الشريعة التي في خاطري

فقط فى بلادى يتحدثون عن شريعة الإسلام وكأنها شريعة الغاب. فقط فى بلادى ينسون، أو يتناسون، أن الله هو الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. فقط فى بلادى يلخصون الشريعة الغراء فى الخمر والمايوه وَيَسِمُونَها بالجمود والتابوه!

إعلام منمط يتقن بث الدعاية السوداء حتى التصديق، وسياسيون يتفننون فى الترهيب والتشغيب الديماجوجى فى أروع صوره

وذلك فى حقيقته موروث من أنظمة فاسدة ومائة عام أو يزيد غيبوها فيها عن الحياة، وإعلام منمط يتقن بث الدعاية السوداء حتى التصديق، وسياسيون يتفننون فى الترهيب والتشغيب الديماجوجى فى أروع صوره التى أرعبت أفلاطون يوماً فى ديموقراطية أثينا القديمة. وقبل أن أتحدث عن الشريعة تنبغى الإشارة إلى أن الحركة الإسلامية فى معظمها قد ارتضت الممارسة السياسية على أساس المشاركة، ولكن هذا لا يعنى التفريط فى ثوابتها أو التخلى عن مبادئها. وعجيب ذلك الجدل المتجدد بين حين وآخر حول ما يسمونه «الإيمان بالديمقراطية» إذ ليست وحياً بينما يطالبوننا بالتفريط فى الإيمان بالشريعة؛ وتطبيقها من الإيمان. فما لهم كيف يحكمون!! وإن فى الديمقراطية لخيراً وشراً؛ فحرية الاختيار وتداول السلطة وحق الشعب فى تولية حكامه ونوابه أو عزلهم ومحاسبتهم إلى غير ذلك من معانى الحرية والعدالة ورفض الظلم والدكتاتورية؛ كل ذلك خير، وقد اشتملت الشريعة على أفضل منه. لكننا نرفض إعطاء القداسة والمرجعية لغير الشرع الحكيم بطبيعته الإلهية الربانية، وأعنى قواعده لا الشخوص الممثلين له؛ وهذا هو الاختلاف الجوهرى فى التصور عن الدولة الثيوقراطية أو الدينية الكنسية. وإن المتأمل اليوم لكل هذا التلاعب بالمواد والقوانين والإعلانات الدستورية وغيرها ليتذكر تلاعب الجاهلية الأولى بالشهور فى النسيئة يُحِلُّونها عاماً ويحرمونها عاماً، فواضع قانون انتخاب مجلس الشعب وتشكيل اللجنة التأسيسية هو من يطعن عليهما ويحلهما، بينما تمنع شريعة الإسلام الضابطة هذا العبث، ففيها قاعدة: «إمكان التلافى»، وبموجبها فإن إيقاف تشكيل البرلمان لعوار فى قانونه جائز ما لم يُنتخب، أما إذا انتُخب فيمتنع حله والطعن عليه لعدم إمكان تلافى وجوده بإرادة الأمة خاصة مع «إمكان الانفكاك» -وهى قاعدة أخرى- تمنع انتقال بطلان الأصل إلى الفرع ما أمكن انفكاكهما، فبطلان قانون الانتخابات لا يسرى على النتيجة، فالشعب قد قال كلمته فلهم عوار قانونهم ولنا خيارنا الذى اختار الله لنا؛ إلا أن يكون العوار فى الانتخابات ذاتها بالتزوير وساعتها فالانفكاك غير ممكن.

 أن الإسلام تشريعى بطبعه يتسم بأعلى درجات السمو الشكلى والموضوعى بإلزامية شريعته كمصدر للقوانين وعدم إمكان تبديلها إلا فى حدود الاجتهاد

وأمر آخر تؤسس له الشريعة كنظام قانونى وهو توافر كل معايير المناهج الدستورية والقانونية الحديثة فيها، إذ أن الإسلام تشريعى بطبعه يتسم بأعلى درجات السمو الشكلى والموضوعى بإلزامية شريعته كمصدر للقوانين وعدم إمكان تبديلها إلا فى حدود الاجتهاد وهو ما يعنيه مفهوم «السيادة»، كما تجمع الشريعة بين المرونة والثبات، فهى تشكل إطاراً مرناً غير جامد، وأما المستوى الأخير وهو التنفيذى فيخضع لمبدأ التدرج، إذ تراعى الشريعة أحوال الناس وتأبى التعسف، وهو ما يكسبها صفة الواقعية. ولا عبرة هنا بما يزعمه البعض من «النسبية السائلة» للشريعة ويعنى أنها كلها اجتهادية خلافية؛ ولا «الجمود المطلق» بمعنى تقييد حركة الحياة، وإنما كان الاجتهاد والخلاف توسعة ومرونة فى حيز المتغيرات التى تحتمل ذلك ولكنه لا ينفى «إحكام الشريعة» وقطعية كثير من نصوصها وأحكامها لفظاً ومعنى واتفاق علماء المسلمين على أكثر قواعدها على مستوى العقائد والمبادئ والممارسات؛ كأصول الملة والعقيدة والأخلاق والعقوبات وكثير من أمور الحرام والحلال وغيرها.

لا وجود لعلم مستقل يسمى مبادئ الشريعة وإنما هو حادث فى القرنين الماضيين يمثل تصورات بشرية لبعض المستشرقين والمستغربين حول الإسلام كأيديولوجيا لاستنباط شمول طبيعته ومفاهيمه

كما لا وجود لعلم مستقل يسمى مبادئ الشريعة وإنما هو حادث فى القرنين الماضيين يمثل تصورات بشرية لبعض المستشرقين والمستغربين حول الإسلام كأيديولوجيا لاستنباط شمول طبيعته ومفاهيمه، ورغم أن بعضها جيد إلا أنها عريقة فى إمكان الاختلاف، بينما توجد علوم مستقرة كالقواعد الفقهية وعلوم الأصول المختلفة وأدلة الوحى وغيرها، وهى فى كل ذلك لا تتضاد فهى جميعاً من عند الله لا تقبل التبعيض.

وأخيراً

فإنه فى تقديرنا فإننا فى مرحلة الخروج من الاستبداد وأما الشريعة فإن مكانها الحقيقى أن تكون فوق دستورية وحاكمة للدستور، لا وثيقتهم الجائرة، ولكى تطبق الشريعة فإنها تحتاج إلى جهد من دعاتها وحملتها لتكون ثقافة غالب المسلمين، إن لم يكن جميعهم؛ بل وغير المسلمين كذلك ممن يتخذونها حضارة وثقافة؛ وساعتها فقط سيكون تطبيقها ممكناً إن شاء الله.


التعليقات