آيات الصيام… و علم المناسبة

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

بدأ سياق آيات الصيام بالتوجيه العام للأمة لتحقيق البر، بمعناه الجامع لكل أعمال الخير التي يسعها عمر الأمة المسلمة، لتحقيق غلبة الخير المحققة لبقائها وحمايتها من الهلاك وتلك هي مناسبة آيات البر في السياق: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177].

والبر من الاتساع، ومنه البَرّ الذي يسع اليابسة، والاتساع هنا هو ما يسع حياة المسلم والأمة.

وباعتبار أن “الإنسان” المسلم هو أساس امتداد الأمة، كان المعنى الإنساني هو المفسر لحقيقة البر: عن وَابِصَةَ بن مَعبدٍ قَالَ: أتَيْتُ رَسُول الله- -، فَقَالَ: «جئتَ تَسْألُ عَنِ البِرِّ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البرُّ: مَا اطْمَأنَّت إِلَيْهِ النَّفسُ، وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإثْمُ: مَا حَاكَ في النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ وَأفْتُوكَ» (1).

وقال : «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِى نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاس». رواه مسلم.

ومن هنا جاء البر ضمن ثلاث ضمانات لحياة الإنسان المسلم في قول رسول الله- -: «لا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلا الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»(2).

ومن العلاقة بين البر والحياة تأتي المناسبة مع الآية التي بعدها وفيها حكم القصاص في سياق تحقيق أسباب بقاء الأمة وحياتها باعتبار أن القصاص حماية لحياة الأمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ . وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:178-179].

وبعد آيات القصاص يأتي حكم الوصية بالمواريث المنظمة للعلاقة بين الرزق والأجل وهما البعدان الأساسيان لحقيقة الحياة، باعتبار أن الميراث هو ارتباط الرزق بالأجل، لأنه انتقال بالرزق من الأموات إلى الأحياء: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ . فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:180-182].

أما المناسبة بين الوصية عند الموت وشهر رمضان فهي “الشهادة” التي تقوم الأمة على تنفيذها في الوصية، وهي التي تبدأ بها الأمة صيام شهر رمضان، فإذا حضر أحد الموت وأوصى شفاهة بوصية وشهد بسماعها أحد من المسلمين يصبح تنفيذ هذه الوصية مسئولية الأمة بقضائها وسلطانها. وكذلك إذا شهد شاهد من المسلمين برؤية الهلال.

وشهادة الأمة جاءت قيمتها من شهادتها بوحدانية الله، لأن الشهادة بالوحدانية هي التي تقوم بها العدالة وقبول الشهادة، ودليل ذلك قول الله : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:18]، فشهادة التوحيد قيام بالقسط ومنها تكون الشهادة بين الناس، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة:8].

ومن هنا كان تأكيد رسول الله على الإقرار بالشهادتين في قبول شهادة الرجل الذي رأى الهلال، كما وردَ عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.. قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلَالُ: أَنْ يَصُومُوا غَدًا»(3).

وبذلك يكون قد ثبت في السياق معنى البر كحقيقة شرعية إنسانية يقوم عليها بناء الأمة

كما ثبتت قيمة حياة الإنسان المسلم من خلال حكم القصاص. ثم ثبتت قيمة الإنسان المسلم ذاته من خلال”الشهادة”، لتأتي آيات الصيام في نفس السياق بمحوريه الأساسيين. المسلم والأمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فالصيام عبادة ممتدة مع حياة الأمم كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا.

وقول الله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هو المناسبة بين معنى البر وآيات الصيام، وذلك من خلال الربط القرآني بين البر والتقوى ومنه قول الله : ﴿وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة:2] وقوله سبحانه: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:224].

وكذلك قول الرسول- – فيما رواه مسلم: «اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ فِى سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى».

وتفسير التجانس بين حقيقة البر والتقوى هو أن كلاهما من المراقبة القلبية في العمل ولكن البر يكون بمراقبة النفس والتقوى تكون بمراقبة الله.

﴿أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

﴿أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ لأن التعبد يقتضي الحفاظ على حياة المتعبد ذاتها فكان الصوم فقط ﴿أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾، وإن كان مرض أو سفر: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

ومن هنا كان التعامل مع طبيعة الإنسان وقدرته بدقة متناهية ومن هنا جاء التعبير عن المشقة في الصوم بقوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ أي: يستطيعون الصيام ولكن بمشقة زائدة عن الآثار الطبيعية للصوم.

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ فالزمن والوقت الذي أنزل فيه القرآن يقتضي الصيام لأجل معايشة حقيقة نزول القرآن.
ومن هنا كان ربط رسول الله- – بين الصوم ونزول القرآن بصيام يوم الاثنين: عن عمر ابن الخطاب قَالَ: «يَا رَسُولَ الله صَوْمُ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ؟ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ النُّبُوَّةُ». رواه مسلم وأصحاب السنن.

﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ حقيقة الهداية الذاتية في القرآن.

﴿بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى والْفُرْقَانِ﴾ البينات التي يتبينها الإنسان من القرآن.

أما الفرقان فهو إحساس المفاصلة بين الحق والباطل الذي يتولد داخل كيان الإنسان، يقول ابن كثير: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه، ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام”(4).

فالقرآن هدىً في نفسه، وهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان لمن تدبره من الناس، وبذلك يثبت معنى ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ كتفاعل إنساني مع الهدى الذاتي للقرآن.

والفاعلية القرآنية في الإنسان لا تقف عند حد البينات والفرقان بل تمتد إلى طبيعته الإنسانية ذاتها.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا وذلك قوله : ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا…﴾ [التين: 5، 6] قال: إلا الذين قرؤوا القرآن (5).

وقال عبد الله بن مسعود : «قال رسول الله- -: ما أصاب مسلماً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك و ابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضائك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي و جلاء حزني و ذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحاً، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلم هذه الكلمات؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن». رواه أحمد والحاكم.

ولكن مقام النبوة هو المقياس النهائي للفاعلية القرآنية الناشئة عن تدبر القرآن. وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عباس قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- – أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- – حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ».

حتى بلغ معنى تدبر القرآن أن يكون ضرورة حياة النبي- -، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله- – قال لفاطمة- رضي الله عنها: «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ، الْعَامَ، مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أَرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ» متفق عليه.

عارضه مرتين لأنه كان سيعيش دون أن يدرك رمضان المقبل، فلأجل هذه الأيام التي سيعيشها دون أن يدرك رمضان المقبل عارض جبريل الرسول القرآن مرتين. فكانت مدارسة القرآن ضرورة حياة رسول الله- .

﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:183-185].

وهذه هي شريعة الصيام في تعاملها مع الإنسان المسلم اتفاقاً مع حقيقة البر، ومن هنا كان التيسير من البر، وكانت أي مخالفة لطبيعة التيسير في أحكام الصيام خروج عن البر كما قال رسول الله- -: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ». متفق عليه.

وقول الله- -: ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ يؤكد مضمون السياق، فحياة هذه الأمة وهويتها مرتبطة بالتكبير إبتداءا من لحظة النبوة الأولى.

﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي: وربك فعظمه تعظيماً يليق بجلاله وكماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلاً الله أكبر وبحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأت منها إلا ما أذن لك فيه أو أمرك به (6).

وانتهاءً بمصير الأمة عند الله حيث كان التكبير أساساً في هذا المصير فعندما أخبر النبي- – برجاءه أن تكون الأمة ربع أهل الجنة كبرت الصحابة فقوي رجاء النبي- – كما في الحديث: «وأبشروا فإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله قال إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله فقال إلي لأرجو الله أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله قال ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض».

وكما جاء سياق آيات الصيام بتحقيق غلبة الخير المحققة لبقاء الأمة وحمايتها من الهلاك ابتداءً من البر المحقق لطول الأجل جاء بالدعاء المانع من الهلاك: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186].

ومن هنا كان الحديث الجامع بين البر والدعاء: «لا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلا الدُّعَاءُ، وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» (7).

وعن أبي ذر قال: “يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح”.

وفي قول الله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ ما يثبت المناسبة اللفظية مع المعنى العام للسياق، فالرشاد هو الهدى الدائم الموصل إلى الغاية والمقاصد (8)، والدوام على إصابة المقاصد تعني ضمان صواب الأمة حتى آخر الزمان.

ثم تناقش الآيات شرعية العلاقة الزوجية في شهر رمضان باعتبار أن تلك العلاقة هي التي تضمن شرعية التواصل والامتداد الإنساني في حياة الأمة، ويوازيها في ذلك الأكل والشرب وتحقيق تلك الشرعية في إطار مقتضيات التعبد في هذا الشهر: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [البقرة:187].

وهذا هو تمام الطاعة: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾.. ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾.
وغاية الالتزام بالأحكام الشرعية في العلاقة بين الرجال والنساء هو الحرز من الزنى، ولكن التزام الأحكام الشرعية في العلاقة الزوجية وفقاً لمقتضيات التعبد والاعتكاف في رمضان هو الصورة النهائية لهذا الالتزام.

وهذه الصورة هي التي يقابلها الصورة النهائية في المعصية والانحراف وهي ظهور ولد الزنى، وهو القدر الزائد على فعل الفاحشة، والزائد على ظهور الفاحشة، ومن هنا علق رسول الله- – خيرية الأمة وبقاءها على أمرين:

– أحدهما عدم حدوث ظاهرة ولد الزنى في الأمة.

– والثاني متعلق بأحكام الصيام.

ويجمع بينهما قول رسول الله- -: «لاَ تَزَالُ أُمَّتِى بِخَيْرٍ».

أما الأول فدليله قول رسول الله- – يقول: «لاَ تَزَالُ أُمَّتِى بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَإِذَا فَشَا فِيهِمْ وَلَدُ الزِّنَا، فَيُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِذابٍ»(9).

وأما الثاني فدليله قول رسول الله- -: «لاَ تَزَالُ أُمَّتِى بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الإِفْطَارَ».

وكما كان الأمر بتعجيل الفطور: «لاَ تَزَالُ أُمَّتِى بِخَيْرٍ»، كان الأمر بتأخير السحور، وهو قول الله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.

وبذلك ارتبطت صيغة “لا تزال أمتي بخير” تحديداً بسياق آيات الصيام، وقد وردت مرة واحدة في غير سياق آيات الصيام ولكنها لم تبتعد عنه: «لا تزَالُ أُمَّتي بخير- أو قال: على الفطرة- ما لم يُؤخِّرُوا المغرب إلى أن تشْتَبِكَ النجومُ» (10).

ثم تأتي المناسبة بين أحكام الاعتكاف والنهي عن أكل أموال الناس بالباطل: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:188].

ومن هنا جاء في تصنيف البخاري ما يثبت العلاقة بين الاعتكاف والمعاملات بترتيب كتاب “البيوع” بعد كتاب “الاعتكاف”.

حيث يأتي كتاب “البيوع” متضمناً أحكام الخروج للبيع والشراء والسعي للرزق بعد كتاب الاعتكاف، وهو أفضل صيغة للتعبد في العشر الأواخر من رمضان؛ ليكون ضبط المعاملات المحقق للبر، وإحكام العلاقة بين التعبد والسعي للرزق، وقبل ذلك أحكام القصاص والمواريث، وأحكام الصيام، والحد الزمني للأكل والشرب ومباشرة النساء فيه، ولتكون تلك الأحكام هي الحدود الواردة في آخر السياق بقول الله- -: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.

﴿وَاللَّـهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾.

ـــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه أحمد 4/228، والدارمي (2536).
(2) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان وصححه الحاكم، وقال الشيخ الألباني: حسن.
(3) رواه الخمسة.
(4) تفسير ابن كثير: 1/502.
(5) المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص: 2/ 576. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(6) أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير: 5/ 463.
(7) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان وصححه الحاكم، وقال الشيخ الألباني: حسن.
(8) يقول الإمام البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور- (1/ 349):{ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: ليكونوا على رجاء من الدوام على إصابة المقاصد والاهتداء إلى طريق الحق.
(9) رواه الإمام أحمد في مسنده ج6/ ص333 ح26873، وحسنه ابن حجر.
(10) أخرجه أحمد (4/147، رقم 17367)، وأبو داود (1/113، رقم 418)، وابن خزيمة (1/174، رقم 339)، والحاكم (1/303، رقم 685)، وقال: صحيح على شرط مسلم

 


التعليقات