وقفة مع فقهاء الذلة

من المنزلقات التي يقع فيها فقهاء التخذيل والذلة والخنوع باسم التسليم لمن يسمونه الحاكم المتغلب ؛ والتي تفضح ضحالة فكرهم وسوء مقصدهم :

– اعتبار التغلب – إذا تحقق من الأساس – أصلا شرعيا وليس عارضا وضرورة تقع فيتم التعامل معها على قدرها مع دفع الظلم والجور الواقع بسببها ؛ حيث يكون المتغلب – في جل الأحوال – ظالما جائرا مبيرا ؛ والتاريخ الذي يستقون منه خير شاهد ( بخلاف الواقع المعاش الذي يئن ويصرخ من هول ما يجرم فيه طغاة متجبرون ) .

اجتزاء نصوص لفقهاء ممن كتبوا في السياسة الشرعية قديما ؛ كإمام الحرمين الجويني الذي سطر غياث الأمم في التياث الظلم ؛ والماوردي الشافعي الذي سطر الأحكام السلطانية ؛ وغيرهما ؛ اجتزاء نصوص تخدم مذهبهم – أي فقهاء الذلة – دون إيراد نصوص أخرى لنفس الفقهاء تناقش آراء أخرى وتنظر للمغالبة ؛ وتنزل ما كتبوه على واقعهم وواقع من سبقهم ؛ بل وتنقد نقدا شديدا وربما تقف موقف المعارضة الواضح ؛ كما في هذا النص الذي أوضح فيه الجويني تحفظه الشديد على تولية العهد ؛ ووضع شروطا له ؛ مع إبداء تبرمه وعدم موافقته على الملك العضوض وما ترتب عليه من الاستيلاء والاستعلاء :

” الظاهر عندي تصحيح تولية العهد من الوالد لولده إذا ثبت بقول غير المولي ( بكسر اللام ) استجماع المولى ( بفتح اللام ) للشرائط المرعية فيه ( أي شروط الإمامة ) ؛ لكن المسألة مظنونة ليس لها مستند قطعي ؛ ولم أر التمسك بما جرى من العهود من الخلفاء إلى بنيهم ( نقد ورفض واضح لمبدأ التوريث والتغلب ) لأن الخلافة بعد منقرض الأربعة الراشدين شابتها شوائب الاستيلاء والاستعلاء ؛ وأضحى الحق المحض في الإمامة مرفوضا ؛ وصارت الأمة ملكا عضوضا ” ( غياث الأمم ) .

تنزيل نصوص هؤلاء الفقهاء على واقعنا دون مناقشة اختلاف الأحوال الكبير ما بين زماننا وزمانهم ؛ وما بين حال من تغلب في زمانهم وفي زماننا . بل وتأكيدهم – أي الفقهاء القدامى – على قضية الشريعة وحفظها وسياسة الدنيا بها ؛ وهو ما يغفله – عن قصد – دعاة الخنوع وفقهاء الذلة في زماننا .
تغييب قضية تحكيم الشريعة في تنظيرات فقهاء الذلة ؛ على الرغم من اعتبار الفقهاء القدامى أن مقصد الإمامة الأعظم هو إقامة الدين وسياسة الدنيا به ؛ وأن وجوب تنصيب الإمام يتبع وجوب إقامة حكم الله في الأرض ؛ لأن القاعدة الشرعية تنص على أنه ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ” .

دائما ما تخاطب تلك التنظيرات جوانب عاطفية أو جوانب مرجوحة لا تقوى في النظر أمام مقاصد الشريعة وأصولها ؛ فيناقشون ما يترتب على قول كلمة الحق عند السلطان الجائر ؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ والوقوف في وجه الطغيان وتنحية الشريعة والحرب على دين الله ؛ يناقشون ما يترتب على ذلك من فقد نفس ومال وما شابه ؛ ولا يقفون إلا عند نصوص أو أقوال تخدم مذهبهم في الهرب من المسئولية والقيام على دين الله ؛ ويغضون الطرف عن أن أوجب الواجبات وأن أول ضرورة شرعية من الضروريات الخمس وأعظمها هي ” حفظ الدين “؛ تلك الضرورة الشرعية المقاصدية التي تخدمها وتقوم عليها كل الضروريات الأخرى؛ والتي تغلب إذا تعارضت معها ضرورة أخرى ؛ وإلا فلم شرع الجهاد على ما فيه من بذل النفس والمال في سبيل الله ؛ إلا لنشر الدعوة أو الذود عن حياض المسلمين حفظا لدينهم وجماعتهم ؟!

ومعلوم حال من ينظرون لتغلبه قولا وعملا ؛ حيث صرح في مرات عديدة بضرورة تغيير ما سماه الخطاب الديني في الدول الإسلامية كلها ؛ وحربه على المساجد وحرقها وإغلاقها ؛ وتأكيده على علمنة الدولة ؛ والسعي في ذلك عمليا ؛ وقتله واعتقاله لمن يعارض حربه على دين الله ؛ وتقريبه لأهل الفجور ؛ وموالاته لليهود وحصاره للمستضعفين المسلمين في فلسطين ؛ وغير ذلك من طوامه التي لا تخفى على صاحب القلب السليم .

– أخيرا : توقيت تنظيراتهم لا تكون إلا في أوقات البحث عن السلامة الشخصية من جهة ؛ والاستسلام وعدم المجاهدة والبذل والتضحية من جهة ؛ وإرادتهم أن يكون الناس كلهم مثلهم في الذلة والخنوع من جهة ثالثة ( فالزانية تود لو زنت النساء كلهن حتى يكن في الاثم والحال سواسية ) ؛ بخلاف خدمة من يدفع من الملوك والأباطرة من جهة أخيرة .

الحق أبلج والباطل لجلج ؛ وما ضاع حق وراءه مطالب .
والحمد لله رب العالمين .


التعليقات