العداء الناعم للقرآن

الحقيقة التي يجب أن نعترف بها جميعاً أن كثيراً من أهل الباطل والفساد كانوا وما زالوا أكثر إدراكاً ووعياً بمواطن القوة والضعف في المتديّنين من كثير من المنتسبين للدعوة والإصلاح في المجتمع،

وأن ذلك ساعدهم كثيراً في حربهم التي لم تنقطع معهم، والتي ظهرت بجلاء في تلك الهجمة العلمانية العسكرية في مصر، التي سُخرت فيها كل الإمكانات لاستئصال حاكمية الإسلام للدولة والحياة من التربة المصرية، تحت غطاء إزاحة الإسلام السياسي من المشهد، بل من الوجود في كثير من الأحيان.

وأكثر الباحثين يهتم بمناقشة نقاط الضعف التي نفذ منها المفسدون إلى صف المصلحين؛ إلا أن حديثنا في السطور القادمة يتناول مكمن القوة الأعظم ومصدر العز الأعلى، الذي سعى المفسدون لضربه والتشويش عليه؛ ذلك هو القرآن. ولأن أنكى الهجمات ما كان بيد أناس من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويظهرون الانتساب لديننا؛ فكان لزاماً عليهم أن لا يعلنوا أن حربهم على الدين والقرآن، وإنما على تجار الدين وفهمهم للقرآن، ما يستدعي التمهيد بإشاعة ثقافة الفصل بين القرآن المقدس وفهمه غير المقدس، بين المطلق الذي يجب تنحية الحديث عنه لقداسته والنسبي الذي يجب أن نركز على مناقشته ونقده لعدم عصمته.. تلك الثقافة التي تنبني على الاعتراف بالمصدر الإلهي للقرآن كدرع واقية أمام هجمات التكفير، وفي ذات الوقت تهمل أو تهمّش أثر هذا البعد المصدري في فقه النصوص. ومن ثَمّ كان إهمال البعد المصدري أو تهميش أثره في تفسير النص؛ هو جوهر العصـرانية، ولب العلمانية، وغاية النزعة الإنسانية، وهدف المادية، وأساس كل النظريات التأويلية والقراءات التحريفية والمسماة العصرية.

نعم، قد تتباين الاتجاهات في ترسيخ هذه الثقافة، لكن يبقى العامل المشترك الذي يجمع بين هذه الاتجاهات المتباينة في الداخل والخارج، هو إهمال البعد المصدري للقرآن وتهميش أثره في فقه النصوص،

وإن اختلفوا بعد ذلك في طريقة هذا الإهمال. فمنهم من ركز على العلاقة بين المفسر والنص مهمّشاً العلاقة بين المتكلم والنص، كالدكتور نصر حامد أبو زيد وأستاذه الدكتور محمد أركون – على خلاف بينهما أيضاً -. ومنهم من أهمل العلاقتين وركز على النص واعتبره قالباً فارغاً يُُملأ بمضمون كل عصـر، كالدكتور حسن حنفي. ومنهم من تذبذب بين هذا وذاك ولم يعتقد نظرية بعينها، إنما اكتفى بالثمرة المتمثلة في القراءة العصـرية كحال أكثرهم، ابتداءً بالمحامي خليل عبد الكريم، ومروراً بالمستشار العشماوي والدكتور الجابري والدكتور القمني، وانتهاءً بالكاتب أحمد عبد المعطي حجازي. وهذا التنوع يتيح للكتّاب والصحفيين مجالاً رحباً لاختيار ما يروق لهم من أفكار يتم تبسيطها وطرحها على عامة الناس وتسويقها في منافذهم الإعلامية المرئية منها والمسموعة والمقروءة

وأشهر المصطلحات في باب تجريد القرآن من أثر المصدر الإلهي، هو “أنسنة القرآن”

 والذي كان أكثر شيوعاً من مصطلح “الظاهرة القرآنية” الذي ابتدعه أستاذه محمد أركون. يقول الدكتور نصـر أبو زيد: «إن النصوص، دينية كانت أم بشـرية، محكومة بقوانين ثابتة، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها “تأنسنت” منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشـر في واقع تاريخي محدد “.[1]

ويقول: «إن القرآن – محور حديثنا الآن – نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكن من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح “مفهوماً“ يفقد صفة الثبات، إنه يتحرك وتتعدد دلالاته. إن الثبات من صفات المطلق والمقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغير، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهوماً بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني “يتأنسن“، ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها شيئاً إلا ما ذكره النص عنها ونفهمها بالضـرورة من زاوية الإنسان المتغير والنسبي.[2] 

ويقول الدكتور محمد أركون: «استخدمت هنا مصطلح الظاهرة القرآنية ولم أستخدم مصطلح القرآن عن قصد.. لماذا؟ لأن كلمة “قرآن” مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية. وبالتالي فلا يمكن استخدامها كمصطلح فعال من أجل القيام بمراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي، وإعادة تحديده أو فهمه بطريقة مستقبلية استكشافية “.[3] 

ويقول: «يمكن القول بأن نصـر حامد أبو زيد هو أول باحث مسلم يكتب مباشرة بالعربية ويدرّس في جامعة القاهرة ويتجرأ على انتهاك المحرمات العديدة التي تمنع تطبيق مكتسبات الألسنيات الحديثة الأكثر إيجابية على القرآن.[4]

وكان محمد خلف الله قد حاول قبله أن يطبّق النقد الأدبي على تحليل القصص القرآني. وعلى الرغم من أهميته العلمية المتواضعة إلا أن كتابه أحدث ضجة في وقته” [5] 

ويقول الدكتور حسن حنفي: «العلم الإلهي في حقيقته علم إنساني، بمعنى أنه يتحول إلى علم إنساني بالفهم والتأويل. إذا كان القرآن – الوحي – هو التعبير عن العلم الإلهي، فإن الفهم الإنساني المرتبط بآفاق الزمان والمكان هو الذي يحول هذا الوحي إلى معنى ودلالة، وهكذا يتحول الإلهي إلى الإنساني.[6] 

ويقول الدكتور سيد القمني: «ووجه المشكلة هنا أن الحديث قد أصبح مصدراً من مصادر التشـريع إلى جوار النص الأصلي (القرآن الكريم)، إضافة إلى الإجماع والقياس، بل تم إلباس المصادر الأربعة قدسية القرار الإلهي رغم أنها جميعاً إنسانية بشـرية تتفق ومعارف الزمن الذي انتهت إليه وأقرها. فالقرآن الكريم رغم أنه النص الصحيح الثابت الأول، فإن من يفهمه بشـر ومن يطبقه بشر ومن الطبيعي أن يختلف البشر في فهمه وتطبيقاته.[7] 

تناقض يفسد الدعوى :

هذه المقولة هي في الحقيقة مقدمة لغيرها من الشبهات، وهي تحمل بين طياتها عوامل فسادها؛ فهي تتكوّن من أمرين متناقضين:

الأمر الأول : هو إثبات الاختلاف بين النصوص الدينية والنصوص البشرية

والأمر الثاني : هو الادّعاء بوجود قوانين ثابتة تحكم كل النصوص، سواء كانت دينية أو بشرية، وكلا الأمرين يحتاج إلى وقفة.

وجه التناقض:

الاعتراف بالاختلاف بين النصوص الدينية والبشـرية، ثم النكوص على العقب بإلغاء هذا الاختلاف من خلال القول بأن النصوص الدينية تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت إلى البشر، ومن ثم فهي محكومة بالقوانين ذاتها التي تحكم النصوص البشرية. وتفصيل الرد على هذه الشبهة في الوجوه التالية:

الوجه الأول:

مناقشة حقيقة الاختلاف بين النصوص الدينية والبشرية: يلزم هؤلاء إما إثبات الفارق بين النصوص الدينية والبشـرية أو نفيه، والمثبت إما أن يقرّ بالمصدر الإلهي للنصوص الدينية أو لا، فإن لم يقر خرج من الدين وليس الكلام مع الخارجين عن الإسلام، وإنما مع المنتسبين له. فإن أقر بالمصدر الإلهي للنصوص الدينية فيلزمه الإقرار بأثر المصدر في الكلام، وإلا صار إقراره بالمصدر الإلهي ضرباً من العبث. وقد نبّه العلماء إلى أثر حال المتكلم في فقه دلالات الخطاب، أو ما يسمى أثر البعد المصدري في فقه النصوص، والمراد من الحديث حول البعد المصدري للنصوص الدينية يتلخص في النظر إلى أمور:

أولها: عصمة النص الشرعي قرآناً وسنة وقدسيته وتعاليه.

والثاني: الصفات التي يتصف بها صاحب الخطاب الشرعي. والثالث: ما ينتج عن النظر في تلك الصفات من مفارقة الخطاب الشرعي لخطابات البشر وحاكمية الشريعة وشمولها.

أولاً: عصمة النص الشرعي وقدسيته:

من المعلوم أن النصوص الشرعية في التشريع الإسلامي نصوص موحاة متمثلة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذه النصوص بما أنها وحي من الله تعالى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها بالضرورة نصوص معصومة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، خالية من كل زلة أو هفوة تعتري خطابات الناس. وقد شهد لهذه العصمة الشـرع والواقع، أو بعبارة أخرى كلمات الله القولية والفعلية. أما الشرع: فقد توافرت الأدلة الكثيرة على هذه العصمة، منها قوله تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر: ٩]، فهذا ضمان مؤكد في أن آيات الكتاب لا يخالطها غيرها ولا يدخلها التغيير ولا التبديل، والسنة كذلك؛ فهي المبيّنة للقرآن، المشتركة معه في أنهما وحي من عند الله. وأما الواقع: فمن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن قد توافرت – بإذن الله – أسباب الحفظ والذب عن الشريعة؛ فقد قيّض الله الحفظة، وجرى هذا الأمر في جملة الشـريعة، حيث أقام الله لكل علم رجالاً قاموا على حفظه. هذه العصمة أضفت القدسية على النص الشـرعي، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَـمَّا جَاءَهُمْ وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 – 42]، وهذه القدسية جعلت سلطانه على النفوس المؤمنة قوياً، فظهر أثر ذلك في سرعة استجابة المسلمين لما ورد فيه من أحكام

ثانياً: استحضار صفات المتكلم وأثره في فهم النصوص:

يتحتّم على من تصدى لفهم النص الشرعي واستجلاء دلالته، أن يستحضر الصفات التي يتصف بها الشارع الحكيم، وتلك الصفات تعد مسلمات عقدية ضرورية تلقي بظلالها على ذلك الفهم المعرض للخطأ والصواب – في غير النصوص قطعية الدلالة -، فتوسع دائرة احتمالية الصواب مقابل تضييق دائرة احتمالات الخطأ. فليس من المستساغ تفسير الآيات من كتاب الله بما لا يتفق مع مقتضـى أسمائه الحسنى، ولا استنباط حكم تفوح منه رائحة الظلم والجهل بالأمور وعواقبها. وما تدل عليه تلك الصفات من معانٍ جمالية كالعدل والرحمة والحكمة وغيرها، ليست في الإسلام من قبيل الترف الفكري المجرد والبعيد عن حقيقة التشـريع، بل هي قيم تركبت منها حقيقة الأحكام، وتوقف عليها وجودها وقوامها. ففي قيمة العدل – مثلاً –

يقول الدكتور محمد فتحي الدريني: «العدل في التشـريع الإسلامي ليس فكرة فلسفية خالية مجردة، ولا أمراً خارجاً عن نصوصه ومقاصده ونتائج تطبيقه، بل هو مندمج في كل أولئك.[8] 

واستحضار ما عليه الشارع من صفات وعادات تشريعية كان حاضراً ومفعلاً عند الأصوليين وهم بصدد تقرير القواعد الأصولية، وكذلك كان حاضراً بقوة عند فقهاء الأمة. ومن أشهر الأمثلة على ذلك استدلال الأصوليين على حجية القياس الأصولي بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، والتي تجلّت آثارها في تصـرفات الشارع وعاداته مع المخاطبين والعباد في التشـريع والتكليف؛ فالحكم الشرعي لا يعد حكماً محققاً للعدل إن لم يسوِّ بين المتماثلين.

وفي هذا يقول الإمام ابن القيم: «ومن عرف مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريقة كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة، أو دلالة عقلية أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يُخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو متيقن مصلحته، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره، وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا، ويحب هذا ويبغض هذا.[9] 

وهذا الإمام ابن تيمية يضع أمامنا حتمية استحضار ما عليه المخاطب من صفات وعادات ومقاصد، حيث يقول: «حال المتكلم والمستمع لا بد من اعتباره في جميع الكلام، فإنه إذا عرف المتكلم فهم من معنى كلامه ما لا يفهم إذا لم يعرف؛ لأنه بذلك يعرف عادته في خطابه.[10]

ثالثاً: حاكمية الشريعة وشمولية الإسلام:

يؤكد الإمام ابن القيم أن أي حكم أو تفسير خرج به المفسـر عن العدل والرحمة والحكمة والمصلحة، فإنه تفسير غريب لا يمت إلى الشـريعة بصلة، فيقول:  «إن الشـريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها.[11]

لكن لما لم يكن في طاقة البشر التعرّف على جميع وجوه الحكمة والمصلحة في الشـريعة كلها، لم يكلنا الله إلى أنفسنا، ونصب الأدلة لبيان الأحكام الشرعية، وأوجب التسليم لها، والإيمان باشتمالها على وجوه العدل والحكمة والرحمة..

قال الإمام ابن القيم: «فمن وصل إليها فليحمد الله، ومن لم يصل إليها فليسلم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين، وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء، وفوق فطر الألباء.[12] 

إذن، لم يكن من العجيب مفارقة الخطاب الشرعي قرآناً وسنة لخطابات البشر،

إلا أن أهم تلك المفارقات التي جاهد المفسدون من العلمانيين العصرانيين من أجل التشويش عليها، هي خاصية العموم والشمول التي تتميّز بها شريعة الإسلام؛ لأنها تهدم أساس العلمانية القائم على الفصل بين الدين والدولة عند البعض، وبين الدين والحياة عند البعض الآخر، وفي كلا الأمرين يتم إسقاط كثير من الأحكام الشرعية بدعوى تاريخيتها وعدم مناسبتها للزمان والمكان. فما تتمتع به الشريعة من خاصية العموم زماناً ومكاناً وأشخاصاً رفعت من مستوى الخطاب الشرعي، فهو صالح لجميع الأمكنة: للجزيرة العربية ابتداءً، ولجميع أصقاع المعمورة انتهاءً. وصالح كذلك لكل الناس على اختلاف طبائعهم وثقافتهم ومركزهم الاجتماعي. وترجع هذه الصلاحية ابتداءً لسعة علم الله وكمال حكمته وطلاقة قدرته ومشيئته، ثم لما انطوى عليه هذا الخطاب الرباني من المبادئ والأسس التشريعية المنعوتة بالثبات والبداهة والوضوح الذاتي والديمومة والخلود والعالمية، الذي كفل تدفقه بالتشريع المناسب الموفور لكل مستجد، وضَمِنَ بسط هيمنته على الأبدان والجنان. الوجه الثاني: مناقشة ماهية القوانين الحاكمة على النصوص الدينية:

هناك أسئلة مهمة يتأسَّس عليها فهم هذه المقولة، وهي:

ما المقصود بأن النصوص الدينية محكومة بقوانين ثابتة ؟ 

ومن الذي يحكم عليها؟ وما تلك القوانين الثابتة ؟

ومن واضعها ؟

أهي قوانين النحو المستنبطة من كلام العرب والمحكومة بالرواية عنهم ؟

أم هي القوانين التي وضعها العلمانيون من أهل الغرب لينقدوا كتابهم المقدس ؟

ثم ألا يتناقض هذا مع قولهم بأن القرآن احتوى اللغة وسيطر عليها وكان له أثر فيها ؟

إنه من المعلوم بداهة أن القرآن نزل بلسان العرب كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْـجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْـجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: ٧]، وأنه يُفهم وفق هذا اللسان. وإذا كان هذا الأصل لم يختلف عليه اثنان منذ عصـر النبوة حتى الآن، فما الجديد من وراء هذا الكلام المبهم؟ وسرعان ما تجد الإجابة في كلمة واحدة، هي: الهرمينوطيقا أو التأويلية.

وبلا مواربة يتحدث الدكتور نصر حامد أبو زيد عن نشأتها فيقول: «ومصطلح الهرمينوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية، ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني “الكتاب المقدس”. ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م، وما زال مستمراً حتى اليوم، خاصة في الأوساط البروتستانتية” .[13]

ويلخص الدكتور نصر أبو زيد مسيرة «التـأويلية»، ثم يركز على الثمرة التي اقتطفها عبر تلك المسيرة، فيقول: «وتعد الهرمينوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعدلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسـر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره حتى الآن، لنرى كيف اختلفت الرؤى، ومدى تأثير رؤية كل عصر – من خلال ظروفه – للنص القرآني، ومن جانب آخر نستطيع أن نكشف عن موقف الاتجاهات المعاصرة من تفسير النص القرآني، ونرى دلالة تعدد التفسيرات – في النص الديني والنص الأدبي معاً – على موقف المفسر من واقعه المعاصر، أياً كان ادّعاء الموضوعية الذي يدّعيه هذا المفسـر أو ذاك” .[14] 

وليكن هذا النقل عن الدكتور نصر حامد أبو زيد – وما سوّده في الصفحات التي سبقته – مادة للنظر والتحليل، وبه تتكشف حقائق مهمة: منها: أن التأويلية أو نظرية التفسير الغربي كانت ثمرة تفاعل الكنيسة البروتستانتية مع العلمانية وربيبتها: المادية الجدلية، ما يستدعي في الذهن البون الشاسع بين القرآن: كلام الله الذي تحدى الله به كفار قريش، والكتاب المقدس: كلام القديسين من البشـر، وما كان منه ينسب إلى التوراة أو الإنجيل فقد نص القرآن على امتداد أيدي البشـر إليه بالتبديل والتحريف، قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].

ومنها: تباين مدارس التأويلية مع اتفاقها جميعاً على نزع القداسة عن النصوص الدينية وإخضاعها لمجال النقد ومناهج البحث الأدبي على خلاف بينها في تحديد المنهج المتّبع. إلا أن الخلاف بين مدارس التأويلية من وجهة النظر الإسلامية خلاف في درجة الشطط، وليس خلافاً في الجوهر؛ لأن أساسهم الفلسفي المادي واحد، فخلافنا معهم كمسلمين في أساس الفكر وأصل العقيدة، لا في مسائل النظر والرأي. لذا كان من الواجب الحذر من تلك المناورة الماكرة، فهم يحتجون بأن القرآن كلام عربي مرسل إلى عرب، ولما كان البشر هم الذين سيتلقون الكلام، فلا بد أن ينزل الكلام على نظامهم اللغوي حتى يفهموه، وإذا بهم يقفزون من دون مقدمات إلى النتيجة، وهي صلاحية القرآن للنقد، وعندئذ لا تنقصنا المناهج النقدية، فقد سبقنا الغرب في نقدهم لكتابهم المقدس؛ فلنستفد من إنجازاتهم العلمية! وقولهم “نزل القرآن بنظامهم اللغوي” فيه إجمال، ولا يسلم لهم على إجماله، بل لا بد من التفصيل. فنزول القرآن بلسان العرب معناه نزوله بنفس ألفاظهم – مفردة أو مركبة – التي يستعملونها مراداً بها نفس المعاني التي يعرفونها، إلا ما كان من اصطلاحات شرعية، وهي تعود إلى تلك المعاني أيضاً. أما كونه نزل بنظامهم، بمعنى تشابه القرآن في النظم، والتأليف بين الألفاظ، مع كلامهم، فهذا لا يقوله مسلم؛ لأنه بهذا القول يكون جاحداً للقرآن الذي تحدى الله به الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. قال تعالى: {وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ 23 فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 – 24]، وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ 41 وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 – 42]. فهو وإن كان عربياً ليس شعراً، ولا سجعاً كسجع الكهان، والكل عربي. فإن ثبت اختلاف القرآن عن كلام العرب، لاختلاف المصدر من جهة، ولتصريح القرآن ذاته من جهة أخرى؛ لم يعد هناك مجال لمناقشة الشبهة من الأساس، وأصبحت المسألة: إما إيمان بالقرآن، وإما كفر به.

الوجه الثالث: مناقشة دعوى ثبات المنطوق:

ما حقيقة الثبات في المنطوق الذي هو من صفات المطلق المقدس؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب تحديد جهة ثبات اللفظ، فإذا كان المقصود ثبات اللفظ لدى المخاطبين، فهذا يلزم منه أن ما يتبدل من الكلام فليس بمطلق، وأن ما لا يتبدل من الكلام فهو مطلق. وهذا معلوم فساده؛ فهناك كثير من كلام البشر كالمعلقات في تاريخ العرب، وكثير من المؤلفات التي ثبتت عبر التاريخ ولم تتغير ألفاظها. فهل معنى هذا أن لها صفة المطلق المقدس؟ وهل نصوص التوراة والإنجيل التي أخبر ربنا عن تحريفها تعني أنه لم يكن هناك نص مقدس اسمه التوراة والإنجيل ؟

بل الحق أنه لا يلزم من كون النصوص دينية أن يثبت لفظها، وإنما يكون ذلك تبعاً لمشيئة الله تعالى، فمن الكتب السماوية ما أوكل الله حفظها إلى البشـر كالتوراة والإنجيل، بخلاف القرآن الذي تعهد الله بحفظه. أما إن كان المقصود من الدعوى ثبات اللفظ لدى المتكلم سبحانه، فهذا لا طائل من ورائه، ولا يصل بهم إلى مقصودهم؛ فكل النصوص، سواء كانت دينية أو بشـرية، قد أثبتت في اللوح المحفوظ، وجرى بها القلم الذي كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.[15]

الوجه الرابع: مناقشة دعوى تغيّر المفهوم:

أولاً: ما المقصود بالمفهوم؟

فمن نظر في كلامهم علم قطعاً أنه لا يراد به المفهوم عند الأصوليين، وعليه؛ فإما أن يقصد به المعنى الذي هو الصورة الذهنية الموضوعة بإزاء اللفظ، وهذا فاسد؛ فإنه يعود بالنقض على معنى وضع اللغة. أو يقصد به مراد المتكلم ومقصوده، فيتعيّن السؤال: هل كل المراد بالنصوص الدينية نسبي أم بعض المراد؟ فإن قيل كله، فهذا قد علم فساده بمناقضته اللغة والشـرع والعقل. أما اللغة فوظيفتها الإبانة عن مقصود المتكلم وإظهاره للمخاطب، وأما الشرع فإنه نص على أن من النصوص ما هو محكم قد دل بنفسه على مقصود المتكلم، ومنها ما هو متشابه يحتمل أكثر من وجه في الفهم، أما العقل فقد دل على أن الله الحكيم أرسل الرسل ليدل الناس على مراد الله منهم.

أما إن قصد بالمفهوم بعض المراد على اعتبار تقسيم الكتاب إلى محكم ومتشابه، فإنه علاوة على أنه لا يصل بهم إلى مقصودهم المؤسس على عدم الإقرار بالمحكم، فإنه يلزم منه أحد أمرين: إما القول بأن احتمالات المتشابه تخرج عن اللغة، وهذا معلوم الفساد، وإما أن تخضع تلك الاحتمالات لقواعد اللغة لا للعقل، وطبقاً لقواعد اللغة فإن تلك الاحتمالات محصورة، ونظرة إلى أبواب المجمل والمؤول من أبواب المتشابه تنبئ عن هذا، ما لا يدع مجالاً لمتأول مبطل. ومن لم يقرّ بذلك تلزمه الإجابة عن السؤال: ما معنى التغير في المفهوم الذي هو من صفات النسبي والإنساني؟ هل يعني هذا أن الكلام يفهم بعدد عقول البشـر التي تتغير من إنسان إلى آخر؟ فإذا قلت أعطني قلماً فقد يفهم البعض أني أريد أن آكل، وثانٍ يفهم أني أريد أن أقرأ، وآخر يفهم أني أريد أن أنام، وهكذا. وهل إذا قال الله سبحانه وتعالى عن كتابه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فيجوز لبعض الناس أن يفهم من الآية أن الباطل قد يأتي القرآن من بين يديه أو من خلفه؟ وهل عندما قال ربنا لموسى: {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] كان يجوز لموسى أن يفهم أن الله يأمره بأن يأخذ زوجته بدلاً من عصاه؟.. وهل.. وهل..؟ الأسئلة كثيرة والإجابات مفقودة! إن هذا يعني أن اللغة قد فقدت وظيفتها التي ميّزت الإنسان عن غيره من الكائنات، وهي الاتصال، فلا بد من اتفاق بين المتكلم والسامع على دلالة الألفاظ، وإلا كانت أصواتاً لا طائل من ورائها، ورسوماً مسطرة لا تعني شيئاً. نعم، قد توجد كلمات تتعدد معانيها، وعبارات تتنوع دلالاتها، ويختلف الناس في فهمها؛ لكنها ليست أصلاً في لسان العرب باتفاق. ثم إن هذا التعدد والتنوع ليس بعدد عقول البشـر، وإنما هي احتمالات محصورة بطبيعة الألفاظ. ثم إن هذه الكلمات لا تأتي إلا في سياق يحسم المراد أو يكاد، فتضيق الدائرة في نطاق محكم، حتى لا تلتبس الأوامر على المكلفين، وإلا كان تكليفاً بما لا يطاق، وهذا محال على الحكيم الخبير. وحتى لو جاز هذا في كلام البشـر أو في اللسان عامة، فإنه لا يجوز في كلام الله؛ لأن القرآن قد نزل بياناً للناس، وما أُجمل فيه فإن الله قد عهد إلى رسوله ببيانه. الوجه الخامس: مناقشة دعوى أن حالة النص المقدس حالة ميتافيزيقية: إذا كانت حالة النص المقدس حالة ميتافيزيقية، لا ندري عنها شيئاً إلا ما ذكره النص عنها، ونفهمها بالضرورة من زاوية الإنسان المتغير والنسبي؛ فما فائدة النص المقدس إذن؟ وما معنى قدسيته أصلاً؟ فإذا كنا لا ندري عنه شيئاً إلا ما ذكره النص، أي باعتباره حدثاً تاريخياً، ثم ما هذا الذي ذكره النص والذي يستوجب التعقيب بأن حتى هذا الذي ذكره النص عن نفسه إنما يخضع لنسبية وتغيّر المفهوم؟ وإذا كان المفهوم يتغيّر لأنه من إنتاج العقل، والعقل يختلف من إنسان لآخر، ومن زمن لآخر، ومن ثقافة لأخرى؛ فإننا لا ندري شيئاً عن تلك الحالة الميتافيزيقية بشكل يقيني يمكن أن نعتمد عليه في إعطاء القدسية لأي شيء. إذن لا قدسية حقيقة، وإنما وهم القداسة، وهنا يثور سؤال: لماذا الحفاظ على الاعتراف بقدسية لا حقيقة لها؟ لعل هذا هو السؤال الوحيد الذي أستطيع الإجابة عنه، وجوابه: حتى يكون هذا الاعتراف حائط صد أمام ضربات الخصم الذي يستنكر نزع قداسة القرآن، فيكون ردهم: إننا لا ننكر المصدر الإلهي للقرآن، وإنما ننكر فهم البشـر له، ونرفض أن تخلع عليه القداسة ويسوي بينه وبين القرآن، فالقرآن مقدس، أما الفهم البشري للقرآن فغير مقدس. من هنا تبرز أهمية إثباتهم قداسة وهمية للقرآن؛ حتى لا تكون مجاهرة بكفر يصد الناس عنهم. :: مجلة البيان العدد 320 ربيع الثاني 1435هـ، فبراير 2014م.

 

هوامش

[1] «نقد الخطاب الديني» ص 119.

[2] «مفهوم النص» ص 126.

[3] تعليق المترجم هاشم صالح: قلت الظاهرة القرآنية وكان يمكن أن أقول الحدث القرآني: أي القرآن كحدث تاريخي حصل في لحظة معينة من لحظات التاريخ. ومن الواضح أن أركون يفضل استخدام هذا المصطلح لكي يغرس القرآن في التاريخية ولكي يزيل عنه الشحنات اللاهوتية المرعبة التي تحول بيننا وبين فهمه على حقيقته. ينبغي تحييد الهالة اللاهوتية – ولو للحظة – لكي نستطيع أن ندرس النص في كل ماديته اللغوية ومعانيه التي تعكس حتماً أجواء بيئة معينة وزمن معين.

[4] «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل» ص 199.

[5] «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل» ص 63، 64.

[6] من العقيدة إلى الثورة (1/437).

[7] «الفاشيون والوطن» ص 271، 272.

[8] «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي» ص 5.

[9] «إعلام الموقعين»لابن القيم (1/175،174).

[10] «مجموع الفتوى» (7/114-115).

[11] «إعلام الموقعين» (3/5).

[12] «إعلام الموقعين» (2/368).

[13] «إشكاليات القراءة وآليات التأويل» ص 13.

[14] المصدر السابق ص 13-49.

[15] انظر: «فتح الباري شرح صحيح البخاري» لابن حجر (6/289).


التعليقات