كيف أن الشعب المصري متدين وفرعوني في الوقت ذاته؟

هناك إشكالية حول تناقض الشعب المصري بين تدينه واهتمامه بالنسك، وبين ما عرف عنه تاريخيا من إعلائه لقيمة الحكم الفرعوني وما نتج عن تشبعه بذلك النمط من سلبية تجاه الإسلاميين، الحقيقة أن الظاهرتين، ظاهرة تدينه وظاهرة فرعونيته وموقفه العدائي من الإسلاميين، يصدران عن أصل واحد هو (التدين) أو(التعبد) و(التأليه).

هذه المعاني راسخة عند الشعب المصري، لكنها تُنتج مظاهرها بحسب موضوعها، حين يكون موضوع الألوهية هو الله، فالشعب متدين له، وحين يكون موضوع الألوهية هو الحاكم، فالشعب متدين له أيضا، في الحالة الأخيرة يختلط الاهتمام بالنسك الديني مع النفور من الإسلاميين كأعداء للإله الفرعون.
إنها صورة من صور تعدد الآلهة. الشعب المصري طور مفهوما عن الإسلام يتضمن تسوية بين إلهين: الله.. الفرعون. جريمة الخروج على الفرعون يبررها المصري بحرمة الدماء في الإسلام.. التسليم بالاستكبار الفرعوني يبررها المصري بأن الله يعطي الملك من يشاء.. تكفير الفرعون يرفضها المصري استنادا إلى محاذير إسلامية متعلقة بقضايا التكفير.. وهكذا.

السلطة نفسها أحد أبعاد الألوهية.. وعن طليقها ترسخت لدى الشعب المصري نزعته لفكرة الدين عموما.. والصراع مع الإسلاميين أساسا موضوعه هو (تطبيق الشريعة)، كيف هو مطلب حميم لدى الإسلاميين، ومطلب محفوف بالارتياب عند الشعب المصري، المسألة هي أنه مطلب فارق بين إلهين.. الله والفرعون.

الغيب

وهو أحد العناصر الهامة في تكوين الدين والتدين، متوفر أيضا في العلاقة بين المصري والفرعون، كلمة (آمون) تعني (الخفيّ)، وفي الشعبيات المصرية المعاصرة ينبهر المصري بالحديث عن (الأيدي الخفية) التي تحرك الأحداث، (الجهات السيادية) التي تعلم كل شيء ولا يعلم عنها أحد شيء، إنها مظاهر ألوهية بحتة ” تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.” [المائدة/116].

السلبية السياسية

التي عرف بها الشعب المصري تجاه الحاكم ليست مفهومة إلا من خلال مثول هذا الشعب أمام حاكمه في مقام ” لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ “ المصريون العبيد لا يتدخلون في السياسة إلا حين يكون النموذج الفرعوني في وضع تهديد، حينها يتدخلون للحفاظ على وجوده، أما حين يستقر هذا الوجود فيعودون إلى أهم طقوس الفرعون، وهي عدم مساءلته عن أفعاله. ألوهية الفرعون هي ما تحدد متى يتدخل المصري العبد في السياسة، ومتى يلتزم الخرس.

النشوة التي يعيشها العبيد

حين يظهرون ولاءهم للعسكر بكراهية أعدائه من الإسلاميين مشتقة من نفس مصدر سعادة الإسلاميين حين يعادون العسكر لأجل الله.. كلاهما دين.. ولكن أحدهما دين حق والآخر دين باطل.

عقيدة القضاء والقدر

يحسن المصريون منحها للسلطة، فهم لا يشعرون بأي انزعاج تجاه ضحايا السلطة، لا يتولد عندهم كراهية أو شعور بالثأر تجاهها، وكأن ضحاياها هم مثلا ضحايا زلزال أو كارثة طبيعية، سبب ذلك هو أن السلطة، في المتخيل الشعبي، هي القضاء والقدر، إنها كيان فوق المساءلة وأكبر من أن تكون موضوعا للغضب.. فقط الحزن متاح على ضحاياها.. لكن الغضب منها كفر بـ (القضاء والقدر)، خاصة لو كان هؤلاء الضحايا من معارضي النظام، حينها فالشعور العام هو أنهم مسؤولون عن مصيرهم هذا بلا شك. وغالبا حين تواجه أحدهم بمظالم للسلطة أودت بحياة البعض، تكون إجابته هي أن هذا قضاء الله وقدره، وأن لكل إنسان أجل، وقد جاء أجلهم. إنه يستعير مفردات دينية لتعويض ديانة الفرعون عن خلوها من تلك المفردات، ولسان حالهم يقول: (إنه قضاء السلطة وقدرها) لا قضاء الله وقدره.

مشاعر الكراهية

التي يكنها البعض للإسلاميين هي ذات طابع ديني، إنها كراهية عميقة ومستقرة وغير مبررة، وصاحبها قد يضحي في سبيل ممارستها، وهو مع ذلك لا يدري لها سببا واضحا، ولا يستطيع صياغة مبررات معقولة.. الحقيقة أن مبررها غير واعي، وهو أن الوجود الإسلامي تهديد لوجود الفرعون، تماما كما كان وجود موسى تهديدا له. طبعا هذا ليس حكما للإسلاميين بالكمال والخلو من الأخطاء، لكن هذه الأخطاء هامشية بالنسبة لأصل العداء الذي يكنه الشعب لهم.

النزعة الدينية لا ينفيها العلاقة السلبية بين الشعب المصري وبين الإسلاميين، بل على العكس، هي تؤكدها لأنها أحد أشكالها، إنه شعب متدين بطبعه.. هذا الكلام صحيح.. ولكنه يدين بدينين لا دين واحد.

 ” الشعب المصري يعبد الله ويعبد الفرعون”

التعليقات