ميثولوجيا النخبة

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

يرتبط مصطلح الميثولوجيا عند علماء الأنثروبولجي عامة بالأسطورة، وتتشابه الأساطير عادة بين الشعوب على اختلاف عاداتها ولغاتها، والبعض يربطها دائماً بالتناول الميتافيزيقي للأنظمة الفكرية والفلسفية أو العادات الاجتماعية، بينما يبالغ آخرون ليدخلوها في حيز المنطق والثابت للعالم الحقيقي، كما ويرتبط علم الميثولوجيا غالباً بالآثار؛ إذ يعرفها فرانسيس بيكون بأنها: “بعض بقايا التاريخ التي أفلتت من حطام الزمن”.

والمتأمل في حال النخبة السياسية المصرية اليوم يكاد أن يندهش من تطابق معطياتها ومفرداتها مع الأساطير في كثير من جوانبها وشخوصها وأحداثها!! ومما يثير الاندهاش أن المفكر والكاتب المصري المتجرد أحمد عبد الرحمن قد تنبه لهذه الحقيقة فكتب رائعته الفكرية والسياسية “أساطير المعاصرين” والتي فكك فيها طرح النخبة آنذاك كأمثال: زكي نجيب محمود ، وطه حسين ، وعبد الرحمن بدوي ، وفؤاد زكريا، وحسن حنفي، وجابر عصفور، ومحمد حسنين هيكل وغيرهم.

واكتشف الرجل أن تناقض أفكار هؤلاء الأعلام فيما يقبلونه وما يردونه وما يحرضون عليه وما ينهون عنه وما يتصورونه وما يتعجبون منه؛ كل هذه المتناقضات تصل إلى حد الأسطورة بمعناها القصصي حيناً ومعناها الميتافيزيقي أحياناً أخرى دون أية وقفة منهم غالباً أو التفاتة إلى هذه الحقيقة.

التعامل السياسي ينبع في حقيقته من طبيعة الفهم لمفردات الحياة وأهمها الإنسان وهذا الفهم هو ما تمليه أدبيات الفكر السياسي أو العقيدة السياسية إن جاز التعبير، ولذا يمكن أن نفهم أو نتصور موجات العنف المجتمعي في مصر اليوم على ضوء هذه الحقيقة إذا ما فهمنا على وجه التحديد تلكم الأدبيات وهو ما يفسر بالتحديد القتل والإقصاء والإبادة والاستهانة بالكرامة أو إلى غيرها من الممارسات, ينطلق من طبيعة ثقافته وفكره وعقيدته.
بعبارة أخرى ينبع التعامل من طبيعة مفردات الفهم السياسي التي يتعامل بها هذا السياسي أو ذاك.

ولأجل اعادة بناء العراق وصياغته على الأسس الصحيحة وجب على الجميع اعادة صياغة مفردات الفكر السياسي والثقافي, وبالتالي إعادة صياغة ما بين أيديهم من خطاب سياسي أو ديني على حد سواء, لتتغير بها طبيعة التعامل مع الإنسان.

الأمر الذي يدفع الجميع وخصوصا السياسيين منهم, وبالذات أولئك الطامحين إلى سياسة العباد, وعلى وجه الخصوص المتصدين لشؤون البلاد, ليكون التعامل السياسي في المجتمع على أساس احترام (إنسانية) الإنسان والنظر إليه باعتباره (القيمة الكبرى) التي كرّمه خالقه بها في حقيقة قوله “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ “ تلك الكرامة التي اهدرها الإنسان الآخر, وأهان مقامه السامي من خلال نظرته (القومية الضيقة), ومبادئه (الطائفية المقيتة), وانانيته (الحزبية المشينة), وتطلعاته (الشخصية المظلمة), وكلها مفردات لفهم غير حضاري وان تسمّى به.

ولا أدل من دليل على جاهلية تلك المباديء اوضح من القتل الفردي, والإبادة الجماعية, والإقصاء الطائفي, والتطهير العرقي, والاستبداد الحزبي, والاستئثار الفئوي بمقدرات الأمة وثقافة المجتمع, وعقول الناس.

ولكي يتمكن العراقيون من بناء العراق حضاريا يجب على كافة السياسيين التحلي بأسمى معاني الحضارية التي لا تتجلى إلا بانسانية التعامل مع الإنسان, من خلال صياغة المباني الثقافية والفكرية السياسية للجميع, خصوصا وانهم مقبلون على بناء عراق حضاري جديد, عربا كانوا أم اكرادا, تركمانا أم غيرهم, شيعة كانوا أم سنّة, حاكمين أم خارج الحكم, مؤيدين كانوا أم معارضين .

بحيث يجب  على الجميع ولا أقول يلزم, رعاية ومراجعة ادبيات الفكر السياسي على الأصعدة التالية,

وذلك لترتب المصلحة العليا للإنسان والأمة والمجتمع  :

الصعيد الأول:

صعيد أدبيات المشروع السياسي في الاطار الشيعي
حيث على الساسة الشيعة اتقان العمل بكل الثوابت الحيوية ومنها التالية :

أولا:

التخلص من سلبيات ثقافة النضال السلبي وخطابه الطارد, لأنها ثقافة المعارضة التي  دأبت على معارضة الطاغوت فعَلُقَ بها من تلك الثقافة غبار في معارضة أخوة الدرب, ومناهضة رفاق المصير المشترك.
ولِيَلِجُوا حيّز الخطاب الثقافي الحضاري الذي يؤمن بالإنسان كقيمة, ويهتم بطاقاته وقدراته كنعمة, فلا يفرطوا بأحد من المجتمع يمكن الاستفادة منه .

وثانيا:

العمل على التلاحم مع كافة القوى السياسية الخيّرة ذات الباع الطويل بمقارعة الظلم والاستبداد المنصرم, فإن التفريط بواحد منهم خسارة, وعاقبة الخسارة وخيمة, لأن كل شيء منظور ومؤثر في الحياة سلبا كان أو إيجابا, خصوصا وأن منطق النجاة من تحديات الحياة يقول ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [1].

وثالثا:

التعامل بالحكمة والموعظة الحسنة مع باقي فئات المجتمع العراقي الذي كان يخضع تحت نير الاستبداد ردحا من الزمن, ثم غرْس ثقافة البناء الحضاري فيه من خلال فسح المجال أمام الاطروحات الناضجة لكل العاملين في بناء عراق الخير والألفة والمحبة.
ذلك أن أمامهم تحديات جسيمة لن ترحم, وإذا استفردت بهم فلا تبقي ولا تذر, و(العاقل إذا نظر اعتبر) [2]

الصعيد الثاني:

صعيد أدبيات المشروع السياسي في الاطار السني
أما ساسة أهل السنة فإن مراجعة خطابهم الفكري والثقافي والسياسي, ولغرض بناء عراق حر موحد متآخي, يستلزم الوقوف عند مباديء حيوية كثيرة منها:

إولا:

معرفة أن الشيعة الذين اُضطهدوا واُبيدوا من قبل حكومات حكمت بإسم السنّة, إنما هم شيعة النبي محمد في أهل بيته عليهم الصلاة اجمعين, ولا اعتقد أن منصفا من السنة يكره نبيه محمدا في شيعة أهل بيته.
إذن.. يحتاج الأمر إلى مراجعة الحساب, وتنظيم الخطاب في هذا الخصوص.

ثانيا:

معرفة أن الشيعة أناس حضاريون لا يؤمنون بالعنف, ولا ينتهجون الإبادة, ولا يمتهنون الإقصاء, ودليل ذلك انهم قد أبيدوا من قبلُ بمناهج الحكومات السابقة وذُبٍّحوا من بعدُ بالمفخخات وحز الرؤوس بحد السيف, وانتهاك الحرمات, واستباحة المقدسات, وقتل العلماء, ولم يعامِلوا أحدا بالمثل, بل كان سبيلهم في ذلك تاريخيا: (مَلَكْنا فكان العفو منا سجية), وتلك هي ثقافة أهل البيت علَيهم السلام التي يعتمدها الشيعة في مناهجهم بالحياة.

ثالثا:

على عامة أهل السنة معرفة حقيقة تاريخية ثابتة وهي: أنهم مستضعفون من قبل فئتين من القوى التي تسيَّرهم لصالح شهواتها السياسية ومبتغياتها الدينية على طول التاريخ.
فالفئة الأولى : فئة الساسة من أهل السنة التواقين إلى الحكم والهيمنة على الناس, والمتعطشين إلى السلطة ولو على بِرَكِ الدماء وجماجم الأبرياء.

والفئة الثانية : التي استضعفتهم هي فئة أئمة الفتوى الطائفيين ورجال الدين المتطرفين في بغضهم لأهل بيت نبيهم الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, الأمر الذي يستلزم اعادة النظر في هذه الفئات التي لا تريد لهم خيرا, ولا للعراق استقرارا, ولا للعراقيين تحاببنا ووئاما.

رابعا:

ومن اجل أن يعيش سياسيوهم عموما الحياة الطبيعية ما دواموا في الدنيا, أن يعيدوا النظر في ثقافة الحزب الواحد, وخطاب الاستبداد, ونَفَس الإقصاء, وعليهم التخلص من فكر التوحد, والعمل بالفكر الجمعي الوحدوي بدل فكر التفرّد والاستئثار, وان ينفتحوا على فكر أهل بيت نبيهم من الأئمة الذين لا يدانيهم أحد من البشر .

خامسا:

التخلص من سياسة العمل المزدوج المتجلية بالعمل وفق سياسة: الاستحواذ على كل شيء, أو حز الرؤوس بحد السيف,  وتلك هي سياسة المثل الشعبي القائل (إما أن العب أو أخرّب الملعب), اي أما أن أكون كل الحكم أو لنا الحصة الأغلب منه, أو خيار السيف والمفخخات وذبح أهل القبلة بعد تكفيرهم واخراجهم من الدين.
بينما يستدعي العملُ الحيوي البنّاء العملَ بمنطق اخذ الحقوق من خلال العمل الحضاري في ثقافة ( وأمرهم شورى بينهم) [3]

الصعيد الثالث:

صعيد أدبيات المشروع السياسي في الاطار القومي
أما بالنسبة إلى القوميات العراقية الأخرى من كرد وتركمان وغيرهم فإن المنهاج الحضاري في بناء العراق يقضي العمل وفق المنطق التالي:

أولا:

ضرورة مراجعة الأدبيات القديمة التي عفا الدهر عليها وشرب, وأعني مفردات التوحد على الأسس القومية الضيقة, وما مشروع القومية العربية عنكم ببعيد, حيث مزق الأمة الإسلامية ذات البلاد المتوحدة المتآخية ليتزعّم المشروع القومي قيادة الامة تحت شعاراته السرابية من توحيد العرب, وتحرير الاراضي المغتصبة, وخطاب الحرية, وثقافة الاشتراكية, حتى قاتلوا أبناء الوطن الواحد تحت الشعارات القومية, فتوصلوا إلى إجماع يقضي بمبايعة الغاصبين للارض المقدسة بدل تحريرها الذي كانوا يزعمون, وتسليم البلاد إلى المحتلين بعد قتلهم الشعوب وتدميرها, وهذه هي أبرز منجزات المشروع القومي, وتلك قصة طويلة وشاهدها الجميع.
وبناءا على المنطق الحضاري في تدبّر مسيرة السابقين, ويتأملوا جيدا (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)  فإن الذين من قبل كانوا اصلب عودا (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وكانوا يحسبون أن إرغام الشعوب على طاعتهم سيغني عنهم من سطوة الحاكم الأعلى للبلاد, وكانوا جاهلين حتمية المنطق القائل (وَما كانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الأَْرْضِ) متناسين (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بكل ما يصنعون, متغافلين عن أنه على كل شيء (قَدِيراً) [4]. وان سنّة الله ثابتة في الأمم (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ) [5]
هذا المنطق الحضاري يحتم على الأخوة الكرد وغيرهم مراجعة الخطاب القومي, والثقافة القومية التي لا تؤالف بين أهل القوميات المتعددة, بقدر ما كانت تفرق بين أبناء القومية الواحدة.

ثانيا:

دراسة ابعاد المشروع القومي دراسة موضوعية, ومعرفة ما كان قد أُريد منه, وقد أدى المشروع القومي العربي اغراضه في التمزيق وبيع البلاد بابخس الأثمان.

ثالثا:

الاعتبار بمؤسسي المشروع القومي وأعني بهم دعاة القومية في بلاد الغرب الذين اكتشفوا الخلل الحضاري في مشاريعهم القومية لبلادهم, فعادوا ليتّحدوا مع الأمم والقوميات الاوربية الأخرى التي طالما تعادت وتقاتلت مع بعضها, وخير دليل على ذلك البرلمان الاوربي, والاتحاد الاوربي, والوحدة الاوربية, والاقتصاد الاوربي والعملة الاوربية الموحدة وغيرها من معالم التنازل عن المشاريع القومية الضيقة, من اجل البدء بالعمل على المشروع الإنساني الجامع في الإطار الذي توصلوا له. وآخرها مشروع الدستور الاوربي الذي ما زال معرض أخذ وردٍّ مع بعض القوميات الاوربية.

رابعا:

العمل على المباني الإنسانية والحضارية القائلة على أن الناس كلهم إخوة وهم (صنفان إما اخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق..) [6] والانطلاق منها إلى حيز التعامل على أساس التآلف الأخوي, والعمل على أسس البناء المشترك في خضم تيارات المدنيات العاتية.

الصعيد الرابع:

صعيد أدبيات المشروع السياسي في الاطار العملي

أما بالنسبة إلى التعامل السياسي في الاطار العملي لكل الأطراف السياسية فيلزم اتقان أسلوب الشورى وثقافة الانتخاب, واستيعاب آليات العمل على هذه الأسس مما يستوجب توفر الأمور التالية التي يفتقر لها السياسيون في عالمنا الذي لم يتقن إلا الاستبداد وفرض الرأي على بقية الآراء:

الأمر الأول:

أن يعمل كل طرف من الأطراف الداخلة في الحوار السياسي داخل الحكم وخارجه على طرح آراءه وقناعاته لغرض اقناع الأطراف الأخرى بصحة مشروعة مصطحبا ذلك بالادلة المنطقية السليمة من دون تشنج, ولا تعنت, ولا إكراه.

الأمر الثاني:

بعد الانتهاء من الانتخاب والتصويت يجب أن يلتزم الجميع بآلية الانتخاب, وهي الانتقال إلى المرحلة التالية في اعتماد رأي الأكثرية واحترامها, والتخلي عن ثقافة الاستبداد القديم التي تريد الفرض والاكراه, الذي تتحول عنده الجبهة التي لم تنتصر في الانتخاب إلى جبهة معارضة تتهم, وتسب, وتشتم, وتتوعد, وبالتالي ترفع راية القتال, وتؤلب على التمرد, مما تخرج به عن منطق الحوار, ولغة الحياة, وثقافة الانتخاب الذي يستهدف الوصول إلى رأي يمثل خلاصة مجموع الآراء والاقتناع برأي الأكثرية, على أن يكون على الاقلية قبول ومباركة رأي الأكثرية والعمل معها على البناء مع الاحتفاظ بحق النقد الموضوعي لمشروع الأكثرية, ومراقبة الأخطاء وطرح البديل في الدورة الانتخابية القادمة, من دون التورط في تحويل المعارضة إلى جبهة قتال ومعارضة انتقام.

فإذا خرج العراقيون من قمقم القومية, وانسلخوا من شرنقة التعنصر الطائفي الذي يُقتل فيه الإنسان على الهوية, ويتحرروا من جحر الحزبية الخانق, وينطلقوا إلى فضاء الحياة الواسع, وافق الحرية الفسيح, عندئذ يكتشف إنسان العراق أنه كان أسير  أوهام اعتقدها حياة, وذلك يوم يكتشف انه طاقة خلاّقة, وقدرة عملاقة.

يوم يفهم حقيقة منطق الحياة الذي نطق به تلميذ مدرسة الحياة, ومؤسس الحضارة, وباني أركان الإنسانية, أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب “ عليه السلام في قولته الشهيرة يوما على أرض العراق :
وتحسب أنك جِرم صغير      وفيك انطوى العالم الأكبرُ
ومعناه اتحسب انك حجر صغير في الفضاء الواسع, وبين الكواكب السيارة مجهول ضائع .
فالحقيقة انك طاقة عملاقة تستطيع إقامة الحياة على اكتافك لو اكتشفت نفسك, وعملت جهدك, وأطعت في صنع الحياة ربك.

فقال في الديوان المنسوب إليه سلام الله عليه:
دواؤك فيك وما تشـعر     وداؤك منك وما تنظــرُ
وتحسب أنك جِرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المبين الذي    بأحـرفه يظهر المضـمرُ

فالحياة في مراجعة الحساب…
والسلامة في التخطيط إلى الصواب…
و( رحم الله عبدا سمع حكما فوعى, ودُعي إلى رشاد فدنى, وأخذ بحجزة هاد فاهتدى) [7]

[1] – سورة الزلزلة/ اية 7-8
[2] – كما في قول  أمير المؤمنين علي عليه السلام / غرر الحكم ودرر الكلم  ص54
[3] – سورة الشورى /آية 38
[4] – سورة فاطر/ آية 44
[5] – سورة الأحزاب/  آية 62
[6] – نهج البلاغة ص426 كما في  قول الإمام أمير المؤمنين عَلَيهِ السَلام.
[7] – كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام / غرر الحكم ودرر الكلم ص94
ش


التعليقات