سورة النمل دراسة في علم المناسبة

من قواعد علم المناسبة.. قاعدة ذكر الأنبياء وترتيبهم في السور.
وسورة «النمل» مثال واضح على هذه القاعدة؛ حيث ورد فيها ذكر جمعٌ من الأنبياء؛ هم «موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، ومحمد صلى الله عليهم جميعًا»؛ حيث لا تجمع بينهم أي مناسبة أخرى؛ من عِرق واحد أو ترتيب زمني واحد أو مكان جغرافي واحد.. لكنهم يرتبطون -جميعًا- بعلامة الدابة التي ستخرج في آخر الزمان، ويمثل ذكر كل نبي جانبًا أساسيًّا في فهم هذه العلامة..
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان بن داود، وعصا موسى بن عمران -عليهما السلام- فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى إن أهل الحواء ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر»([1]).
ولما كانت الدابة علامة من علامات الساعة اتجهت الآياتُ من بداية السورة إلى الحديث عن «الآخرة»؛ حيث جاء لفظ «الآخرة» في ثلاث آيات متوالية:
**طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}[1-6].
والتعقيب بقوله تعالى: {من لدن حكيم عليم} يدل على اتجاه السورة من البداية -أيضًا- نحو إثبات الحكمة والعلم في أفعال الله سبحانه وتعالى.
كما سيأتي ذكر الآخرة في قوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [66].
ذكر موسى عليه السلام:
فقد جاء مضمون قصة موسى -عليه السلام- مرتبطًا بالعصا «التي ستكون مع الدابة»؛ ذلك أن القصة بدأت بتكليم الله -عز وجل- لموسى عند جبل الطور: {وما تلك بيمينك يا موسى} [طه: 17].
قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [7-9].
وتجربة العصا –كما جاءت في سورة النمل– هي نفسها مضمون قصة موسى مع فرعون، وهي أيضًا أهم ما جاء في وصف الدابة؛ ليتأكد مدى جوهرية العلاقة بين ذكر موسى والدابة:
فكما كان فرعون -قبل بداية الصراع- بالنسبة لموسى منافع.. كانت العصا مع موسى. وكما تحوَّل فرعون إلى عدو يريد قتل موسى.. تحولت العصا إلى حية. وكما فرَّ موسى من فرعون.. كان فراره من الحية.
والآن يجب أن يعود موسى إلى الحية، بوعد من الله أن تعود إلى سيرتها الأولى؛ قال تعالى: {خُذْهَا ولا تَخَفْ سَنُعيِدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21]..
وكذلك يجب أن يعود إلى فرعون بوعد من الله؛ أن يحفظه من فرعون؛ قال تعالى: {لَن يَصِلُوا إلَيْكَ} [هود: 81]، وقال سبحانه: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46].
وكما أعاد الله الحية عصا.. عاد فرعون عاجزًا عن قتل موسى.
لقد كان من المتوقع أن يقتل فرعون موسى بمجرد أن يراه؛ لكنه لا يزيد عن قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى} [غافر: 26]!!
بل يضع نفسه في مقارنة مع موسى، وهو ملك مصر: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف: 51، 52]!!
وكأنه كان مضطرًا إلى هذه المقارنة!!
وبذلك كانت تجربة العصا –في سورة النمل– هي نفسها مضمون قصة موسى مع فرعون..
ودليل هذا الفهم: أن الأمر الموجه إلى موسى من الله -سبحانه وتعالى- بالرجوع إلى العصا كان بصفته «من المرسلين»؛ قال تعالى:
** وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [10، 11].
أي: لا تخف مما ترى، فإني أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًّا وجيهًا([2]).
قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولًا بهذا القول([3]).
ليكون الأمر بالرجوع إلى العصا بمقتضى الرسالة وبصفته «من المرسلين»؛ لأن الرجوع إلى العصا في حقيقته تجربة كاملة للعودة إلى فرعون.
وكذلك تكون العصا مع الدابة: فتجلو وجه المؤمن بالعصا.
وفي هذه الآية إشارة إلى إمكانية تغيير العمل وتبديل السوء بالحسنى وهو الأمر الدال على مغفرة الله ورحمته لنفهم أن ظهور الدابة وعدم الانتقال من الكفر إلى الإيمان بعدل الله وحكمته.
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [12، 13].
ومناسبة هذه الصيغة مع آية الدابة هي ذكر تحول عمل الإنسان من السوء إلى الحسن وهو الأمر الذي لن يكون بعد ظهور الدابة؛ حيث سيختم لكل إنسان بما عليه من العمل.
فالدابة تخطم أنف الكافر أي تسمه.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [14].
وعلامة الدابة تعني في جوهرها قضية اليقين؛ لأن الدابة ستخرج
لأن الناس لا يوقنون بآيات الله
ولذا أخذت مناقشة قضية اليقين قدرًا كبيرًا من آيات سورة النمل.
وكان أول ذلك هو مناقشة اليقين النفسي الذي لا يكون معه عمل وهو كعدمه كما في قول الله سبحانه: ** وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتهَا أَنْفُسَهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوَّا فَانظُرْ كُيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمفْسِدِينَ } [ النمل: 14 ].
واجتماع الجحود والاستيقان في قلب واحد ووقت واحد سؤال يجب الإجابة عليه.
فليس الجحود انتفاء معرفة القلب ولكنه مخالفة الجوارح لمقتضى معرفة القلب.
ولعل هذه الآية بتفسيرها تمثل الأساس في قضية اليقين الواردة في السورة. لأن موضوع السورة والدابة.. هو العمل الذي لا ينفع اليقين النفسي إلا به
ثم يأتي ذكر داود وسليمان:
{ولَقَدْ آتَيْنَا دَاودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [15].
والمناسبة في ذكر داود تتضمن حقيقتين مهمتين بالنسبة لعلامة الدابة:
الأولى: أن خروج الدابة جاء بسبب كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة هي خطاب الله للإنسان، وأعلى درجات المخاطبة «الكلام»، ومن هنا كان فضل موسى على الرسل هو كلام الله له: ** تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة: 253 ].
وعندما يكون الفضل في كلام الله للأنبياء الذي يبلغوه للبشر نفهم معنى الحرمان من هذا الفضل عندما يكون المتكلم مع الناس دابة من الأرض.
لذا كانت العقوبة على هذا الكفر هي النزول بمستوى البشر عن أن يكونوا أهلًا للمخاطبة بطريق المرسلين: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}.
فجاءت الدابة ومعها هذه الآيات، فتُكلِّم الناس بصيغة تتناسب مع ما وصلوا إليه من الكفر: بالتوبيخ والخطم؛ «حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه تقول: يا فلان، الآن تصلي؟! فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم تنطلق…»([4]).
وعلى ذلك تكون الدابة مرتبطة في دلالتها بما بلغه الإنسان من التدني، والانحطاط!!
ومن هنا كان من الضروري إثبات المقام الأصلي للإنسان؛ لأن إثبات هذا المقام هو نفسه الذي يُثبت معنى الانحطاط الذي بلغه هذا الإنسان، حتى بلغ أن يُخاطب من خلال الدابة…
وعندما يُذكر المقام الأصلي للإنسان يُذكر «داود» كنموذج لهذا المقام.. بدليل حديث الوبيص الوارد في سنن الترمذي:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عيني كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أي رَبِّ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أي رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ…»([5]).
ومقام داود بين ذرية آدم هو بُعد واحد من أبعاد هذا المقام؛ ولكن لمقام داود في إطار قضية الدابة أبعادًا أخرى منها:
أن ذكر فضل داود بالنسبة للأنبياء جاء مرتبطًا بالزبور وهو كتاب الأقدار الكونية الغيبية حتى قيام الساعة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء: 55] وفيه يقول الطبري: «يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم؛ فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ومن هو أهل للعذاب، أهدي للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان… عن قتادة، قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلَّم موسى تكليمًا، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورًا، كنا نحدِّث دعاء عُلِّمه داود، تحميد وتمجيد، ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر»([6]).
ويقول الرازي في تفسيره: «فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر؟ إن السبب في تخصيصه بالذكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمدًا خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم»([7]).
ويقول الألوسي: «وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، وأمته خير الأمم- مما تضمنه الزبور، وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلًا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِي الصالحون} [ الأنبياء: 105 ] يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم»([8])
وامتدادًا لمفهوم المقام الإنساني الذي يمثله الإنسان النموذج «داود» يأتي ذكر سليمان ليشاركه هذا المقام: ** وَلَقدْ آتَيْنَا دَاودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًَا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ اْلمُؤْمِنِيِنَ }.
ومن هنا جاء في نص حديث الدابة: «وخاتم سليمان بن داود عليهما السلام»، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم داودَ مع سليمان.
فمكانة الإنسان الأصلية محفوظة، وذكر داود وسليمان هو الدليل على هذا المقام.
بل إن موقف الدابة -بعد خروجها مباشرة- من المؤمنين الثابتين هو تقرير المقام الأصلي للإنسان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وثبتت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم فجلّت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري».
سليمان.. والدابة:
وكما بدأت قصة موسى بآية العصا… بدأت قصة سليمان بتعلم منطق الطير.
فتبدأ بـ «الحقيقة الأولى» المتعلقة بعلامة الدابة التي ستنطق وتكلم الناس مثلما ينطق الطير:
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاودَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [16، 17].
ثم ذِكر «تكلم النملة»:
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [18، 19].
ولعلنا نتبين محورية الموضوع من تسمية السورة؛ حيث نُسبت إلى النملة التي سمع سليمان قولها.
ثم ذكرت «تكلم الهدهد» بعد النملة:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [21، 22].
ولعل المناسبة في قصة الهدهد بين «سبأ والدابة» هي أن الخرجة الأولى للدابة ستكون من أقصى اليمن كما جاء أنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدَّابَّةُ يَكُونُ لَهَا ثَلاثُ خَرَجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ: فَتَخْرُجُ خَرْجَةً فِي أَقْصَى الْيَمَنِ …».
وأقصى اليمن هو سبأ.. كما جاء في تفسير الرازي: «أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى: ** قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }»([9]).
وبذلك تكون مناسبة ذكر سبأ في قصة الهدهد هي أنها المخرج الأول للدابة.
وتتواصل الآيات في ذكر الحوار بين سليمان والهدهد ليساهم هذا الحوار في تقرير قضية الدابة؛ لأن الدابة من غيب الأرض؛ قال تعالى:
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [25، 26].
لأن الخَبْءَ كلُّ ما غاب([10]).
وقد ذكر الهدهد هذا المعنى الإلهي من خلال واقعه؛ حيث إن خبرته الخاصة أنه يرى ما تحت الأرض والطين، وهو من غيب الأرض.
وارتباط ذكر الهدهد لفعل الله «إخراج الخبء في السموات والأرض» بخبرته الخاصة- يُثبت قاعدة مهمة في قضية الأسماء والصفات: وهي أن أسماء الله وصفاته وأفعاله المعلومة لنا ينطبق عليها حدود معرفة الهدهد بالله..
فتكون هذه الأسماء والصفات والأفعال المعلومة لنا هي المناسبة لنا والمحدودة بواقعنا البشري كذلك.
ولذلك ورد أن لله أسماء لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك.. أو علمته أحدًا من خلقك.. أو استأثرت به في علم الغيب عندك.. أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء همي وغمي..»([11]).
وقد تجانس كلام الهدهد مع كلام الدابة في إدراك حقيقة التوحيد والمفاصلة بين الإيمان والكفر، وبذلك كان كلام الهدهد لا يقل إعجازًا عن كلام الدابة، فإذا كانت الدابة ستعرف المؤمن من الكافر وتفاصل بينهما فإن الهدهد تكلم بنفس المستوى وحقق نفس المفاصلة من خلال:
– البصيرة في معرفة الواقع وتقييمه.. {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فيُقيِّم الهدهد الواقع: شرك بالله ومعرفة بالسبب وهو الشيطان وتزيينه العمل والصد عن السبيل.
– المنهج والعقيدة.. {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}([12]).
العلاقة بين سليمان وملكة سبأ.. وبين الدابة:
والعلاقة بين قصة سليمان وملكة سبأ وبين الدابة هي المضمون الثابت الواضح للقصة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن انقطاع هذا الأمر هو السبب الأساسي لظهور الدابة: عن ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض} قال: «إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر»([13]).
وكل نصوص القصة تثبت هذا المضمون؛ ابتداءً من مواجهة الهدهد لسليمان:
{قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } [27-37].
وانتهاءً بإسلام ملكة سبأ مع سليمان والذي سيؤكد لنا أن أساس الدعوة ليس بالكلام الذي تعرض به القضية فقط بل بصحة الأسلوب العملي الذي ينجح في كشف حقيقة الإيمان الكامنة في كيان الإنسان، حتى دون الطلب الصريح أو الدعوة المباشرة ولو بكلمة واحدة. فكل ما حدث من سليمان مع ملكة سبأ أنه أدخلها في تجربتين:
الأولى: لإثبات قوة العقل وكانت بأخذ العرش وتنكيره ثم عرضه عليها وسؤالها: {أهكذا عرشك}؟ فأجابت أمثل إجابة فقالت: {كأنه هو}. ولم تقل هو؛ لأنه منكَّر، ولم تقل: ليس هو لأنه هو.
قال تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [38-42]
فأدخلها في التجربة الثانية وكانت لإسقاط الغرور عن نفسها:
قال تعالى: ** وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ * قيل لها ادخلي الصرح فلما دخلته حسبته لجَّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرَّدٌ من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين} [43، 44].
وبإثبات الذكاء وإسقاط الغرور تمت دعوة سليمان للملكة فقالت: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}.
ثم يأتي ذكر ثمود قوم صالح:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [45-53]
فهذه النتيجة التي انتهى إليها قوم صالح بعد دعوته لهم.. هي نتيجة كل الرسالات وهي أيضًا الواقع الذي ستختم عليه الدابة فلا يتغير بعدها أبدًا: «فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ وَتَخْتِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، حَتَّى حتى إن أهل الحواء ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر».
والمناسبة بين ثمود والدابة هي الناقة التي تتجانس في طبيعتها مع الدابة؛ حيث إن الآيتين كانتا بالتولد من الأرض.
وفي هذه المناسبة يقول الألوسي: «وفي تقييد إخراجها -أي الدابة- بقوله سبحانه: {مّنَ الأرض} نوع إشارة -على ما قيل- إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد؛ بل هو بطريق التولد»([14]).
قال القرطبي: «أولى الأقوال للعلماء في صفة الدابة: أنها فصيل ناقة صالحوهو أصحها، والله أعلم». واستدل بحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة، وفيه:… «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة -خيرها وأكرمها على الله- المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام…» ووجه الدلالة من هذا الحديث قوله: وهي ترغو، والرغاء للإبل([15]).
ثم يأتي ذكر قوم لوط:
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } [54-58]
والمناسبة بين ذكر نبي الله لوط والدابة هي خرجة الدابة من «سدوم» مكان قوم لوط؛ وذلك كما ورد في القرطبي وابن كثير: «وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها…» رواه ابن أبي حاتم([16]).
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:
وهو الوارد في قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [91].
ومن مجمل أقوال العلماء تحدد في خروج الدابة ثلاثة مواضع: هي: أقصى اليمن، وسدوم([17])، ومكة.
وإن كان ذكر معجزات الأنبياء ومعجزات الدابة -قبل آخر الزمان- مرتبط بمن يراها في زمن الأنبياء ومن يراها في زمن الدابة؛ فالآيات الباقية لكل البشر في كل زمان ومكان منذ خلق آدم حتى قيام الساعة هي الرسالات والنبوات التي تقوم بها حجة الله على جميع الخلائق، وهي–أيضا- الآيات الكونية في السماء والأرض، ومن هنا اجتمعت هذه الآيات في سياق واحد يرتكز بصورة واضحة على الأرض؛ ليكون ذلك هو المناسبة بين السياق والدابة باعتبارها أعظم آيات الأرض:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [59]
وتلك هي الحجة الشرعية وهم الأنبياء والمرسلون.. يأتي بعدها الحجة الكونية:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [60].
فتبدأ الآية بالسموات والأرض ولكنها لا تنتهي من ذكر السماء إلا وقد وجهتنا إلى «الأرض»:
{أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [61-64].
والسؤال المتكرر في السياق معناه: إثبات أن الله وحده –سبحانه- هو المتصرف في الخلق وهو نفس المعنى المأخوذ من النص الوارد في الدابة، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الدابة لها ثلاث خرجات من الدهر»؛ لأن الدهر هو الدليل على خضوع الزمان وأحداث الزمان لإرادة الله عز وجل، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «قال الله يسب بنو آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار»([18]). ومن هنا كان النهي عن سب الدهر؛ فإن الأيام والليالي بيد الله عز وجل.
ولكن السياق يختم بما يكون أساسًا لعلامة الدابة باعتبارها من غيب الأرض:
{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [65].
وكذلك باعتبارها دليلا علي الآخرة:
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ} [66].
أي: تتَابع علمهم في الآخرة وتواطأَ حين حَقَّت القيامة وخسروا وبان لهم صدق ما وُعِدُوا حين لا ينفعهم ذلك العلم([19])، ونفي المنفعة بالعلم يبدأ بخروج الدابة؛ حيث تقول للكافر: يا فلان، الآن تصلي؟! فتقبل عليه فتسمه في وجهه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [67].
فسيخرجون بعد أن يكونوا ترابًا.
هكذا يكون البعث: ينفض جميع ولد آدم عن أنفسهم التراب كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأول من ينفض التراب عن رأسه ولا فخر»([20]).
تمامًا كما ستفعل الدابة وتنفض عن رأسها التراب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة -خيرها وأكرمها المسجد الحرام- لم يرعهم إلا وهي قرب ترغو بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب»([21]).
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [68].
وباعتبار أن المرسلين هم الحجة الشرعية المانعة من الوصول بالبشر لمرحلة الفساد الذي سيكونون عليه عند خروج الدابة- ومن هنا كان توجيههم في مواجهتهم لأعدائهم.
الذين اعتبروا الآخرة من الأساطير حيث أمرهم الله بالسير في الأرض ليستبينوا مصير المجرمين.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [69].
وكانت العناية بالمرسلين في تلك المواجهة: فأمر الله رسوله بأن لا يأسى عليهم ولا يضيق بمكرهم
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [70].
ويواجههم في تساؤلهم عن وعد الله وينذرهم بالساعة وأشراطها:
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } [71، 72]
وهنا يرد في السورة نفس اللفظ الدال على القرب بين الساعة والدابة. والوحدة اللفظية للموقفين تدل على غرض الربط بينهما.
ففي الساعة تقول سورة النمل: ** وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }
** رَدِفَ لَكُمْ } وراءكم وأنتم لا تدرون، وقريبًا منكم وأنتم لا تشعرون..
قال ابن عباس {ردِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أن يكون قرب لكم بعض الذي تستعجلون([22]).
وبذلك تكون الدابة أقرب تشبيه لقرب الساعة من الإنسان مثلما تكون الدابة ردف الرجل وهو لا يدري كما جاء في الحديث الذي رواه ابن كثير في تفسيره للآية: «حتى إن الرجل ليتعوذ منها في الصلاة فتأتيه من خلفه.. لا ينجو منها هارب»([23]).
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [73-76].
بنو إسرائيل.. والدابة:
ومناسبة ذكر بني إسرائيل قبل ذكر الدابة يأتي من ناحيتين:
الأولى: أن «الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» هو اختلاف اليهود والنصارى في عيسى ابن مريم؛ كما ذكر الطبري في تفسير الآية، قال: «إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد يقصّ على بني إسرائيل الحقّ، في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى، فقالت اليهود فيه ما قالت، وقالت النصارى فيه ما قالت، وتبرأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها، فقال جلّ ثناؤه لهم: إن هذا القرآن يقصّ عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه، وأقرّوا لما فيه، فإنه يقص عليكم بالحقّ، ويهديكم إلى سبيل الرشاد»([24]).
والثانية: أن الدابة ستخرج وقد تحقق القول الفصل في عبودية عيسى ابن مريم؛ حيث تخرج الدابة وهو عليه السلام يطوف بالكعبة.. ووصفُ النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله: «رأيت عيسى وهو يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل»([25]) وفي نفس النص يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين، وفي ذلك إثباتٌ لافتقار عيسى والدجال، ونفيًا للألوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى، ونفيًا للألوهية التي ادعاها الدجال لنفسه([26]).
حيث روي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى، وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري، وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر»([27]).
وملاحظة أن الدابة ستخرج وعيسى يطوف بالبيت تستوجب التفسير؛ ذلك أن ترتيب ظهور الدابة هو بعد الدجال وعيسى ويأجوج ومأجوج، وأن ظهور الدابة مقترن بآخر العلامات ظهورًا وهي خروج الشمس من المغرب.
ومن هنا فإن ترتيب العلامات كما وردت في النصوص أمرٌ يتطلب المناقشة.
لأن النصوص الواردة في ترتيب العلامات جاءت بأساس منهجي، وليس لمجرد الترتيب الزمني.
وهناك عدة أبعاد في ترتيب العلامات:
منها: الترتيب من حيث الفرق بين وجود العلامة وفاعليتها.
لأن وقت وجود العلامة لا يعني أن يكون هو وقت فاعليتها في الواقع.
فالدجال موجود ولكن ليس له أي أثر كعلامة؛ بل إنه في حديث الجساسة يحبذ الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام([28]).
حيث إن هذا الظهور له دلالته وهي التقابل مع المسيح عيسى من حيث وجوده.
فكما أن عيسي موجود يكون الدجال موجود.. تحقق التقابل التام بينهما.
وكذلك يكون وجود الدابة وابتداء ظهورها مع وجود عيسى؛ ودلالته هي العلاقة المنهجية بينهما، ولكن فاعليتها كعلامة ستبدأ بعد عيسى والدجال ويأجوج ومأجوج.
وفي إطار الارتباط بين الحكمة من العلامة وترتيبها في النصوص جاء الإخبار عن الدابة والشمس بإطلاق دون ترتيب بينهما؛ لاعتبار اشتراكهما في علة واحدة وهي أنه لا ينفع نفس أيمانها إذا ظهرت إحدى هاتين العلامتين..
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في علامة الشمس والدابة من حيث الترتيب: «وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا»([29]).
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [77-79].
وتفسير خروج الدابة هو كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة هي خطاب الله للإنسان.. أما تفسير الكفر نفسه فهو عدم سماع الناس لهذا الخطاب.
فخرجت الدابة تكلم الناس؛ لأنهم لم يسمعوا كلام الأنبياء.
ومن هنا كان قول الله قبل ذكر الدابة مباشرة:
{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ * وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُون} [80-82].
ولكن مستوى الكفر والجحود الذي بلغه الناس الذين ستخرج الدابة عليهم كان قد بلغه من قبل أفواجٌ من الأمم السابقة كانوا أشد الناس فسادًا؛ فاقتضى عدل الله أن يتحدد موقفهم بمناسبة ذكر الدابة..
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [83]
وقد اختصت الآية من كل أمة فوجًا باعتبارهم أشد الأقوام، كما قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا } حيث قال قتادة: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشرِّ.
تمامًا مثلما ذكرت السورة أشد الناس إفسادا مثل الرهط من قوم صالح، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} الذين قتلوا الناقة وحاولوا قتل صالح، فسيُسأل هؤلاء يوم القيامة:
{حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [84].
ولكنهم لن يستطيعوا الإجابة:
{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} [85].
ففي الوقت الذي ذكرت فيه السورة نطق «الطير والنمل والهدهد والدابة».. أما هؤلاء {فهم لا ينطقون}.
{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [86]
ومناسبة خروج الدابة بقوله تعالى: {والنهار مبصرا} هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها أو خروج الدابة على الناس ضحى»([30])؛ لأن وقت الضحى هو وقت إبصار النهار لأنه وقت تمام الضياء؛ حيث ورد في تفسير قوله تعالى: {والنهار مبصرا} أي « منيرًا»([31]) أو «مضيئًا»([32]).
وبذلك يجتمع في الدابة صفة الإبصار في طبيعتها -وهي فصيل ناقة صالح-، التي جعلها الله مبصرة؛ فعن قتادة قال في تفسير قوله تعالى: {وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}: أي بيِّنة.
وكذلك وقت ظهورها في الضحي عندما يكون النهار مبصرًا.
ومن هنا كان الربط عند الطبري بين آية الناقة وآية النهار؛ حيث قال: «وإنما عنى بالمبصرة: المضيئة البينة التي من يراها كانوا أهل بصر بها، أنها لله حجة، كما قال تعالى: {والنَهارَ مُبْصِرًا}»([33]).
** وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [87].
والمناسبة بين هذه الآية والدابة هي «صيحات الدابة الثلاث» التي ستكون ما بين السماء والأرض.. ذلك أن الدابة سيكون لها صرخات بين الخافقين؛ أي بين السماء والأرض..
وأن هذه الصرخات سيسمعها كل من بين السماء والأرض كما سيسمع من في السموات والأرض نفخة الصعق.
وهو قَول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ، فَتَصْرُخُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ، فَيَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ»([34]).
وسيكون سمعًا قهريًّا؛ ذلك لأنهم لم يسمعوا للأنبياء والمرسلين من قبل!!
وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أي صاغرين مطيعين، لا يتخلف أحد([35]).
وهذا التفسير له علاقة بالدابة حيث سيكون الناس.. أمامها داخرين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب»([36]). وكما قال: «وتخطم أنف الكافر بالخاتم».
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [88-90].
وهذه المجموعة من الآيات تناقش العلاقة بين الأرض وعمل الإنسان فيها؛ حيث تثبت العلاقة بين خلق الجبال وهي أوتاد الأرض من حيث حقيقتها المتحركة وصورتها الثابتة من خلال مرورها مر السحاب مما يدل على إتقان الله لكل شيء وبنفس هذا الإتقان يكون علم الله بما نفعل؛ ليتجانس خلق الجبال وعمل الإنسان من خلال هذا الإتقان.. لتتواصل الآيات التي تناقش قاعدة الحساب على عمل الإنسان بنفس الإتقان والعلم.
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [91].
وخروج الدابة «الخرجة الأخيرة» سيكون من مكة، وهو الخروج الأساسي لها.
ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية -يعني مكة-، ثم تكمن زمنا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية…»
مما يدل على أن الخرجة الأساسية هي مكة، وأن ما قبل مكة هو تمهيد لها؛ ولذلك يذكر الحديث أن الخرجة الأولى في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية «مكة» والخرجة الثانية في البادية ويدخل ذكرها مكة، ثم الخروج في القرية ذاتها «مكة».
ولعلنا نلاحظ في قوله تعالى: ** رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} ذكر حرمة البلدة «مكة»، والتي وردت تفصيلا في الحديث: «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة -خيرها وأكرمها على الله- المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام، تنفض رأسها عن التراب».
ومما يثبت دلالة الحرمة -الواردة في الآية والحديث- على المناسبة بين آيات السورة..
هو ما يثبت غلبة هذه الحرمة على شدة العذاب الذي وقع بقوم ثمود بعد قتلهم الناقة..
ذلك أن من بين قوم ثمود المستحقين للعذاب من كان في حرم مكة ولم يقع عليه العذاب إلا بعد خروجه منها..
مما يؤكد أن شدة عذاب قوم ثمود لم تطغَ على حرمة مكة..
وهي قصة أبي رغال التي رواها ابن إسحاق: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال: إن هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه».
وفي رواية: «كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه»
وقيل: إن أبا رغال كان دليل أبرهة في طريقه لهدم الكعبة.
قال الحافظ ابن كثير: والجمع بينهما أن أبا رغال المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا.
وفي كنز العمال: «لا تسألوا نبيكم الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت الناقة ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج: {فعتوا عن أمر ربهم فعقروها} فأخذتهم الصيحة، فأهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله تعالى، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال : أبو رغال ، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه»([37]).
وقد صحح محمد بن إسماعيل البخاري حديث سالم عن أبيه «أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال».
كما أننا نلاحظ أيضًا أن خروج الدابة من مكة وهي -كما ورد في الحديث-: «أعظم المساجد على الله حرمة، خيرها وأكرمها على الله» يكون على النقيض من خرجتها الأولى من سدوم قرية لوط أشر الأماكن؛ ليكون خروج الدابة من جميع الأرض خيرها وشرها.
الدابة تصور عام
إذا أردنا فهم الحكمة من خروج الدابة لا بد لنا من فهم العلاقة بين الأرض.. وعمل الإنسان:
من حيث الخلق.. من حيث الأثر.. من حيث الختم والشهادة..
أما من حيث الخلق: فقد حدد الله سبحانه هذه العلاقة بقوله عز وجل:
﴿هُوَ أَعْلَمُ بكم إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَةٌ فِي بُطُونِ أُمَهَاتِكُمْ﴾
[النجم: 32].
فالإنسان مرتبط في عمله بمادة خلقه.
فإن لطبيعة الأرض وعمل الإنسان علاقة مباشرة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من جميع الأرض؛ فمنه السهل والحَزَن الأبيض والأسود»([38]).
وأما من حيث الشهادة على العمل: ففيها الحديث الذي رواه أبو هريرة حيث قال قرأ رسول الله هذه الآية: ﴿ يومئذ تحدث أخبارها ﴾ قال: «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا: الله رسوله أعلم قال: «فإن من أخبارها أن تشهد([39]) على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها؛ تقول: عمل كذا يوم كذا وكذا, فهذه أخبارها» لذا لزم أن تتابع الأرض عمل الإنسان حيث تشهد عليه.
فلزم كذلك أن تختم على الإنسان عمله؛ لأنه موضوع شهادتها.
ولكن الأرض لا تستطيع ختم العمل وهي في صورتها التي هي عليها؛ فحينئذ يبدأ ظهور الدابة كصورة جديدة للأرض, لتتمم الختم..
ولتكون علامة الدابة المتولدة من الأرض؛ لتحكم عليهم وتختم على أعمالهم، وختم الأرض على أعمال العباد أثر مقابل لأثر الإنسان في الأرض، على مدى عمر الإنسان فوقها..
ومن أمثلة هذا الأثر.. الزلازل التي تكون بسبب الزنا كما قال صلى الله عليه وسلم: «يرفع العلم، ويفشو الجهل، ويشرب الخمر، ويكثر الزنا والزلازل».
والدقة في الأعمال الواردة تكشف أنها اضطراب في وجود الإنسان: رفع العلم.. وفشو الجهل: الذي تغيب به الأحكام الضابطة لحركة الإنسان فيكون الاضطراب.
وشرب الخمر والزنا: الذي يكون به اضطراب الأنساب.
فكان اضطراب الأرض بالزلازل جزاءً على اضطراب النسب بالزنا.
ومن أجل العلاقة بين الإنسان والأرض كان خروج الدابة باعتبار عمل الإنسان، فكان الخروج من سدوم.. من مواقع أشر العمل.
والخروج من بين الصفا والمروة.. من مواقع أخير العمل.
والعلاقة بين الأرض وعمل الإنسان دليلها قول الله عز وجل: ﴿ إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اْلَمغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأرْضِ وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أَمَّهَاتِكُمْ ﴾ [النجم: 32].
وفي هذه الآية ذكر الله مع علاقة الأرض بالإنسان علاقة أخرى وهى الوراثة التي تبدأ في بطون الأمهات: ﴿وَإذْ أنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أَمَّهَاتِكُمْ ﴾.
والوراثة ترجع إلى آدم.. وهو أصل الوراثة.
ومن هنا أصبح يحكم عمل الإنسان مادة الخلق.. وهي الأرض، وأصل الخلق.. وهو آدم.
وكما ينتهي حكم الأرض على عمل الإنسان بالختم.. فيبقى لحكم آدم -كأصل الوراثة- على عمل الإنسان نهاية توازي الختم وهي بعث أهل الجنة والنار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يُدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرجْ من كل مائة تسعة وتسعين»([40]).
([1])أخرجه أحمد (2/295) (7924) وابن ماجة (4066) والتِّرمِذي وقال: «وَقَدْ رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فِى دَابَّةِ الأَرْضِ… وَفِيهِ عَنْ أَبِى أُمَامَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ. كما أخرجه البيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري والحاكم وصححه، ورواه ابن جرير وأبو داود الطيالسي ونعيم بن حماد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، وعبد بن حميد.
وفي التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (1/904) قال: رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة بإسناد حسن.
قال الألوسي: وهذا الخبر أقرب الأخبار المذكورة في الدابة للقبول. وما ورد في صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف. وأما كونها تخرج، وكونها من علامات الساعة، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة. ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعًا: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات» وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة، وكحديث: «بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة» فإنه في صحيح مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وكحديث ابن عمر مرفوعًا: «إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى» فإنه في صحيح مسلم أيضًا.
تجلو: تنور، الحواء: البيوت المجتمعة من الناس على ماء، تخطم: تسم.
([2]) تفسير ابن كثير (6/180).
([3]) تفسير القرطبي (13/285).
([4]) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (51/88) ، مسند الطيالسي (2/237).
([5])سنن الترمذي (11/330) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
([6]) تفسير الطبري (17/470).
([7]) تفسير الرازي (10/74).
([8]) تفسير الألوسي (10/487).
([9]) تفسير الرازي (9/496) ، انظر: فتاوى الشيخ ابن جبرين (63/192)، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد(3/75).
([10]) لسان العرب – مادة: خبأ.
([11]) مسند أحمد (4406).
([12]) يقول ابن القيم رحمه الله: «وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواقع الماء تحت الأرض لا يراه غيره… ثم ذكر من أفعاله -سبحانه- إخراج الخبء في السموات والأرض, وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء وما يخرج من الأرض من أفعال الرب تعالى بخصوصه؛ إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض».
([13]) تفسير ابن أبي حاتم (51/77).
([14]) تفسير الألوسي (15/44).
([15]) أشراط الساعة (1/201).
([16]) تفسير ابن كثير (6/214).
([17]) عن وهب بن منبه… عنه. انظر: تفسير ابن كثير (6/214) ، تفسير القرطبي (12/237).
([18]) البخاري (6181) ومسلم (6003).
([19]) تفسير الطبري (19/940).
([20]) المعجم الأوسط للطبراني (5239).
([21]) تجلو: تنور، الحواء: البيوت المجتمعة من الناس على ماء، تخطم: تسم.
([22]) تفسير ابن كثير(6/209).
([23]) انظر: أخبار مكة للفاكهي.
([24]) تفسير الطبري (19/439).
([25]) أخرجه البخاري (5902، 6999) ومسلم (443، 1672) كلاهما عن ابن عمر.
([26]) انظر: المسيح دراسة سلفية – للمؤلف.
([27]) تفسير القرطبي (13/237).
([28])في حديث تميم الداري وفيه يقول الدجال: «… أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِ الأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ. قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّى: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِى الْخُرُوجِ» صحيح مسلم (7573).
([29]) صحيح مسلم (7570).
([30]) مصنف ابن أبي شيبة (8/619).
([31]) تفسير ابن أبي حاتم (51/124).
([32]) تفسير الطبري (17/397).
([33]) تفسير الطبري (17/478).
([34]) المعجم الكبير للطبراني (19/335).
([35])تفسير ابن كثير (6/216).
([36]) المعجم الكبير للطبراني (3/286).
([37])كنز العمال، وأشار المتقي الهندي إلى تخريجه: (حم حب ك طس وابن مردويه عن جابر) وقد ضعفه الألباني.
([38]) أخرجه أبو الشيخ في العظمة ( ح 1023 ) وله شاهد من رواية ابن منبه أيضًا في «العصمة» (ح1022) هو ضعيف؛ لأن ابن منبه يحدث عن بني إسرائيل.
([39]) أخرجه أحمد في مسنده (2/374)، الترمذي في تفسير القرآن باب من سره… {إذا زلزلت الأرض}. (5/446/3353) النسائي في تفسيره (2/544/713) والحاكم في المستدرك (2/532) البيهقي في الشعب (5/446/7298) انظر: «فتح القدير» (ح13986).
([40]) أخرجه البخاري في « الرقاق » باب: الحشر (11/385/ح6529).

 


التعليقات