ثقافة النقد والحوار 2

في تربيتنا الأسرية وفي مناهجنا الدراسية وفي طرق التعليم والتربية ، وفي إدارة

مؤسساتنا من أدناها إلي أعلاها نبعد كثيراً عن ثقافة النقد ، بل نعتبرها خروجاً عن

الطاعة وخروجاً علي الإجماع وربما سوء أدب أو سوء أخلاق أو ربما رأيناها خيانة ؟!!

وإذا ذكرت كلمة ” نقد ” غلب على أفهام الكثيرين أنها ترادف كلمة ” تشهير ” أو ”

تجريح ” !!

ولذلك نجد أن عملية ” النقد ” في مجتمعاتنا هي عملية غير رائجة ، بل تُوَاجَه في

كثير من الأحيان بلون من ” التشنج ” الفكري الذي يتهم من يقوم بالنقد بأنه خائن أو عميل ..!!

وهذا في حقيقته كارثة كبرى ؛ فكلنا نعلم أن قائد السفينة لا يكفيه أن يقلع في

اتجاه هدفه ، بل يجب عليه ” مراجعة ” مساره على طول الطريق ، فإذا عدّل مساره

لتفادي الهلكة لم يشعر أبداً أن ما يقوم به هو ” رجوع ” عن هدفه ..

نعم .. إن الفارق كبير بين ” المراجعة ” وبين ” الرجوع ” .. بل إن العلاقة بينهما علاقة

تضاد ..؟!

فالـ ” مراجعة ” عقلانية ناقدة ؛ العقل يراجع حصاده ناقداً ذاته. .

وأما ” الرجوع ” فهو وجدان وحنين إلي رحم الأم أو حضنها ..

والمراجعة توتر وتوثب يقظ ، وتأهب لحركة وعزم معقود. .

وأما الرجوع فهو حلم وطمأنينة وسكون وتسليم . .

المراجعة النقدية إعمال للعقل في سبيل بناء الحاضر والمستقبل بناء إبداعياً . .

والرجوع استسلام للماضي ، وأسي علي مفارقته . .

المراجعة نقد للحاضر والماضي تأسيساً علي إنجازات وفعالية الذات الجمعية ، مع

تطلع إلي المستقبل في ضوء فكر جديد ، ومسئولية إزاء الفعل والفكر الجديدين ..

والرجوع خصومة مع الحاضر ، واغتراب أبدي في الزمان وانفصام بين فعل مهيض ،

وفكر محلق في فراغ الأمنيات !!

فمتي ندرك أن النقد .. مراجعة ، لا رجوع ..

لقد تحوّل الكثيرون منا إلي شياطين خرس ، وتعلموا كيف يتقنون فن الصمت وتلقي

الأوامر ؛ فماتت بداخل كل منهم روح المبادرة ، وفقد روح الجماعة ؛ فأصبحت حياته

كلها ترديداً لمقولة ” عاش سعيداً من بقي في الظل ”

وفي ظل مجتمع لا يسمح بالحوار الحر ، أو النقاش الآمن ، تُكبت فيه الأفكار كبتاً

حتي تنتابها البرودة فتصاب بالقشعريرية القاتلة .. و يربي الناس فيه على الكذب

والنفاق والتذلل ، صار أكثرنا عبيداً لا يملكون أمر أنفسهم ، ولا يأمنون علي تربية

أبنائهم علي روح الحرية ..

ولكي نبدأ في رحلة الحرية ؛ لا بد لنا نمتلك القدرة علي تغيير واقعنا ، و اختراع

مستقبلنا الجميل اختراعاً من خلال الوعي بالحدود التي يمكن أن تتكامل أخلاقياً مع

الحرية ذاتها ، ويقدر الإنسان معها أن يصنع ـ بإذن الله ـ من سم العبودية ترياق الحرية

، من خلال نصوص حرة تؤكد أن ” الحرية ليست في أن نعمل ما نريد ، وإنما في أن

نريد ما نعمل ” ؛ فتردد كل حركة لنا في الحياة : من علمني حرفاً ، صرت به حراً ،

وصرت معه حراً ..


التعليقات