من سورة النحل ..سياق في علم المناسبه

هذا السياق معالجة دقيقة وتامة لقضية الاختلاف وموانعه من العلم والهدى والرحمة ابتداءً بقول الله عز وجل: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل:64]. ففي الآية ذكر الاختلاف والهدى، لتكون مناسبة الآية لما بعدها هي تفسير الهدى: { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل:65]. والمناسبة هي العلاقة بين الهدى وماء السماء وهي ثابتة بنصوص كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم:(مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تَنْبتُ كَلأَ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ)([1]). وما يؤكد أن المقصود بالماء هو التمثيل بالهدى هو التعقيب على ظاهرة نزول الماء من السماء بقوله عز وجل: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } ، إذ لا تكون مناسبة بين نزول الماء من السماء وقول الله: ” لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ” إلا دلالة نزول الماء من السماء على الهدى، وهو الأمر المناسب للسماع كما في قول الله عز وجل: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (الأنعام:36). { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [الفرقان:44]. ثم جاء بعدها: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } [النحل:66]. فتذكر الآية العبرة التي لنا في الأنعام واللبن الذي نشربه منها، حيث تنشأ الهداية بالعبرة.. واللبن ذاته هو العنصر الكوني الدال على الهداية، بدليل حديث عبد الله بن عمر عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(أُتِيتُ وَأَنَا نَائِمٌ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى جَعَلَ اللَّبَنُ يَخْرُجُ مِنْ أَظْفَارِي، ثُمَّ نَاوَلْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَمَا أَوَّلْتَهُ قَالَ الْعِلْمُ)، حيث أن العلم هو المحقق للهدى المانع من الاختلاف.. وتحديد الصورة الكونية بالفصل بين اللبن وبين الفرث والدم، هي صورة مماثلة للفصل بين الهدى وبين الضلالات فلا يختلطان، لتكون دقة الاستخلاص الواردة في الصورة التي وصفتها الآية هي نفسها دقة التعامل مع النصوص التي لا تخرج عن مسارها الصحيح، فلا تشوبها أي شائبة من فرث أو دم.. ثم تأتي الآية التي بعدها: { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:67]. لتبين لنا صورة كونية لأثر الفعل الإنساني في تحويل الأشياء عن أصلها وتغير فطرتها، مثلما يتحول الهدى بالاختلاف والابتداع عن طبيعته في عقول الناس وأفهامهم، وبالآيتين الأخيرتين يتحقق التقابل بين اللبن والخمر، وهما المثلان الكونيان المضروبان للهدي وللغواية في حديث الإسراء والمعراج: حيث قدم جبريل للنبي لبنا وخمرا فاختار اللبن، فقال له جبريل:(أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ) ([2]). والذي يؤكد أن هذا هو المقصود من الآية: { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } هو أن السَّكَر هو الخمر، والرزق الحسن هو أكل الثمر قبل أن يصير خمرا، والتعقيب يؤكد ذلك بقول الله عز وجل: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } إذ أن التعقيب يتفق مع عبرة تحول الأشياء إلى خمر بما يتضمنه من معنى التحريم الشرعي للخمر، فالمقصود أساسا هو معنى التحويل وليس مجرد معنى التحريم.. ولذلك يذكر ابن القيم هذه الحقيقة مباشرة فيقول:(الشراب المعتصر من العنب فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها، فلو خُلِّيَ على حاله لم يكن إلا طاهراً طيباً، ولكن أُفسِدَ بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرا، فخرج بذلك عن خلقته التي خُلِقَ عليها من الطهارة والطيب، فصار أخبث شيء وأنجسه، فلو انقلب خَلاًّ، أو زال تغير الماء، كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فإن الحكم إذا ثبت للعلة.. زال بزوالها. والله أعلم). ومما يؤكد دلالة تحول ثمرات النخيل والأعناب هي تحول الدين عن طبيعته في هذا الموضع: هو أن السياق أورد قبل ذلك في نفس السياق ذكر النخيل والأعناب كنعم ليس لها نفس الدلالة المذكورة في نفس الموضع، وهي قول الله سبحانه: { يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:11]. وبعد ذكر دلالة اللبن على الهدى, والخمر على الغواية بما بينهما من اختلاف التضاد، تأتي الآية التي بعدها بنوع آخر من الاختلاف في الدين، وهو اختلاف التنوع: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:68-69] وتتحقق تلك المناسبة من خلال عدة نواحي: وحي الله إلى النحل الدال على معنى الهداية بالإلهام، فالإلهام من الله.. والسُّبل سُبُل الله، وتلك هي الهداية مصدرا ومنهجا.. ومما يدل على العلاقة بين الدين والعسل هو المعنى اللغوي للمصطلحات الشرعية المتعلقة بالدين والعسل معا، مثل مصطلح “النصيحة” الذي جاء مرتبطاً بالدين في حديث: (الدَّينُ النَّصِيحَةُ) ([3]). فقد جاء في لسان العرب: “نَصَحَ الشيءُ خَلَصَ، والناصحُ: الخالص من العسل”، والنصيحة: التصفية، تقول نَصَحْتُ النَّحلَ: صَفَّيْته. وكذلك المعنى اللغوي “للنسخ” وهو نسخ العلم من كتاب إلى كتاب: قال السجستانيّ -أبو حاتم- النَّسْخ: أن تُحوِّل ما في الخليَّة من العَسَل والنَّحْل في أُخرى. قال: ومنه نَسْخُ الكتاب ([4]). ثم يكون خروج العسل من بطون النحل: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل:69]. وخروج العسل من بطن النحل هو المثل المفسر لدور المؤمن في الهداية.. ومن هنا كان الربط بين المؤمن والنحلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّحْلَةَ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا وَوَقَعَتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَلَمْ تَفْسُدْ) ([5]). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلمعندما رأى بلالاً يتنقل في قراءته للقرآن بين السور والآيات: (مَثَلُ بِلَالٍ كَمَثَلِ نَخْلَةٍ تَأْكُلُ مِنَ الْحُلْوِ وَالْمُرِّ ثُمَّ تُمْسِي حُلْوًا كُلَّهُ) ([6]). وفي إطار المقارنة بين الدعاة والنحل جاء قول علي بن أبي طالب ?: ( كونوا في الناس كالنحلة في طيرانها، ليس من الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها). ويقول ابن القيم: “ولما كانت النحلة من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يشاركها فيه غيرها,وكان الخارج من بطنها مادة الشفاء من الأسقام، والنور الذي يضئ في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام, وكانت أكثر الحيوان أعداءً، وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة, وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم”. وإذا كان للمؤمن دور في الهداية.. فإن لهذا الدور أثر طبيعي لا يمكن منعه، وهو الاختلاف الطبيعي الذي يكون بين الناس. لتتحدد حقيقة الاختلاف الطبيعي الذي لا يغير حقيقة الهدى، مثلها مثل اختلاف ألوان العسل التي لا تغير من حقيقته، حيث قال تعالى: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ولكنه بكل ألوانه المختلفة: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}. وبعد أن بينت الآية السابقة الدور الإنساني في الهداية، تواصل الآيات معالجة الآثار المترتبة على ذلك من حيث الفوارق الشخصية بين الناس، ومنها تغير الحالة العلمية الناشئ عن التغير في العمر وهي قول الله: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل:70]. وهي الآية المؤكدة لحقيقة التفاوت في العلم كنتيجة لارتباطه بالإنسان وحياته، بدليل التعقيب في الآية: {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} في مقابل الإنسان الذي خلق من ضعف لا يعلم شيئا، ثم يعود إلى الضعف: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}. ومن مجموع هذه الآيات التي تشرح هذه الحقائق حول قضية الهدى والاختلاف نرى أن القران هو الهدى، وأن الهدى يهبه الله بقدره لمن يشاء من عباده، وأن الله بقدرته قد جعل فرقاناً بين الضلال والهدى، وأن اختلاف الناس في حقيقته وجوهره هو الذي يُضِيعُ الهدى، وأن اختلاف الناس الطبيعي المتعلق بالفوارق الشخصية لا يؤثِّر على حقيقة الهدى طالما أن الاتفاق على طبيعة الهدى قائم.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ([1]) أخرجه البخاري في العلم باب فضل من عَلِمَ وعَلَّم رقم 2282 في الفضائل من حديث أبي موسى الأشعري. ([2]) متفق عليه: البخاري (3/1243، 3214)، ومسلم (1/154، 168). ([3]) أخرجه مسلم (1/74، 55). ([4]) يراجع لسان العرب (2/ 615). ([5]) أخرجه أحمد ( 2 / 162 – 163)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2288). ([6]) أخرجه ابن عساكر (10/465) وأخرجه أيضًا: الطبراني في الأوسط (1/63، 179) قال الهيثمي (9/300): إسناده حسن.


التعليقات