قضية الهوية بين التفريط والمتاجرة

قضية الهوية الإسلامية للأمة أو المجتمع أو الجماعات والفئات يعتورها خلل خطير في واقعنا من وجهة نظري .. ويشتد خطرها في الحالة السلفية خاصة من الحركة الإسلامية، ذلك أن زعمها بالنقاء المنهجي هو زعم عريض، ومع ذلك لم تقدم هذه الحالة طرحا حقيقيا في قضية الهوية في تاريخها !! غاية ما تتمحور حوله غالب كتابات المنتمين لهذا التيار هي بعض كتابات مكرورة في العقيدة والفقه والحديث، فأما علم العقيدة فليس علما اجتهاديا بطبيعته وزادته الرتابة والتكرار والنقل وعدم التجديد ولو في طريقة الطرح أو الشرح أو التدريس جمودا وتقليدية !!

وأما الفقه فيعتني الكتاب فيه بالنقل ولا تجديد أو اجتهاد ولا يحزنون مع أنه مادة خصبة لهذه الآلات أصلا، والعجيب أن أكثر النقال في هذا الفن لا تجدهم ينقلون طريقة مدرسة من المدارس أو خيارات مذهب من المذاهب كالمذهب الحنبلي مثلا بل ولا أصول المذهب كذلك وإنما يعتنون أيما عناية بنقل فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أو ابن القيم رحمهما الله فحسب، وهم في هذا ينسجون على منوال الدعوة الوهابية رحم الله مؤسسها ..

أما الحديث فليس علما اجتهاديا أيضا وقد انتهى عصر الرواية وخلاصة ما يستجلبه الدارسون فيه هو اجترار علم المصطلح وبعضهم يتحدث في الرجال وإن قلوا، أما علوم الدراية المفتقدة فلا صاحب له تقريبا إلا ما تكلم فيه رجل كالشيخ العلامة رفاعي سرور طيب الله ذكره ..

وبين اختزال دين الله في محفوظات العقيدة ومختارات الفقه ومكررات المصطلح تضيع تماما علوم المقاصد على تنوعها وتأصيلاتها ورغم كثرة استخدام مصطلح التأصيل ممن لا يتقنون الأصول وربما الفروع أحيانا !! وهنا لابد أن يطرح سؤال نفسه بإلحاح وإزعاج؛ أين هي الهوية في هذه الطروحات الثلاثية التي تكاد أن تقتصر عليها علوم هذا التيار ..

وقد استخدم أحد الأحزاب مصطلح الهوية كنوع من المتاجرة الرخيصة دون أية حقيقة أو توجيه بعد ثورة يناير في مصر؛ فقط لتشويه الثورة وتصويرها كعدو للهوية وخطر يتهددها، ثم استخدمها في فترة حكم الرئيس مرسي كنوع من إهدار مشروعيته وتصويره كخصم للهوية وصديق ﻷعدائها من الشيعة، كما استخدم نفس الحزب الهوية ليزعم أنه حامي الهوية الإسلامية وأنه هو من أسس لها في الدستور وضحك على الأزهر وألقى لقمة للعلمانيين والليبراليين على حد تعبير منظر الحزب الأبرز، ثم عاد واستخدمها في المادة 219 التي زعم أن دونها الرقاب وأنها خط أحمر ليعطي معركة “شرعية” ويستتر خلف لباس الهوية أمام رياح إهدار الشرعية؛ لعله يواري سوءة الموالاة لأعداء الإسلام بكل أطيافهم واصطفافه معهم ضد كل أبناء الحركة الإسلامية، ثم خلعها فجأة أمام الإصرار العلماني ليعود عاريا كما كان دون خجل ويزعم أنها ليست نصا مقدسا !!

وأمام هؤلاء يقف في الجهة المقابلة بعض من لايرون لها داعيا ولا سببا وينكرون أو يستنكرون أي متبنى لها أو مروج لقضيتها، فتارة يزعمون أن الهوية ليست مهددة، وتارة أنها ليست لب الصراع رغم أنهم قتلوا في الشوارع بسببها ومن أجلها، ومرة أن إثارتها يخيف الغرب ويهدد باستئصال الثورة رغم رعاية الغرب للانقلاب عليهم وعليها، ومرة أخرى أن ذكرها يفرق الصف الوطني ويمنع العلمانيين والليبراليين من الاصطفاف معهم!!

وكأن العلمانيين كانوا يتسابقون قبلها للتوافق والاصطفاف المزعوم حتى ذكرت فأعرضوا!!

ولا يعتذر لهؤلاء بفعل أولئك أبدا فلئن تاجر بها أقوام فلا يعني ذلك أن كل من نادى بها هو كذلك، كما أن قضية الهوية من المفترض أن تكون قضية هؤلاء الأخيرين أيضا وأن يظهروها هم وينادوا بها بدلا من وأدها بدعوى أنها تضر ولا تسر، بل كان من المفترض أن ينهضوا هم لها كإحدى أهم واجباتهم ومنطلقاتهم ولتصحيح صورتها وتنظيف الواجهة التي تعلن من خلالها، بدلا من أن يحاربوها ومن يدعو إليها كالأعداء وإلا فكيف ستظهر أم أن ظهورها وإثباتها في الواقع غير ضروري أصلا؟! فكانوا كالتاجر المرابي الذي أقرض ماله “هويته” لغيره ليتقاضى عليه الربا “مكاسب سياسية” والله يمحق الربا ويربي الصدقات.

فإذا لم ينهض لها هؤلاء الأقربون وعادوا مجرد فكرة طرحها بدعوى التفريق والغرب، واستمر أولئك الابعدون في طرحها في الأسواق الرخيصة ليقتاتوا بها الخبز الملوث؛ فمن ينهض لها ؟!

إنه من الواجب فورا على الحركة الإسلامية عامة والسلفية خاصة أن تقدم مشروعها للثورة والحكم وإدارة الدولة أو تتنحى قياداتها لجيل جديد قادر على إنتاج رؤيته لهذه القضايا والتي لم يكتب فيها إلا موسوعة العلامة عبد المجيد الشاذلي غير المطبوعة كما نعكف على إعداد مشروع لها لتقديمه لعموم الأمة وخصوص المسلمين ..

وقد تقدمنا حتى الآن بوثيقة تمثل رؤيتنا للتوافق وكذلك مبادرة للأمة كلها لإنجاح الثورة وتحديد ثوابتها ومرتكزاتها ومنطلقاتها وأهدافها التطهيرية للوطن كله والتي تكفل بعون الله سيرها على الطريق الصحيح وأسميناها مبادرة وثيقة الثورة، أملا في تقديم مشروع كامل للهوية والثورة والذي سيؤكد في أهم منطلقاته على قضية الهوية ورفض الهيمنة الغربية في ضوئها وإسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري


التعليقات