خطورة الطرح الفراغي

عندما تمر أي أمة بمرحلة يقظة بعد سبات وتقهقر، فإنه من الطبيعي أن تتعدد وتتنوع أطروحات الحل المنشود، لاختلاف المنطلقات من ناحية، ولاختلاف المفاهيم والتقديرات من ناحية أخرى، ولاختلاف أصحاب الأطروحات على المستويات الشخصية من ناحية ثالثة.

وواحدة من أخطر صور الأطروحات، ما يمكن أن نسميه بـ”الطرح الفراغي” إذ يصدر عن شخصيات ذكية تنال قدرا من زعامة، ويحقق قدرا من الإشباع النفسي لأصحابه، لكنه يلقيهم ويرضيهم بالفراغ .. فكيف ذلك؟

أولا : يتميز هذا الطرح – غالبا – برفع سقف الأهداف، من خلال شعارات براقة، ورسم صورة نهائية للثمرة المنشودة، مع مبالغة في مثاليتها، والتي قد لا تمكن إلا في عالم التصورات لا الموجودات.

ثانيا : وفي نفس الوقت يهدر هذا الطرح – غالبا – أكثر الإيجابيات الواقعية، الموجودة في الظرف وفي أهله، أو في الحلول الأخرى المطروحة بفاعلية على الأرض. فأصحابه كثيرا ما يقتنعون أنهم يبدأون من نقطة قريبة من الصفر، وأنهم أفضل الموجودين.

ثالثا : أما المسافة الهائلة بين الواقع والمثال المطلوب، فلا يطرح فيها حل ممكن. بل إن اتساعها يتخذ ذريعة للانسحاب من أكثر معارك اللحظة الراهنة، دون لوم للنفس، لأن المشكلة – عندهم – في اللحظة والمعركة وأطرافها لا فيهم.

رابعا : وحتى لا تُكتَشَف الخدعة، فلا بد من انشغال بديل، يملأ مكان الانشغال المتروك. بأهداف بديلة أصغر وأسهل، لترضَى النفس وتشعر بالخيرية والنصر، كنوع من الإشباع الوهمي لأطول فترة ممكنة.

إن “الطرح الفراغي” يستهلك العمر والطاقة الإنسانية، ويترك أصحابه مُحطَمين، بعد طول عيش في الوهم والأمنيات. لتتكرر التجربة مرة بعد مرة، مع شخصيات جديدة. لذا قالوا قديما : السعيد من وُعِظ بغيره.

خامسا : في “الطرح الفراغي” يُخلَط الحق بالباطل ليمرّا سويّا، وتُخلَط الاجتهاديات بالمحكمات ليُدَّعى صواب في غير محلّه، كما يُردّ على أسهل الاعتراضات ليبدو الطرح قويا. لكن يفضحه دائما ثمرته، فهو انسحاب من المعركة الحالّة، وانشغال بما لا يؤدي جديّا إليها.

ولتسهيل التصور سأطرح مثالين لذلك :

الأول [ في الشأن الشخصي ] : فإنسان يكرر أنه يريد “الالتزام” .. لكنه يريد التزاما مثاليا لا تشوبه أخلال .. وهو التزام لم تساعده الظروف عليه، كما أنه لم يكد يرى أحدا يطبقه على حقيقته التي يتصورها .. فلهذا لا يقدر عليه الآن، لكنه لا يرضى بـ”التزام أعرج” على شاكلة ما يقدر عليه .. فالأفضل أن يكون صادقا مع نفسه، ولو في كونه “غير ملتزم” .. لكنه سيعمل أعمالا أخرى يقدر عليها، وهو بها في نظر نفسه أفضل من أكثر من يحسبون أنفسهم “ملتزمين” .. كزيارة ملجأ، أو توزيع صدقات، ونحوهما.

الثاني [ في الشأن العام ] : فهناك من يكررون أنهم يريدون إقامة الدين .. لكنهم يريدونها أن تكون إقامة تامة نقية – كما يفهمون هم – .. وهي إقامة لا تساعد الظروف عليها، ولا يرون أحدا يقوم بها، ولا لها كما ينبغي .. وهم لا يقدرون عليها، لكنهم لا يرضون بـ”الإقامة النسبية” ولا بـ”ممهدات الإقامة” مما يقدرون عليه .. فيخرجون أنفسهم من معركة “إقامة الدين” مؤقتا، لكثرة الأخلال الحاصلة من أهلها، مما لا يبشر بنصر .. ليبدأوا من أول الطريق ( تعليما / أو توعية / أو تربية ) فالنصر هنا أسهل، وهي أهداف لا تكاد تنقضي.

تحذير أخير : إن “الطرح الفراغي” يستهلك العمر والطاقة الإنسانية، ويترك أصحابه مُحطَمين، بعد طول عيش في الوهم والأمنيات. لتتكرر التجربة مرة بعد مرة، مع شخصيات جديدة. لذا قالوا قديما : السعيد من وُعِظ بغيره.


التعليقات