الانتصار في المناطق الساخنة

الحياة صراع

عندما قرر ربنا أنه ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) علمنا أولا : إن الحياة الدنيا في دار الابتلاء تعني وجود الخير والشر . وثانيا : إن أهل الباطل لا يكتفون بفساد خاص بهم ، بل يحرصون على إفساد الأرض حولهم . وثالثا : إن الحياة يحصل فيها من الخير بقدر ما يحصل من مدافعة أهل الحق لأهل الباطل .

أهمية المناطق الآمنة

وبما أن هذا الصراع ممتد وطويل ، فإنه يحتاج إلى مناطق آمنة ، تجمع فيها فئة الحق قواها ، وتعد كفاءاتها ، وتحشد الإمدادات المطلوبة للاستمرار في المعركة ، بل وتتخذ فيه القرارات الاستراتيجية لإدارة المعركة بعيدا عن ضغط واقع مؤقت .

دور المناطق الساخنة

لكن المناطق الساخنة ، وهي أماكن الاشتباك والتدافع بين المعسكرين ، تبقى دائما هي أماكن الصراع الفعلي ، وفيها تكتب الانتصارات أو الهزائم وتحسم المعارك ، ومنها يكون التمدد أو الانكماش من خلال تحريك الحدود الفاصلة بينهما .

قبل الثورة المصرية

قلل النظام المستبد من المناطق الآمنة للعمل الإسلامي ، فحاصر الدعوة في المساجد ، وفرض السيطرة على النقابات المهنية والاتحادات الطلابية ، وضيق الخناق على أهل العمل الإسلامي في مختلف الوظائف الرسمية منعا أو تهميشا ، لا سيما ما كان منها متماسا مع الناس كالتدريس ، أو يمثل نوعا من القوة في الدولة كالجيش والشرطة .

في مقابل ذلك حرص على زيادة حدود دولته العميقة في كل مفاصل الدولة الرسمية والمجتمعية والاقتصادية ، وظلت المناطق الحدودية الساخنة يتم تقليلها وتبريدها بالسلطة الجبرية .

وجاءت الثورة

فتم الاشتباك بالحشد الجماهيري في الشوارع أمام بطش شرطة النظام ، وبقدر ما تزايد الدفع بالاستمرار في الاحتشاد ، بقدر ما تزايدت حدود الحرية وتراجعت حدود الاستبداد . كل ذلك كان باقتحام مناطق ساخنة وتحقيق نصر حقيقي فيها ، نصر كان له ثمنه من الدماء والجراحات بل وتحمل المخاوف من التبعات .

أدت المناطق اللآمنة دورها ، فالمخزون العددي من عموم الناس وخصوصهم استمروا في العطاء والدعم ، ربما لأن النظام قد نجح في إقناع الجميع أنه لا أمل في مستقبل ما دام مستقرا ، وربما لأن الطليعة التي كسرت هيبة القوة الجبرية قد فتحت للناس باب أمل ، أوهمهم الظالمون أنه لن يفتح أبدا ، وربما أدت ثورة تونس التي سبقتنا دورها في التأثير على الفئتين جميعا ، وربما أثر كل ذلك وغيره ، لكن النتيجة كانت ثورة رآها العالم كله .

مرحلة المجلس العسكري

حرص المجلس على تبريد الحدود الملتهبة ، وتفريغ المناطق الساخنة ، فأوهم القوى الإسلامية التي كانت القائد الشعبي بلا منافس أن الدولة كلها قد صارت منطقة آمنة لهم ، وسكتت المدافع السياسية والإعلامية إلى حين .

في الحقيقة كان المجلس يحتاج إلى وقت وإلى مناطق آمنة ، للتخطيط والإعداد والتحريك بما يغير معادلة الواقع لا أكثر .

وظهرت المناطق الساخنة مرة أخرى ، لكن باختيار عصابة المخلوع هذه المرة ، فتم حل مجلس الشعب ذي الأغلبية الإسلامية ، مع الدفع بالرجل العسكري الذي كان آخر رئيس وزراء للمخلوع ، والذي صرح بأن مبارك مثله الأعلى ، ليكون مرشح المجلس لرئاسة الجمهورية ، بعد استبعاد المرشحين الإسلاميين الذين كانوا مؤهلين للفوز بشكل كبير .

وأدت المناطق الآمنة التي حماها المجلس دورها ، فأمد زعماء العصابة ممن لهم مال ورجال الفريق أحمد شفيق بحملة منتشرة في طول البلاد وعرضها ، وقام أصحاب النفوذ في وظائف الدولة الرسمية بدورهم ، وألهبت حماسة الشرطة المجروحة بأن سلطة العسكر عائدة ولهم فيها أوفى نصيب ، كل ذلك في ظل غطاء كثيف من قصف الإعلاميين الذين لم تحسن توبتهم يوما ، مع غطاء قانوني معد سلفا من قضاة لهم تاريخ في التعاون معالنظام البائد .

عبور المرحلة العسكرية

لقد كانت المكاسب الآمنة التي أرضى وأوهم المجلس بها الإسلاميين مكاسب هشة ، يعلم أنه قادر على انتزاعها منهم في جولة تالية ، وليست مما يمكنهم من الزحف على مناطقه الآمنة ، بل كانت حيلة لسلبهم عناصر القوة الشعبية الثورية التي كان بإمكانهم من خلالها ، أن يحيدوا على الأقل أجهزة كالقضاء والإعلام ، ويقلموا أظافر الأمن السياسي والذي لم يغير فيه إلا الاسم ، ويزيدوا من حدودهم الآمنة بشكل حقيقي باقتحام تلكم المناطق الساخنة .

إن الزخم الإسلامي الثوري الذي لم يقنع بما يلقيه إليه المجلس العسكري من المكاسب الآمنة ، له دور لا ينكر في تغيير معادلة الواقع ، فتصعيد الفعاليات ضد العسكر منعهم مما أرادوه من تطويل لفترة حكمهم ، والتي لم تكن في صالح الثورة ولا الإسلاميين بحال . وإن الاستبسال في دعم المرشح الإسلامي ذي الفرصة النسبية في الفوز ، أمام مرشح المجلس الذي هدد خصومه الإسلاميين بـ”بروفة العباسية” أخر ما طمعوا فيه من إعادة دولتهم بمستويات سيطرتها المختلفة . بل إن الرئيس الإسلامي المنتخب لم يعترف له بالشرعية الحقيقية إلا بعد إقالة قادة المجلس العسكري ، والذين أقنعوا الناس من قبل أنهم الرئاسة الباطنة والأقوى للبلاد .

فلم يتحقق لنا مكسب حقيقي ، سواء أكان ماديا أم معنويا ، إلا بالدفع في المناطق الساخنة ، وتحمل المخاطرة فيها ، لا باللعب في المناطق الآمنة، وبهذا عبرنا المرحلة العسكرية .

الطريق إلى الاستقرار

إن عصابة المخلوع تمارس بمهارة اقتحام الحدود الساخنة على الإسلاميين ، لتحرمهم من حسن استثمار ما حازوه من مناطق آمنة ، ولتزيد باستمرار من حدودها الآمنة ، ولتقنع عموم الشعب أنه لا دولة على الحقيقة إلا دولتهم البائدة ، مع ترك رصيد سلبي عن فترة ظهور الإسلاميين على قمة المشهد السياسي .

والمكاسب التي تنالها الزمرة العلمانية هنا لا تقنعها بالمصالحة التبريدية إلا إلى حين ، لأنها تدعم خبرتها في طريقة الوصول إلى المصالح ، ولأنها تقربها من الهدف الذي تسعى إليه وهو الإطاحة بالإسلاميين واستعادة السيطرة على البلاد .

مع الوقت والاستمرارفي المعركة ، يفرض ميزان القوة نفسه ، بينما يبهت ميزان الحق أمام عيون الأكثرين حتى يكاد يتلاشى . فربما يشفق كثيرون على الضعيف ، وربما يلومونه أيضا ، لكنهم إنما يصطفون في النهاية خلف القوي ، ليعيشوا ويكسبوا .

إن من يريد أن يقنع بمكسب هش بارد ، فسيدفع ثمنا غاليا ساخنا ، وسيخسر معركة يفرضها عليه خصومه .

وعليه فلا طريق إلى الاستقرار إلا بحسن استثمار المناطق الآمنة لدعم اشتباك في المناطق الساخنة ، اشتباكا يحسن الإعداد له ، وترتب له مختلف الخيارات المحتملة ، مع استعداد لتضحيات تتطلبها طبيعة المدافعة ، وصبر حتى ينال النصر . وفي التاريخ عبرة .


التعليقات