الحركة الإسلامية بعد انقلاب مصر

ظلت الحركة الإسلامية طوال عقود تسبح عكس التيار ، تيار الخارج الذي يدير الداخل بوكلاء محليين ، لكنهم بقلوب الخارج ، وبقوة دعم الخارج . الخارج الحريص على منع الأمة المسلمة من استعادة مكانها في الحياة ، كأمة صاحبة رسالة تغيير للعالم ، وتحرير للثغور ، ونصرة للمستضعفين .

وظلت الحركة بمكوناتها المتعددة ، تدفع ثمن ذلك ، من الأرواح والأهل والأموال بل ومن الدنيا بأسرها . وظل منحنى نجاحها يرتفع وينخفض ، في وقت دون وقت ، ومكان دون مكان ، وباعتبار دون اعتبار .

لكنها وجدت كقدر رباني يستعصي على الإفناء ، ويتحرك دون أن تكون الأسباب التي يمتلكها مكافئة لأسباب خصومه في نفس الواقع .

لكنها وجدت كقدر رباني يستعصي على الإفناء ، ويتحرك دون أن تكون الأسباب التي يمتلكها مكافئة لأسباب خصومه في نفس الواقع .

ومع عـولمة الحرب على الإسلام ، باسم عـولمة الحرب على الإرهاب ، في تسعينيات القرن الماضي ، صارت الحركة تعمل فيما يشبه النفق المظلم المسدود ، بقوة البطش والاستبداد . فلم يقدر أحد أن يرى المخرج بالتفصيل ، إنما كان السعي بمقتضى الرسالة الإيمانية ، في حيز المدافعة الممكنة . وهذا عند من لم يتراجع ، أو يحاول توفيق أوضاعه ، مع الجاهلية المتغلبة .

وجاءت ثورة يناير ..

فسقط الجدار ، وكسر كهف القهر ، بعد أن كاد الناس ييأسون من إمكان انكساره . كل ذلك بقدر رباني غالب ، هو أكبر من كل إمكانيات الحركة الإسلامية ، بل ومن إمكانيات الواقع المحيط بها . دون نفي لدورها قبل الثورة وفيها ، لكن الفجوة بين الفعل الإنساني والنتيجة الحاصلة ، هو الذي يدفعنا لتقرير اللمحة القدرية الغالبة ، في حدث الثورة .

ومع ظهور الحركة الإسلامية على سطح المشهد العام ، ظهرت مشكلات كانت مختفية في ظلمة كهف الاستبداد . فلم يكن الاستبداد فقط هو الحاجز بيننا وبين ما نرجوه ، لكنه كان العائق الأظهر ، والذي كانت تختفي وراءه بقية العوائق ، عن كثير من عيون الطيبين ، والذين كانوا يرون الحركة الإسلامية كما يحبون أن تكون ، لا كما هي كائنة ، والذين كانوا ينظرون باتهام لمن يحاول إيضاح أخلال خطيرة بالصف ، حتى لو كان ينصح ولا يعادي .

أخطر أخلال الحركة 

هي تلك الأخلال التي تعرقل المسيرة مع الرضا بها ، فتكون أخلالا محمية من الداخل الإسلامي ذاته ، في نفس الوقت الذي تحول فيه بين الحركة الإسلامية وبين الاقتراب من أهدافها الحقيقية . ومن أهمها :

أولا : الاختراقات القمية

والتي تمت من خلال تلميع شخصيات بعينها ، ليكونوا رموزا حاضرين للحركة . سواء أكانوا عملاء أصليين ، أو كانوا ضعفاء متعاملين ، إذ أن المحصلة التوجيهية واحدة .

وتزداد خطورة هؤلاء في اللحظات التغييرية الحاسمة ، حيث يكون لهم دورهم في شق الصف الإسلامي من الداخل ، وفي التخذيل عن المدافعة الواجبة ، وفي صرف الحركة إلى أهداف تشويشية على الأهداف الحقيقية في المرحلة الواقعية ، وفي شرعنة الباطل أو شرعنة التعايش معه والاستسلام له .

ثانيا : عجز كثير من القيادات التقليدية للحركة

عن إدارة الصراع في مرحلة ما بعد الثورة ، سواء أكانوا من القيادات الحركية ، أم من القيادات العلمية . إذ للمرحلة متغيراتها السريعة ، وصراعاتها المتلونة . وكون المرء من أهل الأمانة ، أوحتى الكفاءة في أدوار معينة تمرس عليها ، ليس بكافيا لأن يكون هو نفسه قائد مرحلة التغيير الثوري والسياسي .

والأخطاء الفادحة ، بل والمتكررة ، والتي نبهنا وغيرنا عليها كثيرا ، والتي أوصلتنا جميعا إلى مرحلة الانقلاب أكبر شاهد لهذا . كالانفصال عن الشارع ، وعدم إعطاء الأولوية لاكتسابه ، والسماح للإعلام بتكريس فجوة بيننا وبينه ، والرضا بالمكتسبات الهشة ، والثقة في قادة العسكر ، والتهاون في التطهير في أجهزة الدولة المختلفة ، والضعف في إظهار الانتماء للشريعة ، مع إعطاء مكتسبات لخصومها .. إلى آخر تلك القائمة ، التي صار التسليم بها أسهل ، بعد فوات الأوان .

ثالثا : ضعف الروح الثورية لدى القواعد

فهناك فئات أقنعها قادتها بأن الطريق الطويل البطيء أكثر أمنا ، وهناك فئات تعتمد مبدأ المغانم الباردة والتفاهمات الساخنة

كميراث سيء من فترة الاستبداد السابقة لثورة يناير . فهناك فئات أقنعها قادتها بأن الطريق الطويل البطيء أكثر أمنا ، وهناك فئات تعتمد مبدأ المغانم الباردة والتفاهمات الساخنة ، وهناك فئات قد خرجت من تجربة مؤلمة طويلة لتوها ، وهناك فئات تائهة تتأثر بالتشويشات والتجاذبات ، هذا غير الفئات التي تريد الثورة لكنها لاتدري .. على من تثور؟.. ومع من تثور؟.. وكيف تثور؟..

وقد كرست إشكالات أكثر هذه الفئات ، بالممارسات الخاطئة لكثير من الإسلاميين ، في مرحلة ما بعد الثورة . خاصة على مستوى الخطاب السياسي ، والذي ظهر في مجلس الشعب قبل حله ، وفي مسألة الرئاسة قبلها وبعدها . وعلى مستوى الخطاب الشرعي ، الموجه للخطاب السياسي . مما أغرى الخصوم بنا ، وجرأهم على ما اقترفوه من انتهاك للحرمات ، وأوهمهم أن انقلابهم سيمر باستسلام منا ، ليتخلصوا منا بعد ذلك بالقتل والأسر والتشريد .

فوقع الانقلاب ..

غافلا عن حقيقتين كبيرتين :

الأولى : القدر الرباني الغالب

والذي رآه المؤمنون يدير المشهد كله فوق الأسباب المعتادة ، مغيرا خط التاريخ ، وراسما ملامح جديدة للمستقبل . مؤذنا بأفول عهد الجبرية ، وممهدا ببشائر عودة الأمة إلى الراية الإسلامية ، في استعمال عجيب للأولياء والأعداء جميعا .

الثانية : التغير الداخلي في الحركة والشارع

فما ذكرناه من سلبيات سابقة ، كانت هي المشهد العام جدا ، أما في الداخل فقد كانت هناك تحولات إيجابية . لكنها كانت أضعف من أن ترسم المشهد العام ، وقد تكلمت عن أهمها سابقا في مقال “الحركة الإسلامية في مصر بين جمعة 18نوفمبر2011  وجمعة 9نوفمبر2012” وهذا على مستوى الحركة ، إذ هي رائد الشارع ، ولعل متغيرات الشارع تحتاج إلى دراسة مستقلة .

فكانت النتائج الإيجابية للانقلاب :

والكلام هنا عن فترة الانقلاب ، بما تشمله من مراحل التصعيد الأمني والسياسي والإعلامي ، قبل إعلانه وبعده ، باعتبار أن أحداث هذه الفترة بمجموعها ، ساهمت في حصول هذه النتائج .

أولا : انكشاف كثير من المزيفين

والذين راهن عليهم خصوم الحركة الإسلامية لتمزيقها وشلها ، ففضحتهم الممارسة الصادمة للولاء الإيماني ، وخذلانهم للأمة وقتما احتاجتهم لنصرتها . ففقدوا أكثر رصيدهم ، وتجاوزهم أكثر الصالحين الذين كانوا مخدوعين بهم ، حتى هانوا على من ظنوا أنه ينفعهم من خصوم الإسلاميين .

ثانيا : هدم صنم الثقة العمياء في أكثر الرموز التقليديين

فقد كانت صدمة الواقع بانهياراته أكبر من أن تمر على قواعد الحركة مرور الكرام . ومطارق الأحداث أزالت كثيرا من أوهام التعلق بآراء أناس لهم في الجملة فضلهم ، فليس من أحسن دورا يحسن كل الأدوار ، ولا بد من إتاحة الفرصة لمن صدق رأيه المرة بعد المرة .

ثالثا : تفجر معاني الجهاد والاستشهاد

التي بها تحيى الأمة . فظهرت حقيقة الصراع ، وأنه على الإسلام وشريعته لا غير ، وعلى نصرته عقد الولاء . وأعليت الأهداف الأخروية ، مع التضحية بمتاع الدنيا الزائل ، ومع الاستعداد لتركها بالكلية في أية لحظة . وقامت المدافعة التي بها تستجلب المعونة الربانية ، وعلى أهلها يتنزل النصر .

وخلاصة القول ..

إننا كأمة نتقدم ، وكحركة نتحسن ، نتحسن بآلام لنتجاوز بسرعة ما لم ننجزه في الدعة وبطئها . والله – تعالى – بقدره يصفينا ويؤهلنا لما يحبه لنا من خير الدنيا والآخرة .

وإن تجاوزنا لبقية عوائقنا ، سيقلل من الضريبة التي ندفعها في الطريق . لكنها الدنيا بامتحاناتها المتنوعة ، وجمعها بين الخير والشر ، ليس فقط في صفين متقابلين ، بل وفي الصف الواحد . تحتاج إلى بصيرة واعية ، وعزيمة ماضية ، في ظل طمأنينة يقين .


التعليقات