كيف تكون وليا لله (1)؟

(1) ادخل .. بالافتقار إلى الله

الحمد لله رب العالمين ،…

الحمد لله، الذي لما عرّف الناس بنفسه، قال ـ:( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ )…

الحمد لله، الذي وعد المؤمنين بثمرات هذه الولاية الكريمة، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)...

الحمد لله، الذي فتح باب الود والحب، بين العباد وبين نفسه الكريمة، فقال ﻷ: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَن وُدًّا )…

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد…

اللهم صلّ على سيدنا محمد، أعظم أولياء الله في الأرض، و الذي فتح للناس باب ولاية الله ، فأخبرنا عن ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بقوله في الحديث القدسي : ” من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه، فإذا  أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،  وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته. “

ولاية الله…الهدف الغائب

إخوتي الكرام…

كل إنسان في الدنيا له هدف، والأهداف تتباين، لكن هناك أهدافا تغيب على عظمتها، منها.. أن يكون الإنسان وليا لله..

هذا الهدف يغيب، ربما حتى بين أهل الصلاة والطاعة. ربما يريد الإنسان منا مثلا أن يكون عالما، فينتصب هذا هدفا في نفسه… ربما يريد الإنسان منا مثلا أن يكون حافظا للقرآن، أو حافظا للقرآن والسنة، فينتصب هذا هدفا في نفسه… ربما حتى ينتصب للإنسان هدفا، أن يكون زاهدا في شيء من الدنيا… أو من المكثرين من الصلاة، أو من الصيام، أو…

لكن .. هناك هدف غائب .. هو صلة عظيمة بين الإنسان وبين رب العباد .. ألا وهو: صلة الولاية .. ولاية الله ـ سبحانه  وتعالى ـ.

لقد اعتدنا أن نسمع من بعض أهل البدع والتخريف، ادعاء ولايات، وربما ظن بعض الناس أن هذا هو هدفنا،  فظنوا أنه لا يطلب الولاية إلا طلاب الدروشة..! مع أن الولاية أمر شرعي عظيم في الكتاب والسنة. بل إن محبة الله ـ عز وجل ـ ومعيته وولايته للمؤمنين، من عقيدة أهل السنة والجماعة، فنحن أولى الناس بطلبها والحرص عليها…

نحن الآن نصلي ـ مثلا ـ ألا نريد من هذه الصلاة أن تجعلنا من أولياء الله..؟! ألم يقل النبي – صلى الله عليه وسلم ـ حين  أخبرنا عن ربه ـ تبارك وتعالى ـ أن الفرائض ثم النوافل، هي التي تجعل الإنسان وليا لله؟! ونحن نصلى من أيام وسنين، ونحن نتلو القرآن، ونحن نمارس أنواعا من العبادات، وربما  لم ينتصب لنا هذا الهدف..! ولم نحاسب أنفسنا عليه..! هل حققت من صلاتي ولاية لله؟؟ هل حققت من تلاوتي ولاية لله؟؟  هل خرجت من عبادتي بولاية خاصة  بين الله رب العالمين وبيني؟؟

هذا الهدف الغائب، نريد أن  نسعى إليه، عبر جملة من المعالم  العظيمة ، والتي قد يكون عدم العلم بها، أو الغفلة عنها، من أسباب ضعف سيرنا إلى الله، وفقد النتيجة العظيمة التي يحبها الله ـ عز وجل ـ … نتكلم الآن بإذن الله ـ تبارك وتعالى ـ عن مدخل هذه المعالم …

ادخل عليه … بالافتقار إليه

وذلك بأن يدخل العبد على الله ـ تبارك وتعالى ـ  بالافتقار إليه وحده، متذللا إليه، متبرئا من كل سبب، معرضا عن كل ما سوى الله، عالما أن كل وسيلة – إن لم تكن من عند الله – فلن تصله بالله.

والإنسان مخلوق ضعيف، يتعلق  بالأسباب والأشكال والمقدمات والصور، فيصده ذلك عن الوصول إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ.

مع أن الافتقار إلى الله، هو من حقيقة العبودية، ولذا جعله الله ـ عز وجل ـ  في أعظم سورة في القرآن، في سورة “الفاتحة”. بل وفرض علينا أن نقول له ـ تعالى ـ في كل ركعة من صلاتنا، فرضا أو نفلا: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )…

إننا نعبد الله، لأن هذا حق الله علينا،  فلماذا نستعين به؟! لماذا ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) قرينة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؟!.. لأنك لن تستطيع أن تصل إلى هذه العبودية، وتنال المطلوب منها، إلا بعون الله ـ تبارك وتعالى ـ.

ويساعدك على فهم هذا المعنى الكبير، أن تتذكر ما قرره العلماء، من أن الدين إنما شرع لمصلحة العباد في العاجل والآجل ، فما فرض الله عليك تلك الاستعانة، إلا لما علم من شدة حاجتك إليها. وقدم الغاية التي خلقنا لها، وهي العبادة، على ما هو وسيلة إليها، وهي الاستعانة…

هل تصورت أخي أن العبودية محفوفة بإعانتين: .. إعانة قبلها: على التزامها، وحسن القيام بها… وإعانة بعدها:على المحافظة عليها، والثبات على الطاعة بأداء عبودية أخرى… وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه…؟!

بل إن في تقديم : ( إِيَّاكَ ) على كلا الفعلين : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُن ) .. حصر واختصاص، فكما أن العبادة لا تكون صحيحة مقبولة، إلا إذا كانت لك وحدك يا إلهي … فإنه لا يعيننا على العبادة، لتكون موجودة ومحفوظة، إلا أنت وحدك يا ربي…

توفيق بالافتقار…أو الحرمان

إذ أن أول التوفيق للإنابة والتوبة والسلوك، أن تتيقن كما تيقن من سبقوك في الطريق ( أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِن اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ).. فتتلاشى أمام عيوننا الأسباب، وتتقطع من قلوبنا العلائق، فنشهد ـ بحق ـ أننا هالكون إن لم يتداركنا الله برحمته، منقطعون إن لم يفتح لنا ـ سبحانه ـ باب القرب من لدنه، ليس لنا شيء، ولا منا شيء، ولا حولنا سبب للنجاة..إلا أن يكون شيئا ينزل من عند الملك الوهاب ـ عز وجل ـ. لأنه (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)) فكما أنه ـ تعالى ـ المنفرد بالخلق، فهو ـ عز وجل ـ المنفرد بالرزق..بكل رزق من علم وفهم، أو عمل ودين، كما أنه ـ سبحانه ـ المنفرد بكل رزق من عقل وبدن، أو أهل ومال … فافتح لنا يا رب أبواب رحمتك … وارزقنا رزقا كريما من عندك، يرضيك عنا…فإن الخير ـ كل الخير ـ في يديك وحدك يا رب…

وتقل عنايتهم بالاستعانة والالتجاء إلى الله، قال: فمن هاهنا يخذلون وينقطعون كثيرا..!

وتقصيرك أخي في الاستعانة، يحجبك عن الوصول إلى حقيقة العبودية. وتأمل ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وذكر ذلك أيضا تلميذه ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن كثيرا من المتدينين، يؤتون من هذا، فيقصدون طاعة  الله ـ عز وجل ـ ويهتمون  بمعرفة ما يحب من الأقوال والأعمال ليفعلوه، وما يحرم عليهم ليتركوه، وتقل عنايتهم بالاستعانة والالتجاء إلى الله، قال: فمن هاهنا يخذلون وينقطعون كثيرا..!

فلا تعجب من شكوى غير واحد من جملة المنتسبين إلى الطاعة : أنا أريد محبة الله وولايته، لكنني لا أشعر بالوصول إليها. لماذا؟!. لأنك قد ضللت عن أول سبب، وأعظم باب، يوصلك إلى تلك المنزلة الكريمة.

هل حاولت، فلم تصب توفيقا؟!. ذلك أن بينك وبين صدق الافتقار إلى الله ـ عز وجل ـ حجبا، لابد أن تتجاوزها له – سبحانه وتعالى ـ فمن جاوز الحجاب ، وصل إلى المحجوب.

حجب بينك وبين الافتقار

أولا: حجاب النفس

إن أول هذه الحجب، التي تحجبك عن حقيقة أن تفتقر إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو حجاب النفس، فإن الإنسان يحب نفسه، وتعجبه نفسه، و تكبر في عينه، فيرى أن نفسه أهل لكل خير … سواء في ذلك خير الدنيا أو خير الآخرة.  كما  قال بعض الكفار: ( لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) أي : هذا الدين والإيمان، لو كان خيرا ، هل من الممكن أن يمر علينا ويأخذه غيرنا ؟! نحن نفوسنا أولى بكل خير..!!..

وكم من إنسان يرى أن نفسه أولى بكل خير، ويرى  أن نفسه تليق لله  ـ تبارك وتعالى ـ وتصلح  لمحبته، ويرى أن  التقصير لم يأت من جهة نفسه ..!! …فيا له من حجاب غليظ بينه وبين الله…نفسه التي بين جنبيه..

بل قد يبلغ من غلظ هذا الحجاب، أن يمنع من قبول الموعظة، مع أن نفسه أحوج شيء لها … فعندما وعظ  الذين أوتوا العلم قارون، لما فرح بنعمة الله عليه في الدنيا، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) وأصح القولين في الآية، والذي نصره ابن كثير ـ رحمه الله ـ : أي: على علم علمه الله عندي … الله علم أني أستحق هذه النعمة، فأعطاني إياها…

فقارون رأى نفسه أهلا للمال والثروة، وغير قارون ربما رأى نفسه أهلا للدين..أهلا للصلاة..أهلا للعلم..أهلا للدعوة..أهلا للإمامة… وهكذا. يسرّ ويغتر حين يمدحه الناس: “أنت صاحب نفس طيبة..أنت رجل صالح..ما هذه النفس الزكية!..”. يرى نفسه أهلا لذلك، كأنما يقول لنفسه: ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ). حتى يكون هذا حجابا بين ذلك الإنسان وبين حقيقة العبودية لله – عز وجل -.

فكيف نتجاوز حجاب النفس ؟

نتجاوز حجاب النفس، حين نتذكر حقيقتها…

الله – تبارك وتعالى – قال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .. أنتم فقراء من كل وجه إلى واحد.. إنك لست فقيرا إلى أي أحد .. إلا إلى الله، والله – عز وجل – هو الغني الحميد، غني بذاته .. يملك كل شيء .. ولا يحتاج إلى أي شيء .. وهو – سبحانه – المحمود على كماله في كل شيء .. المحمود على كل عطاء أو منع.

فالأصل في النفس أنها موصوفة بالضلال إلا إذا خرجت عن ذلك بفضل الله

إن الإمام أحمد كان يقول عن حديث لأبي ذر ا: “هذا أشرف حديث لأهل الشام” ..! وهو حديث حين كان يرويه أبو إدريس الخولاني : أحد أئمة التابعين، عن أبي ذر ا .. يجثو على ركبتيه من الخشية والرهبة .. حديث عن الله – تبارك وتعالى -، يقول فيه ربنا لنا: “ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته  بينكم محرما، فلا تظالموا. ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته” .. فالأصل في النفس أنها موصوفة بالضلال إلا إذا خرجت عن ذلك بفضل الله “فاستهدوني أهدكم” :…اطلبوا الهداية مني، واحرصوا على ذلك، واعلموا أنكم لن تنالوها إلا من الله  “فاستهدوني أهدكم” ..

ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم” .. ليس المرتب الذي يطعم الإنسان، لا .. ولا ما في الثلاجة الذي يطعم الإنسان .. إن الأصل في أبداننا أنها .. جائعة محتاجة .. لا تسد جوعتها إلا بإطعام الله..”ياعبادي كلكم عار إلا من كسوته” .. ليست الأموال التي تأتيك بما يسترك، لا .. ولا الناس .. ولكن الله خلقك عاريا .. إلا إن سترك وكساك “فاستكسوني أكسكم” .. إلى آخر الحديث ..

وهو حديث مشهور، عظيم، جليل الشأن .. فالأصل في الإنسان حاله التي وصفها  ابن القيم : لما قال: “فالله – سبحانه – أخرج العبد من بطن أمه ، لا يعلم شيئا ، ولا يقدر على عطاء ولا منع ، ولا ضر ولا نفع ، ولا شيء البته .. فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله .. أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد. ومعلوم أن هذا من لوازم ذاته .. وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدا فقيرا بذاته إلى بارئه وفاطره .. فلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء، وقهر الوحوش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء، والتحيّل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، … ظن المسكين أن له نصيبا من الملك، وادعى لنفسه ملكا مع الله – سبحانه – ، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام .. والفقر .. والحاجة .. ، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، .. بل كأن ذلك شخصا آخر غيره .. “                               

ينسى الإنسان فقره الأصلي الذي ولد به، ويحسب أنه يستغني عن غيره، فيطغى كما قال ربنا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) فيردد المحجوب بنفسه عن ربه: أنا لست محتاجا إلى أحد … كلمة كبيرة … لست محتاجا لأحد …اليوم  لما رأى نفسه وأعجبته يقولها. وأين كنت حين كنت محتاجا لكل أحد ؟! أولما كبرت بنعمة  الله تنسى الأصل، … والذي لم يتغير؟!…

ولذلك جاء في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بصق في كف نفسه، ثم قال لأصحابه: “قال الله – تعالى -: يا ابن آدم،  أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟!” – قطرة ماء – “أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد حتى إذا أسبغت نعمة الله على العبد …  يقول: ” سرت على الأرض ولها منك وئيد ” يعنى: تمشي تهز الأرض، رضى بنفسك، وفخرا بها، وكبرا على خلق الله. هكذا ينسى ذلك العبد أصله وفقره ومكانته كمخلوق …

ينسى المسكين أن النفس لها شرور يجدر به أن يستعيذ بالله منها صباح مساء، كما علمنا النبي – صلى الله عليه وسلم- أن ندعو  الله في كل صباح ومساء: ” أعوذ بك من شر نفسي . فنفس يستعاذ بالله من شرها، لمَ تراها أهلا للخير ؟! (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَالنفس سبب الشر لا سبب الخير، فلم تعظم ؟! إن من عرف نفسه على الحقيقة، علم أنها محل كل نقص وحاجة، وأنه لا غنى له إلا بالله . فإذا أراد لنفسه الخير والكمال والغنى فليطلب ذلك من الله – تبارك وتعالى – ، وليتجرد من النظر إلى نفسه .

ثانيا : حجاب النظر إلى العمل الصالح

إذ أن الإنسان – ربما – إن كان من أهل المعاصي، تجده منكسرا… يقول: لا نجاة لي إلا إذا رحمني ربي . أليس كذلك؟؟!!… فإذا وفق لطاعة،  يقول: الحمد لله، أنا أصلي في الصف الأول … الحمد لله، أنا أحفظ كذا من القرآن … الحمد لله أنا أعرف كذا وكذا … بدأ ينظر إلى ماذا ؟؟ إلى عمله … بدأ ينظر إلى عمله،  والأعمال سبب النجاة…  لكن النظر إلى الأعمال … حجاب بين العبد وبين الله – سبحانه وتعالى – .

لماذا ؟؟ … لأنه بدلا من أن يفتقر إلى الله، ويقول: يا رب، ليست لي نجاة إلا بك … يا رب، أعطني … بدلا من ذلك صار يقول: يا رب، إني قد عملت صلوات وطاعات …

أتدرون إخوتي ما مثلنا وأعمالنا مع ربنا – تبارك وتعالى – ؟

تخيلوا … ملكا عظيما، في قصر كبير، لا يدخل عليه إلا كبار الزوار، ولا توضع بين يديه إلا  أغلى  الهدايا والتحف،  فجاء رجل مسكين فقير، أتى ببعض بقل، أو حزمة خضر، وقام على باب القصر. ماذا تريد ؟!… قال: أريد أن أدخل على الملك، لأقدم له ما معي. فماذا يفعل الحرس معه ؟!… إن هيئته وحاله لا تدل على أنه ممن يدخلون على الملك !!.. بل وما معه ليس مما يقدم ويقرب بين يدي الملك !!.. فكيف يسمحون له ؟!.. فإذا قال الملك : أدخلوه . فدخل، ووقف بجوار الكبراء، وقدم حزمته قليلة القيمة بجوار أغلى المجوهرات … فإذا قبل الملك أن يقف هذا المسكين كوقوف الأكابر، وأن يضع هديته الزهيدة بين أغلى الهدايا،  ثم شكره على ذلك  وكافأه وأحسن إليه… فلمن تكون المنة ؟!… للفقير صاحب الحزمة، أم للملك الذي قبلها وشكر عليها ؟؟!!..

ما رأيكم إذا نظر صاحبنا المسكين إلى ما قدمه، لما رأى أن الملك قد شكره عليه ؟!.. فبدأ يمد رجليه، ويستطيل على الملك بمقاله أو حاله، وصار يردد: أنا فعلت وفعلت،.. ولو تعرف أيها الملك كم تعبت  حتى أحضرت لك هذه الحزمة ؟!..  ما كان أحد غيري يقدر أو يجود بمثلها … فصار معجبا يمنّ على الملك  بحزمته التي لا يحتاج إليها الملك ابتداء !!!

  تخيلوا… ما الذي سيحصل له ؟؟.. مجرد تخيل .. لو فتحنا باب التخيل الآن .. فليتخيل كل واحد ما الذي سيحصل له؟؟… وأظن أن أخف الاحتمالات .. ستكون بطرده، وحرمانه، ورد حزمته عليه، … إذ قابل الإحسان بإكرامه، وإدخاله مع الكبراء، وشكره على ما لا ينظر إليه، قابل كل هذا بسوء الأدب، مع قلب موازين العقل أيضا… فكيف يحتمله الملك بعد هذا كله؟!!..

إخوتي … كلنا ذلك الفقير المسكين، والله – عز وجل – هو الملك العظيم – وله سبحانه المثل الأعلى -. فربنا – سبحانه وتعالى – قبل من المساكين المذنبين أمثالنا أن يقفوا بين يديه، ويقدموا أعمالهم التي ملؤها التقصير كما  يقدم الأبرار المطهرون أعمالهم لله !! ألم يقل النبي – صلى الله عليه وسلم – لنا : “ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها” ..!! فنحن نصطف في الصلاة كما تصطف الملائكة  عند ربها ..!! نحن نعمل كالملائكة، ونقدم ما نتقرب به مثل الملائكة … وقطعا يوجد فارق بيننا وبين والملائكة … فأين نحن وأعمالنا  من الملائكة وأعمالهم ؟! ..

فإذا  نظرنا  إلى هذه الأعمال، واستطلنا بها، وصار لسان الحال أو المقال يردد : يا رب .. أنا أصلي، وأصوم، وفوق ذلك أصلي في جماعة …فيا ترى ماذا يكون الجزاء ؟ .. الطرد فورا … يطرد العبد فورا من ولاية الله – سبحانه وتعالى – ويحرم  القرب من الله – عز وجل – . فيكون هذا عائقا بينه وبين أن يكون لله وليا .. إنه النظر إلى الأعمال.

فكيف نتجاوز حجاب النظر إلى الأعمال ؟

 إنه لما كان هذا حجابا يحجب العبد عن ربه – تبارك وتعالى – فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يكسر النظر إلى الأعمال، في نفوس الصحابة – وهم خير هذه الأمة – فقال: “لن يدخل أحدا عمله الجنة”  …

إذن .. لماذا نعمل الأعمال الصالحة ؟! … ألا نعملها حتى ندخل الجنة ؟!… نعم ، وهذا ممتاز وصحيح . لابد من العمل . لكن .. أما وقد عملت العمل الصالح .. فاعلم أن هذا العمل  لا يدخلك الجنة … لا يدخلك !! … نعم ، إنه لا يكفي لذلك ، إلا أن يتغمدك الله – سبحانه وتعالى – برحمته …

لما سمع الصحابة ذلك، قالوا في نفوسهم: ربما لأننا مقصرون في أعمالنا ، فلا تخلو من عيب أو تفريط ، ولكن ألا يمكن أن توجد أعمال أخرى ، على غير هذه الصفة ، فلا يكون لها هذا الحكم ؟! … لذلك قالوا: “ولا أنت يا رسول الله” أي : لأن عملك أحسن من عملنا … فمن عمل منا مثل عملك ، أدخله عمله الجنة ، بخلاف من ينقص عمله ، فلا يدخله عمله الجنة . فماذا قال – صلى الله عليه وسلم – ؟! … “قال : “لا ، ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة” … سبحان الله … هل هناك عمل مثل عمل النبي – صلى الله علية وسلم – ؟! … أبداً … فماذا يفهم من ذلك ؟!

لكن اعلم أنك مع ذلك محتاج إلى الله ، وأنت تعمل الطاعات ، كما كنت محتاجا إليه ، وأنت تعمل المعاصي

إنه لعظيم حق الله على العباد ، فمهما عمل الإنسان ، يبقى عمله ليس ثمنا مكافئا للجنة أبداً … فيجب عليك أن تعمل العمل الصالح ، لكن اعلم أنك مع ذلك محتاج إلى الله ، وأنت تعمل الطاعات ، كما كنت محتاجا إليه ، وأنت تعمل المعاصي … محتاج أن تبكي بين يديه ليرحمك ، وأنت تصلي وتصوم وتتلو القرآن ، كما كنت محتاجا إلى ذلك ، وأنت راكب للمحارم . محتاج أن تقطع نظرك عن عملك ، وتعلم أنه لا يكفي لنجاتك ، لأن عملك هذا على الحقيقة  مليء بالعيوب الآفات ، ولولا رحمة ربنا – سبحانه وتعالى – ما قبله منك .

ما أحوجك أخي إلى الاعتراف بما طلب الله منك أن تعترف به في دعاء “سيد الاستغفار” : “أبوء لك بنعمتك علي” فترد النعمة لمولاك. “وأبوء لك بذنبي” وترد العيب لعملك.

فإن لم تر في سيد الاستغفار إلا عيوب المذنبين، لا عيوب المطيعين، ونحن نتكلم عن النظر إلى الطاعات، فاستحضر أمر الله – تعالى – بعد الإفاضة من ركن الحج الأعظم : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ) واستحضر أول ما كان يقوله النبي – صلى الله عليه وسلم –  بعد الصلاة ركن الإسلام الأعظم – بعد الشهادتين – : “أستغفر الله .. أستغفر الله .. أستغفر الله ” فاعمل أخي صالحا … ثم استغفر ربك … لعله يعفو ويقبل … ولا تعجبك أعمالك فتوكل إلى ما لا يكفيك فتهلك .

ثالثا : حجاب التعلق بالمخلوقين

  فإن الإنسان أحيانا قد لا ينظر إلى نفسه، وقد لا ينظر إلى عمله،  لكنه يتعلق بغيره من البشر، حتى لو كانوا من الصالحين … حتى لو كانوا من الفضلاء … حتى لو كانوا من العلماء … حتى لو كانوا من الأولياء … بل حتى لو كانوا من الأنبياء ..! فيظن أن مشاكله ستنتهي  إذا لقي – مثلا – الشيخ الفلاني، وأن قلبه سيحضر بين يدي الله – تعالى – إذا حضر – مثلا – الدرس الفلاني، وأنه سيصير ويتحول صالحا  بمجرد أن يشهد – مثلا – الموعظة الفلانية، أو حين يدعو له رجل يحسبه من الصالحين … فيتعلق  قلبه بالناس …

المشكلة .. والحل

هل المشكلة حقا ..أنني ابتعدت عن أصحابي الصالحين، فإذا كنت معهم – بإذن الله – فالمشكلة تحل ؟!… هل المشكلة حقا أنني  منذ زمن بعيد لم أسمع الشيخ فلان وهو يقرأ القرآن، فإذا سمعت قراءته للقرآن فإنني على الفور أنقلب إلى رجل صالح  ويحيى قلبي ؟!… هل المشكلة حقا أنني لم أحضر الدرس الفلاني، فإذا حضرت فيه وسمعته أخرج إنسانا جديدا بدون مشاكل ؟!…

لاشك أن كل ما ذكر أسباب، ولها قيمتها، وليست هذه هي المشكلة. ولكن المشكلة حقا هي أن يتعلق قلبك  بأسباب المخلوقين … اسمع :

قال الله – تبارك وتعالى ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)؟!.. لا أحد ..

الله – تبارك وتعالى – امتن على المؤمنين في غزوة بدر بملائكة، يجاهدون معهم وينصرونهم، ولنا أن نتساءل: هل الملائكة أقوياء أم ضعفاء؟ .. إنهم أقوياء . فملك واحد  كان يقول للنبي :  “إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين” سيطبق عليهم جبلين، وفي هذا الحديث المتكلم ملك واحد …

فهل بعث الله – عز وجل – في بدر ملكا واحدا ينصرهم؟؟.. لا .. بل أمدهم (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)  كمدد الجيوش، فهل يجوز أن ترتبط القلوب بالملائكة النازلة بأمر الله، وتتعلق بها رجاء واعتمادا ؟؟.. إياك أن تظن أن النصر يأتيك من الملائكة ولو كثروا..

قال ربنا بعد الآية السابقة مباشرة: ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ) فقط ..!! لتستبشروا بعون ربكم ونصرته وتأييده. أما النصر فليس من  الملائكة، بل ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )..

أنت الآن لا تجد ملكا يدعمك مثل هذا الدعم، إلا ما شاء الله – سبحانه وتعالى – وأي إنسان ستظن أنه سبب لنصرتك، وإقامة دينك، ودعم إيمانك، لن يكون  مثل الملك، ومع ذلك .. إنما  هي البشرى .. وإنما هي الأسباب .. وإذا نظرت إليها انقطعت عن الله – سبحانه وتعالى – وحجبت عن حقيقة النصرة والمعونة، التي يهبها الله – تبارك وتعالى – لمن يصطفي من عباده..

حتى ندرك الفارق

إخوتى الكرام .. حتى ندرك الفارق .. بين أن يكون العبد مفتقرا إلى الله،  وبين ألا يكون كذلك .. أدعوك أن تتخيل معي  الفارق بين حالين للدعاء. ألست أخي في كل صلاة تدعو الله – عز وجل – أن يغفر لك ؟؟ وتدعو الله – تبارك وتعالى – أن يرزقك ؟؟  وتدعو بأشياء أخرى .. أليس الأمر كذلك ؟؟..

لكن كم في هذا الدعاء من حقيقة العبودية؟؟.. إنك تدعو الله – تبارك وتعالى – أن يرزقك، وأنت تشعر أن الرزق موجود ومتاح في متناول يدك. فبأي شيء يثق قلبك؟؟ .. بالأسباب … لأنه – بحمد الله – الرزق في البيت … فهذه حال .

ولكن لو تخيلت أنه  لا رزق عندك في البيت.. وأنك تركت أهلك وهم جائعون.. وأن الناس يفرون منك حتى لا يساعدوك  فرارهم من الأسد، وأنه قد انقطعت بك كل السبل .. فكيف ستقول  في صلاتك: ” اللهم ارزقني “؟… ستقولها وأنت مضطر ملتجئ إليه، منقطع عن كل سبب آخر سوى الله … هذه هي حقيقة الافتقار إلى الله – عز وجل – … أن تقول: ” يا رب اهدني ” .. وأنت لا تظن أنك أهل للهداية، أو أنك قد عملت أعمال الهداية، ولا أن غيرك قد وفر لك الهداية، إنما ” كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ” … وهذه حال أخرى

وصية المحبة

إذ هي وصية من محب لمن يحبه، وليست وصية أي محب … ولا هي موجهة لأي محبوب … إنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوصي ابنته الغالية فاطمة – رضي الله عنها – .. فيقول: ” ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به .. أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث.. أصلح لي شأني كله.. ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين” .. فلو وكل أحدنا إلى نفسه طرفة عين لهلك. لذا قال ابن القيم : : “اتفق العارفون بالله على أن التوفيق أن يتولى الله أمرك، وأن الخذلان أن يكلك الله إلى نفسك” .

ووصية الاحبة ليست خاصة بفلذة كبد النبي ، فها هو الرؤوف بالمؤمنين  يأخذ بيد معاذ بن جبل  ويقول: “إني لأحبك يا معاذ” فيقول معاذ: “وأنا أحبك يا رسول الله” فيوصيه قائلا: “فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة : رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” … ويا لها من وصية نابعة وعاطرة بالحب، كلها حرص على المحبوب …

بل أنت محتاج.. وهكذا نحن أبدا .. محتاجون لربنا .. فمن لنا سواه

والعجيب في هذه الوصية، أنها مقدمة للمصلي، في دبر صلاته … فمع أنك قد صليت ، إلا أنك لا تستغني .. بل أنت محتاج.. وهكذا نحن أبدا .. محتاجون لربنا .. فمن لنا سواه ؟!..

أخي الحبيب .. تخيل أنك في مقام من يحبهم  النبي – صلى الله عليه وسلم – .. و قد خصك بهذه الوصية ..فهل ستفرط في الاستعانة بالله، والافتقار والالتجاء إليه ..؟؟.. لا أظن ذلك .. وإنما حفظ هذا الحديث لنا هكذا .. ليكون في قلوبنا بهذه المنزلة، ولنعلم أنها وصية محبة، لا يفرط فيها إلا مفرط في محبة النبي  … مفرط في حق نفسه .. مفرط  في قربه من ربه ـ …

وهكذا كان الموفقون

منهم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري .. كان موهوبا في نفسه وعقله وعلمه، ومن كان مثل البخاري – رحمه الله – ؟!..

قال الإمام أحمد بن حنبل: “ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل” فهذا قول الإمام أحمد فيه وهو من شيوخه ..

وقال عمرو بن علي – وهو من شيوخه أيضا – : “حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث” ينبه بهذا على شمول حفظه .. وقال نعيم بن حماد الخزاعي – وهو من شيوخه أيضا : “محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة ” يثني عليه بالذكاء وعمق الاستنباط وحسن فهم الوحي …

بل قال الحسين بن محمد – المعروف بالعجلي – عنه: “كان أمة من الأمم، دينا فاضلا، يحسن كل شيء” وقال أبو الطيب حاتم بن منصور: “كان محمد بن إسماعيل آية من آيات الله، في بصره ونفاذه في العلم” …

 لذا قال ابن حجر العسقلاني – صاحب فتح الباري ، بعد ذكر ما سبق وغيره -: “ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره، لفني القرطاس، ونفدت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له … وبعد ما تقدم من ثناء كبار مشايخه عليه، لا يحتاج إلى حكاية من تأخر … وليس الخبر كالعيان “.

لتدركوا إخوتي مكانة الإمام البخاري في أمتنا وملتنا إلى يومنا هذا، فإن عليكم أن تتذكروا أن أصح كتابين من كتب السنة هما: “البخاري ومسلم” … ومسلم تلميذ البخاري، فعاد الفضل للبخاري … ثم إذا تذكرتم “الكتب الستة” والتي تجمع أكثر السنة النبوية المطهرة، ويعتمد عليها العلماء والفقهاء، فإنها: “البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه” … ومسلم والترمذي تلميذان للبخاري … فصار مع تلميذيه نصف “الستة”…

كيف بلغ البخاري هذه المنزلة ؟!… هل السر في الذكاء والاجتهاد فقط ؟!… أم أن هناك سرا آخر وراء هذه العبقرية الفذة ؟!… إنه سر “الكنز”: “لا حول ولا قوة إلا بالله” … لقد تبرأ البخاري من كل حول وقوة .. وأعرض عن كل سبب من هذه الدنيا .. وافتقر والتجأ إلى ربه بكليته .. فرزق توفيقا قل نظيره …

وهذه هي القصة: قال البخاري: “صنفت كتابي “الجامع” – أي: الصحيح – في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله – تعالى – وصليت ركعتين وتيقنت صحته” وذكر ابن حجر رواية عن “أن البخاري كتب تراجم جامعه – أي: العناوين التي في الصحيح – بين قبر النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين” … فما بال من لم ينالوا من الأسباب ما نال البخاري … أو مع ذلك لا يشعرون بحاجتهم مثله ..؟!

ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية – رحمه الله – … إمام حفر اسمه في تاريخ الإسلام والمسلمين إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله للأمة أن تنتفع بأقواله وأفعاله وأحواله …

قال عنه تلميذه الحافظ الذهبي – والذي كتب تاريخ الإسلام -: “وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: إني ما رأيت بعيني مثله. ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم ” أي:إنه يفوق طبقته كلها، بل يفوق من قبله ومن بعده أيضا، فليس فيهم مثله .. وكيف لا وقد قال العلامة ابن دقيق العيد: “لما اجتمعت بابن تيمية، رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد” .. فأي عقل وعلم وفهم هذا ؟!..

ذكر تلميذه الحافظ ابن عبدالهادي عن الشيخ صالح تاج الدين، أنه قال: “حضرت مجلس الشيخ – أي: ابن تيمية ا وقد سأله يهودي، عن مسألة في القدر، وقد نظمها شعرا في ثمانية – أي: أبيات -. فلما وقف عليها، فكر لحظة يسيرة، وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظن أنه يكتب نثرا. فلما فرغ تأمله من حضر من أصحابه، فإذا هو منظوم، من بحر أبيات السؤال وقافيتها، تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتا. وقد أبدى فيها من العلوم ما لو شرح، لبلغ مجلدين كبيرين” .. وهذا مثال واحد مدهش نكتفي به هنا ..

فكيف كان ينظر شيخ الإسلام إلى نفسه، وهو سليل أسرة من العلماء، بل كان أبوه وجده من الأئمة الكبار، قال الذهبي وهو يتكلم عن أبيه: “وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى، وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس” يشير بالقمر إلى الجد، وبالشمس إلى الحفيد شيخ الإسلام…أقول: كيف كان ينظر إلى نفسه وعلمه وعمله مع كل هذه الأسباب ..؟!

يحكي لنا تلميذه الإمام ابن القيم ذلك في ” مدارج السالكين ” عند قوله: ” فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه.

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرا : ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء. وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :

                                        أنا المكدى وابن المكدى       وهكذا كان أبي وجدي

  وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول : والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا. وبعث إلي في آخر عمره، قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه :

                       أنا الفقير إلى رب البريات        أنا المسيكين فى مجموع حالاتى

                       أنا الظلوم لنفسى وهي ظالمتي   والخير إن يأتنا من عنده ياتى

                       لا أستطيع لنفسى جلب منفعة     ولا عن النفس لى دفع المضرات

                       وليس لي دونه مولى يدبرني     ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتى

                       إلا بإذن من الرحمن خالقنا        إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات

                       ولست أملك شيئا دونه أبدا          ولا شريك أنا فى بعض ذرات

                       ولا ظهير له كي يستعين به          كما يكون لأرباب الولايات

                       والفقر لى وصف ذات لازم أبدا       كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

                       وهذه الحال حال الخلق أجمعهم         وكلهم عنده عبد له آتى

                       فمن بغى مطلبا من غير خالقه    فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي

                       والحمد لله ملء الكون أجمعه     ما كان منه وما من بعد قد ياتى “

 فإذا كانت هذه حال مثله، وفي آخر عمره، بعد كثرة تعلم وتعليم، وعبادة وجهاد، وكثرة طلاب واشتهار… بعد أن صنع أحداثا تاريخية، وجدد دين الإسلام … يكون هذا كلامه … فماذا نقول نحن الآن ..؟!

من دعاء المفتقرين إلى ربهم

الحمد لله رب العالمين ..

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما  صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .. إنك حميد مجيد ..اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .. إنك حميد مجيد ..

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا ..

اللهم يا من تحيي الأرض بعد موتها  أحي  موات قلوبنا ..

اللهم أصلحنا ولا تستبدلنا .. اللهم أصلحنا ولا تستبدلنا ..

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها ..

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..

وصلى الله وسلم على  محمد وعلى آله وصحبه وسلم .. والحمد لله رب العالمين .

الهوامش

1- [ البقرة – 257 ] .

2- [ يونس – 62 ] .

3- [ مريم – 96 ] .

4- البخاري [ 6147 ] عن أبي هريرة ا .

5- [ الفاتحة – 5 ] .

6- [ الفاتحة – 5 ] .

7- [ التوبة – 118 ] .

8- [ فاطر – 2 : 3 ] .

9- [ الأحقاف – 11 ] .

10- [ القصص – 78 ] .

11- السابق .

12- [ فاطر – 15 ] .

13- مسلم [ 4780 ] عن أبي ذر الغفاري ا .

14- طريق الهجرتين ، لابن القيم .

15- [ العلق – 6: 7 ] .

16- صحيح : أخرجه ابن ماجه [ 2704 ] وأحمد [ 17535 ] والحاكم [ 3790 ] وغيرهم عن بسر بن جحاش القرشي ا. وقد صححه الألباني في الصحيحة [ 1143 ]

17- صحيح : أخرجه أبو داود [ 4426 ] والترمذي [ 1197 ] وغيرهما  عن أبي هريرة ا . وقد صححه الألباني في صحيح الجامع [ 4402 ] .

18- [ النساء – 79 ] .

19- مستفاد من منهاج العابدين ، لأبي حامد الغزالي .

20- مسلم [ 680 ] عن جابر بن سمرة ا .

21- متفق عليه : أخرجه البخاري [ 5357 ] ومسلم [ 5144 ] عن أبي هريرة ا .

22- البخاري [ 5956 ] عن شداد بن أوس  .

23- [ البقرة – 199 ] .

24- مسلم [ 591 ] .

25- [ آل عمران – 160 ] .

26- متفق عليه : أخرجه البخاري [ 3075 ] ومسلم [ 3440 ] عن عائشة بنت أبي بكر ل.

27- [ الأنفال – 9: 10 ] .

28- سبق تخريجه .

29- حسن : أخرجه الحاكم [ 1943 ] وغيره عن أنس ا . وقد حسنه الألباني في الصحيحة [ 2457 ] .

30- صحيح : أخرجه النسائي [ 1291 ] عن معاذ بن جبل ا . وقد صححه الألباني في صحيح النسائي [ 1302 ] .

31- فتح الباري ، لابن حجر العسقلاني .

32- متفق عليه : أخرجه البخاري [ 3982 ] ومسلم [ 4980 ] .

33- مدارج السالكين ، لابن القيم


التعليقات