الحكمة من خلق عيسى من غير أب

الحكمة من خلق عيسى من غير أب لها بعدان أساسيان

المشيئة

القدرة.

فالمشيئة الإلهية المطلقة هي الحكمة الثابتة في الآيات التي بشر الله بها مريم بولادة عيسى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء) ومع المشيئة تكون القدرة: (إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) والمعالجة الحقيقية لولادة عيسى عليه السلام لا تتم إلا بإعطاء قضية القدرة الإلهية على الخلق أبعادها الكاملة .. وأولها: التنوع “القسمة الرباعية“: فمن أهم دلائل القدرة الإلهية .. التنوع في الخلق وفيه يقول ابن القيم: “فتأمل كيف دل اختلاف الموجودات وثباتها، واجتماعها فيما اجتمعت فيه، وافتراقها فيما افترقت، على إله واحد ..ودلت على صفات كماله ونعوت جلاله سبحانه وتعالى”. وللتنوع قاعدة عامة تعرف باسم ( القسمة الرباعية ) وهي التي أشار إليها ابن القيم في تنوع الخلق وتنوع عملهم فيقول من حيث تنوع الخلق: “ولهذا خلق سبحانه النوع الإنساني أربعة أقسام:

أحدها: لا من ذكر ولا أنثى وهو خلق أبيهم وأصلهم آدم.

والثاني: من ذكر بلا أنثى كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع آدم من غير أن تحمل بها أنثى، ويشتمل عليها بطن.

والثالث: خلقه من أنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم.

والرابع: خلق سائر النوع الإنساني من ذكر وأنثى.

وكل هذا ليدل على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته، وأن الأمر ليس كما يظنه أعدائه الجاحدون له والكافرون به من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال، وأنه ليس للنوع أب ولا أم، وأنه ليس إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاء الجهال الضلال أن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها، محتاجة إلى فاعل لها، وأنها من أدل الدلائل على وجود أمره بطبعها وخلقها، وأودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته، ومملوك من مماليكه وعبيده مسخرة لأمره تعالى، منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وأمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر، والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف في ذاتها، ونفسها فضلا عن إسناد الكائنات إليها”. وقد أوضحت سورة النساء معنى القسمة الرباعية وعلاقتة بخلق عيسى ابن مريم، فكان الموضوع الأساسي لها هو تحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجالاً كثيراً ونساءً ..حيث أوضحت أول آية فيها ثلاث أنواع من الخلق البشرى..(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) .. آدم .. الذي خلق من غير أب وأم ..(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) .. حواء .. التي خلقت لأب من غير أم ..(وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)جميع البشر.. المخلوقين من أب وأم .. ليبقى عيسى المخلوق من أم من غير أب ..!! لتمتد السورة كلها بعد ذلك لتحديد المقتضيات الشرعية لخلق الناس رجال كثيراً ونساءً، فتعالج قضايا الزواج واليتامى والمواريث والطلاق والمحرمات في الزواج، وبصورة أساسية أحكام المواريث التي تدور السورة كلها حولها.والدليل المباشر على هذا التفسير هو تأخير حكم من أحكام المواريث “الكلالة”، وهو حالة أن يموت رجل ليس له ولد، ثم ارتباط ذكر الحكم بذكر عيسى ابن مريم، ومن هنا جاءت النهاية كما جاءت البداية .. دليلا على ارتباط موضوع السورة بقضية عيسى ابن مريم: ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا) (النساء:172) إلى قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)  (النساء:176). وحقيقة التنوع كدليل على القدرة الإلهية يمثل بعدا من أبعاد القدرة، لأن القسمة الرباعية قائمة على التنوع البشري من ذكر وأنثى، وأن هذا التنوع البشري هو أساس السلوك البشري من ناحية الخير والشر بدليل قول الله عز وجل: ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى . فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى). فهي قاعدة كونية عامة في النوع الإنساني وفي السلوك الإنساني .. • فمن ناحية النوع الإنساني يقول الله عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)  (الشورى:49-50).

ومن ناحية السلوك الإنساني تظهر هذه القسمة في عدة جوانب .. ففي جانب “الإخلاص والمتابعة” يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أربعة أقسام:أحدهما: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للأنبياء. والثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة.والثالث: من هو مخلص في عمله لكنها على غير متابعة.والرابع: من أعماله على متابعة الأمر بغير إخلاص لله”. وفي جانب العلم والعمل وهداية الجنس البشري يأتي قول الله عز وجل: ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)  (ص:45) “فقسمت الآية الناس إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: الأيدي القوية في تنفيذ الحق , والأبصار – البصائر – في الدين والأنبياء هم أشرف الأقسام في الخلق.

والقسم الثاني: بعكس هؤلاء من لا بصيرة له في الدين ولا قدرة على تنفيذ الحق وهم أكثر الخلق.

والقسم الثالث: من له بصيرة بالحق ومعرفة به لكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه والدعوة إليه وهذا حال المؤمن الضعيف.

والقسم الرابع: من أعماله على متابعة الأمر بغير إخلاص لله”. وفي جانب العبادة والاستعانة يقول الإمام ابن القيم: ” وسر الخلق والأمر، والكتب والشرائع، والثواب والعقاب: انتهى إلى هاتين الكلمتين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5). والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب .. بغاية الذل والخضوع، فمن أ حببته ولم تكن خاضعا له .. لم تكن عابدا له .. ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له .. حتى تكون محبا خاضعا. والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره ـ مع ثقته به ـ لاستغنائه عنه ، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه . . فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.وهذان الأصلان ـ وهما التوكل والعبادة ـ قد ذكرا في القرآن الكريم في عدة مواضع، قرن بينهما فيها .. أحدهما: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)  والثاني : قول شعيب عليه السلام (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، والثالث(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وغيرها كثير”إلى أن يقول رحمه الله: ” فالناس في هذين الأصلين (العبادة والاستعانة)

أربعة أقسام:- أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها.

ومقابل هؤلاء القسم الثاني وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة ولا استعانة

وأما القسم الثالث فهو من له نوع عبادة بلا استعانة.

وأما القسم الرابع فهو من توكل على الله واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به فقضيت له سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ولكن لا عاقبة له فإنها من جنس الملك الظاهر”. الإرادة ومن أبعاد القدرة الإلهية..ما يسبقها من المقدمات التي تدل عليها

ثانياً ـ يحي وعيسي:

وخلق عيسى من غير أب بمقتضي القدرة الإلهية جعل الله له مقدمة بمقتضي الرحمة وهي خلق يحي الذي أعان الناس على فهم حقيقة الإعجاز في خلق عيسى، فكانت آية خلق يحي من جنس آية خلق عيسى وهي إظهار قدرة الله على خلق ما يشاء، وكان التجانس في خلق يحي وعيسى هو أساس معنى بشري يحيي بعيسى، والتجانس بين البشري والمبشر بها قاعدة قدرية ثابتة جاء فيها قول الله سبحانه(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف:57) . فلما كانت الرياح بشري بين يدي المطر دل ذلك على أن البشري من جنس المبشر به، الأمر الذي انطبق على بشري يحي بعيسى باعتبار أن عيسى كان بكلمة الله التي ولد بها من غير أب… وأن ولادة يحي تقارب ولادة عيسى ومن جنسها من حيث عدم وجود صلاحية السبب في الولادة بالنسبة ليحيي كما قال زكريا (قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِر)…آل عمران وعدم وجود السبب أصلا بالنسبة لعيسي.و الدليل على هذا الفهم…. هو الصيغة القرآنية للبشري بعيسي.(أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين) … (آل عمرانَ -39)  .فجاءت البشري بولادة يحيي بصفته مصدقا بكلمة من الله (عيسي)، وكان هذا التصديق هو أول صفات يحيي في خبر البشري التي بشر الله بها زكريا بولادتهومعني بشري يحيي بعيسى هو نفسه معنى بشري عيسى برسول الله (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)  (الصف:6). وكما كان لخلق عيسى مقدمات تدل عليه …كان خلق عيسى نفسه مقدمة لقدر إلهي أكبر وهو الساعة.

ثالثاً ـ عيسى والساعة

والحقيقة أن بين عيسى والساعة أصلاً قرآنيا من خلال معنى الإرادة والمشيئة والقدرة الإلهية المطلقة، حيث لم يُذكر في القران تعبير: ( كن فيكون ) إلا في ثمانية مواضع أربعة متعلقة بعيسى ابن مريم ، وأربعة متعلقة بقيام الساعة ، والأربعة الأولي جاءت في سورة البقرة آية 117 ، آل عمران : 47 ، 59 ، مريم : 35 ، والأربعة الأخرى جاءت في سورة الأنعام آية : 73 ، والنحل : 40 ، يس : 82 ، غافر : 68. وبذلك كان خلق عيسى دليلا على قدره الله في الخلق ودليلا على الساعة ودليلا على الصراط، حيث اجتمعت كل هذه الدلائل في قول الله في سورة النساء.( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 61 وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 62 وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 63 إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 64 ).


التعليقات