ثقافة النقد والحوار 1

 

في غياب النقد تضيع الفرص التي تدفع العقول أن تفكّر بحرية ، وتتيح للنفوس أن

تشرق وتزدهر ، ومن ثم تترك لنا فراغاً في عقولنا ، وفراغاً في نفوسنا .. ومجموع

هذه الفراغات يكون هاوية نقف علي حافتها .. ذلك أن الفراغ العقلي والفراغ الزمني

هما شفرات حادة تحلق الأخلاق ؛ فتتحول الأرواح المشرقة إلي خرائب تعوي في

خوائها نزوات الفجور .. وتقطع أوصال المجتمع ؛ فتترنح علي أرضه دعوات التواكل

والعجز ..

ومن هنا ، فإن القيادات الحكيمة تتيح الفرصة لأفرادها أن ينطلقوا ويتحرروا ، لأنها

تدرك أن من الرعاية ما قتل ، وأن من الظلال ما يمنع وصول الضوء للنبات فيموت ..

وأنه لا يحق لنا أن نطلب من الطائر أن يحلق بحرية بعد أن وضعناه داخل قفص

بدعوى حمايته من الطيور الجارحة التى قد يواجهها أثناء التحليق عالياً وبعيداً

إن الاعتراف الحقيقي بالإنسان ـ أي إنسان ـ يبدأ من الاعتراف بكلامه ؛ ولذلك فإن من

أوجب واجبات المربين أن ينتبهوا قبل كل شيء ألا يحطموا إرادة من يربونهم ، أو

يئـدوا طاقة الحرية عندهم ، بل عليهم رعايتها وصياغتها والقيام بتوجيه تلك الإرادة لا

كسرها ، من خلال حديثهم عن العزة أكثر من حديثهم عن الطاعة .. عن الشجاعة

أكثر من التواضع .. عن العدل أكثر من الشفقة .. لأن هذه الأجيال التي تتربى على

العزة والكرامة هي وحدها التي تستطيع أن تقف على قدميها بثبات .. وتمضي في

طريقها دون تردد ودون أن تلتمس الإذن من أحد ، فنهضة الإسلام لن تكون إلا على

أيدي الشجعان الثائرين لا العبيد المطيعين !!

إن الوعي النقدي هو مستوى من الوعي يتميز بالعمق في تفسير المشكلات التي

يعيشها الفرد المقهور، والتي ربما يكون هو بذاته جزءًا متآلفًا ومتعايشًا معها ، بل

ومبررًا لها..!!

وهو وعي ينبني من خلال كفاح مجموع المقهورين ومراجعاتهم الدائمة لأعمالهم

وأفكارهم من خلال خلق حالة حوارية دائمة ومتصلة.

وهذا الوعي يجعل المقهورين ينتفضون على واقع ” ثقافة الصمت ” التي يفرضها

عليهم القاهرون ..

وليس لنا من سبيل إلي ذلك ” الوعي النقدي ” إلا من خلال التحرر من ” العقل

النقلي ” والانتقال لبناء ” العقل النقدي ” .. فإذا كان العقل ” النقلي ” يمرر الأفكار

بدون تصفية ، وينشرها بحماس دون وعي ، ويدافع عنها بضراوة دون علم ..

فإن العقل ” النقدي ” يراقب الأفكار ؛ فيدخل التصحيح علي الخطأ .. ويتحرر من

معصوميتها ؛ فيخضعها للنقد .. بل يخضع عملية النقد ذاتها للنقد مرات عديدة ، في

صورة تقترب من صناعة الماس ، حيث يتم صقله بدون ملل ليصل إلي درجة اللمعان

التي تكاد أن تذهب بالأبصار ..!!


التعليقات