدري أيهما أشد عليكم ؛ أبيع الخؤون أم قتلة الجبون ؟! واهاً لريح الجنة تجدها هناك ونشمها مسكاً في ثناياك ويا فقد من فقدك وافتقد حسك أو قطع بعد الشهادة رحمك ولعن الله قاتليك ولعن الله قاتلي اخوتك ولعن الله فرقة قتلتكم أو حرضت على قتلكم وكشفت حريمكم ويتمت عيالكم .. إلى الله فامضوا خلوداً ولا ضير ولا تبأسوا بعدها فهي هي لا غير .. وتكفيكهم يومئذ الغرفات يا عمر والقناديل، والطير الخضر عارفة وظلال العرش لا ضير وارفة، وعيون الحور ذارفة، بل وصحبة الرسول والأُلى العدول ومعراج الوصول..

كتبه أخوك وخادمك يا سيدي يا عمر


التعليقات