الجزاء والدينونة … بين الإسلام والنصرانية

ككل قضايا النصرانية المحرفة.. أصيبت قضية “الدينونة” بداء التحريف، وكان أخطر نتيجة

لذلك.. ارتباطها ببدعة التجسد والتثليث والأقانيم.

وبإدخالها في مقارنة مع قضية الجزاء في الإسلام.. نكتشف الفارق الهائل بين دين الله.. وتحريف البشر..

حيث يتيبن من الجانب الإسلامي أن أول أساسيات الجزاء هو التناسب المحقق لمقتضاه من صور النعيم والعذاب من خلال جميع المراحل: الدنيـا.. القبـر.. القيامة.. الحساب.. المرور من فوق الصراط.. الجنة والنار.

شاملا للروح.. والجسد.. وكل خصائص الطبيعة البشرية.

أما من الجانب النصراني فنجد أنفسنا أمام مشكلة حقيقية ! حيث لا نعثر في النصرانية عن أي معنى لهذه الأساسيات إلا بعض الكلمات الغامضة مثل: مكان الانتظار.. الظلمة الخارجية.. الهاوية.. الفناء والإهمال.. الحرمان من الملكوت.. بحيرة الكبريت.. بحيرة النار..

دون تصور محدد عن الروح والجسد والبعث والحساب والجزاء..

ودون فاصل بين الحقيقي والمجاز والرمز والواقع..

مما أوجد حالة من التشتت العقلي أمام الألفاظ الغريبة الداخلة في إطار طرح هذه المشكلة عندهم، فأصبحت قضية الدينونة أوسع مجالات الاختلاف:

اختلاف بين نصوص العهد القديم والعهد الجديد.. و بين النصوص المكتوبة والأقوال الشفوية.. واختلاف في تفسير هذه النصوص..واختلاف على مستوى الطائفة الواحدة، وعلى مستوى كل الطوائف..

مما يجعل مهمة المقارنة صعبة بسبب غموض التصور النصراني، ومن هنا سيكون ارتباط قضية الجزاء في التصور الإسلامي بالتوحيد، وارتباط قضية الجزاء في النصرانية بالتثليث، هو الجانب الأساسي للمقارنة الممكنة بين الجانبين، وهو في الوقت نفسه.. أخطر جوانب المقارنة.

الفرقان في مقام الألوهية والخلق

يحقق التصور الإسلامي الفرقان بين مقام الخلق ومقام الخالق بإحكام منهجي تام لقضية الجزاء..

فهناك الجنة بدرجاتها وأعلاها الفردوس:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة – أراه – فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) [1].

وعن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ ” قال: ” فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ” ثم تلا: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس:26) [2].

فيثبت الجزاء في الإسلام بالفرقان بين الخالق والمخلوق بحيث لا تكون رؤية الله عز وجل إلا بعد الموت وبطريق الجنة وبعد دخولها.. حتى تبلغ قضية رؤية الله في الإسلام أن تكون أساس الجزاء والحساب، ومن هنا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ في قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلاَ مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِى الإِسْلاَمِ. فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ.

فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِى لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ. فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ. ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ. وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» [3].

ومن هنا جاء ت صيغ الجزاء من خلال التصور الإسلامي عن الله وأسماءه وصفاته ، حيث يأتي في سورة الرحمن ذكر الذنوب: { لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ }(الرحمن:39) والسؤال المنفي سؤال الاستخبار والاستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه.

ثم ذكر النار: { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } (الرحمن:43-44).

ثم ذكر الجنة ابتداءا من الآية: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان } (الرحمن:46).. حتى آية: { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ . فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } (الرحمن:76-77)، يتبعها في الآية التي بعدها التعقيب على ذكر الذنوب والنار والجنة بقول الله سبحانه: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } (الرحمن:78).

وقد دخل في الجلال جميع الصفات الراجعة إلى التنزيه عن النقص، وفي الإِكرام جميع صفات الكمال الوجودية وصفات الجمال كالإِحسان.. مما يعني ارتباط قضية الجزاء بالتصور المنهجي للتعريف بالله..

ومن هنا جاء في تفسير الآيات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( جنتان من فضة.. آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدنٍ، ويطلع الله على عباده ) [4].

أما عند النصارى فيضيع هذا الفرقان ويتحول البشر إلى صورة الله: ” تنشأ سعادة السماء من رؤيتنا لله، وهذا يحوّل النفس إلى صورة الله، ويجعل فيها الحياة الإلهية لتمتلئ بملء الله “[5].

والسكن مع الله (رؤ 21: 3)، وهذا يؤكد أن حالة الأبرار الأخيرة هي حياة مقدسة في الاتحاد بالله.

ومن هذا قول بولس: «إن لحماً ودماً لا يرثان ملكوت الله» مع أن أجسادنا التي هي لحم ودم سترث ذلك الملكوت، لأن الجوهر المادي المكوَّن الآن من لحم ودم يتغير حتى يصير مثل جسد المسيح الممجد (في 3: 21).

اختصاص الإبن بالدينونة

وكما يقول النصارى في تعليل التجسد.. أن الرؤية ضرورية لمعرفة الرب؛ لأن البشر لا يعرفونه ولا يدركون كمال صفاته بدون تجسد..

يأتي نفس الكلام في الدينونة.. فيقولون أن الإبن هو الذي ستكون له الدينونة بصفته الأقنوم المرئي، فاختص الله الآب ” ابنه” بالحساب “يو5” لأنه يلزم أن يكون مرئيا لمن يحاكمهم، ولهذا اختص ابن الإنسان بالدينونة لأنه الإقنوم المحسوس الذي اتخذ جسدا بشريا “يو1”.

فتكون علة التحريف في التجسد هي نفسها علة التحريف في الدينونة

وتتطابق زاوية التحريف في القضيتين بصورة تبادلية..

فكما كان للتجسد أثر في تحريف الدينونة.. كان للدينونة المحرفة أثر في التجسد، وهو القول بأن المسيح ظل متجسدا بعد الصلب المزعوم حتى نزل الإله المتجسد إلى الهاوية والجحيم ليكرز -ليدعو- للأرواح في الهاوية، وأن ينزل ليخطف بنفسه المؤمنين ويصعد بهم إلى الفردوس.

وهنا يكون التناقض والاختلاف بين النصارى لأن التجسد عندهم كان لعلة الفداء ولا علة لبقاء التجسد بعد الفداء.

فالتجسد – كما يقولون- مبني على أحوال البشر لا على أنه ضروري لِلَّاهوت، فإذا أراد الله أن يفدي البشر ـ كما يزعمون ـ دَبَّر التجسد لإتمام الفداء، فأبقوا على فكرة التجسد اضطرارا حتى يمكنهم القول بنزول المسيح إلى الهاوية بعد القيامة من الموت لإخراج من فيها من الأنبياء، ويذكرون في ذلك تحديدا إبراهيم الخليل الذي سيظل في الهاوية حتى ينزل المسيح ويخرجه منها !!

وإذا تعجبت من بقاء نبي الله الخليل إبراهيم في الهاوية حاول أن يزيل تعجبك ويحقق اطمئنان الجميع على مصير خليل الرحمن بقول أعجب وهو أن إبراهيم لن يبقى في الهاوية الى الأبد !!!

ويتجاوز الإجابة على التساؤل البسيط.. لماذا يدخل خليل الرحمن في الهاوية أصلا ؟!!!

وقد كان أثر التحريف في العقيدة واضحا في قضية الدينونة من خلال عدة أفكار تحريفية:

اختصاص الكهنة بالمغفرة

والنصارى يعتقدون باستحقاق الكهنة لمغفرة الذنوب باعتبار أن المسيح فيهم، لذا يكون من الضروري لمناقشة الإعتراف من مناقشة النص القائل: ” وقال للتلاميذ : من غفرتم خطاياه تغفر له ” يوحنا20/23.

حيث أخذوا من ذلك دليلاً على مغفرة الكهنة للذنوب، بينما أن كلمة (غفرتم): تعني الدعوة بالمغفرة ؛ لأن المغفرة تأتي بمعنى الاستغفار، والدليل اللغوي على أن المغفرة تأتي بمعنى الاستغفار حديث عمرو بن دينار الذي ذكره ابن منظور في لسان العرب: (قلت لعروة: كم لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال عشرًا، قلت: فابن عباس يقول بضع عشرة؟ قال: فغفره (أي قال: غفر الله له)، ويثبت ابن منظور نفس القاعدة بمثال آخر في مادة: «شفي».. فيقول: (أشفيتك: أعطيتك ما تُشفَى به، وشفاه وأشفاه: طلب له الشفاء)، فأطلق لفظ الشفاء على طلب الشفاء، تمامًا مثل إطلاق المغفرة على طلب المغفرة.

ولذلك جاء في التوراة التي معهم قول الله لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكًا يغفر ذنوبكم)، وتفسيره: (أجعل معكم ملكًا يدعو لكم بمغفرة ذنوبكم) ، وبذلك يكون تفسير من غفرتم خطاياه تغفر له هو: من دعوتم له الله بالمغفرة.

وفي الإسلام.. الله وحده هو { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة:4) وهو يوم الحساب والجزاء، والدين هو العقيدة والتوحيد { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } (الكافرون:6)..

فتوافق معنى الحساب والجزاء ومعنى الدين..

وكان من مقتضيات هذا التوافق.. اختصاص الله وحده بمغفرة الذنوب، وأن تكون مغفرة الله للذنوب هي أخص خصائص الألوهية.

عن شدّاد بن أوس رضي اللّه عنه، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأبُوءُ بِذَنبي، فاغْفِرْ لي فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ ما صَنَعْتُ. إذا قال ذلك حين يُمسي فمات دخل الجنة، أو كان من أهل الجنة، وإذا قال حين يُصبح فمات من يومه مثله)[6].

ومعنى أبوء: أقرُّ وأعترف،‏ لأن الإقرار بالنعم دليل على الإيمان بالربوبية التي تكون بها النعم.

والاعتراف بالذنب دليل على الإيمان لأن الإحساس بالذنب ناشيء عن التقصير في عهد الله ووعده الذي يقتضي الوقوف على قاعدة الخضوع وقبول التكليف من الله وهو دليل الإقرار بالألوهية .

مجازية العذاب و فكرة الفناء

وهاتان الفكرتان مرتبطتان بمفهوم خاطيء للرحمة الإلهية ينتفي به العذاب الأبدي الحقيقي، حيث يقول النصارى: أن الله رحوم ولا يتفق مع الصفة فكرة العذاب الحقيقي، ولذلك لن يعذب مخلوقاته ولكنه يخيفهم بالفاظ مجازية، ولن يعذب الله مخلوقاته للأبد. إنه رحوم ولا يسر بدينونته الخاطيء. لذلك يكون الموت الثاني هو انعدام تام للحياة حيث النفوس والأرواح تباد وتفنى.

فكان لفكرة مجازية العذاب والفناء نفس العلة التي نشأت بها بدعة ادعاء الولد أصلاً، والتي واجهها القرآن من خلال مناقشة العلاقة بين الرحمة الإلهية وبين بدعة التجسد وادِّعاء الولد باسم الله «الرحمن»؛ ردا على من قال إن الله أنزل ابنه الوحيد لخلاص البشر ورحمتهم، فأثبتت الآيات أنه لا رحمة في ادِّعاء الولد لله؛ لأن الرحمن الذي هو مصدر الرحمة ليس له ولد .. { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً } (مريم:92) ..

كذلك بنفي العلاقة بين الرحمة وتناقضات الدينونة عند النصارى فتثبت الآيات أن الرحمة لا تعني نفي العذاب، فيقول الله سبحانه: { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } (مريم:45).

هكذا قالها: ” عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ” فالرحمن يعذب من يستحق ويغفر لمن يشاء، وهذا مقتضى العزة والحكمة كما قال عيسى: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (المائدة:118).

ومن هنا يكون الرد على أصحاب هذه المفاهيم الخاطئة بتفسير قول الله عز وجل:

{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } (الحجر:49)

ولعلنا نلاحظ أن ” الغفور الرحيم ” جاءت كإسم ذات، والعذاب جاء كإسم فعل: ” عذابي “.

كما بين الحديث القدسي عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى غَلَبَتْ غَضَبِى » [7].

فالرحمة غالبة ولكن العدل يقتضى وقوع العذاب على الكفار والعصاة..

أما الرحمة فتتمثل في عدة صور:

  • أن الله يقيم الحجة على عبادة.
  • أن الله يفتح باب التوبة الى النهاية مهما بلغت الذنوب، وهذا فرعون يرسل الله له موسى وأخيه: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طـه:44) رغم كل ما فعله ببني إسرائيل.
  • أن الله يضاعف الثواب دون العقاب: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (الأنعام:160)

ومن هذا التصور يكون الأثر النفسي الناشيء عن تصور العلاقة بين الرحمة والغضب، وهو المعروف في الإسلام بالخوف والرجاء..

وهما كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه واجتماعهما هو مقام الإخبات، أما عند النصارى فلا تدري ماهو الأمر ؟؟ هل تخاف بحسب النص

: ” وإذا كان نبي اللـه دانيال قد ارتعد خوفاً لما رأى الدينونة الآتية فماذا يحدث لنا” ؟؟

أم لا نخاف باعتبار أن كل ما ورد من نصوص التخويف مجازية لا حقيقة لها ؟!

كما يقولون: (وَصَفَ الكتاب حالة الأشرار الأخيرة ومكان نزولهم بعبارات مجازية مخيفة جدًّا) !! [8]

وهكذا حسم الكتاب التناقضين: (الخوف وعدم الخوف) بتناقض جامع لهما وهو الخوف من عذاب مجازي غير حقيقي.. لاحظ قوله ” مجازية مخيفة جدًّا ” كيف تكون مجازية -يعني غير حقيقية- ومخيفة جدا ؟!!

وقد وضح الاختلاف في طبيعة الجزاء بصورة كبيرة بين الطوائف النصرانية، وكتاب علم اللاهوت الأرثوذكسي يقول أن النار حقيقية ” إذهبوا عني يا ملاعين، إلى النار الأبدية -مت 2-.

ولكن القول الشفوي عندهم يقول أنها مجازية، وكذلك البروتستانت يقولون أن النار مجازية حيث يقول:

” أما القول أن النار المذكورة في الكتاب هي مادية فليس له سند كافٍ، كما إنه لا محل للزعم أن الدود الذي لا يموت هو دود حقيقي. فإن إبليس وملائكته الذين يُعَذَّبون بنيران أبدية ويشاركهم في عذابهم الذين يموتون في خطاياهم- ليس لهم أجساد مادية لتؤثر فيها النار المادية، فلا بد أن تلك النار مجازية” [9].

ومع مجازية النار تأتي فكرة الجسد الممجد الذي لا يتأثر بأي شيء: ” إن إبليس وملائكته الذين يُعَذَّبون بنيران أبدية ويشاركهم في عذابهم الذين يموتون في خطاياهم- ليس لهم أجساد مادية لتؤثر فيها النار المادية، فلا بد أن تلك النار مجازية [10].

فهل تكون نار مجازية لا تؤثر وجسد ممجد لا يتأثر جزاءاً على كل هذه الأهوال البشرية الحقيقية الكافرة !!!

وإذا كان العصاة يعلمون أن النار حقيقية أبدية ولم يكن ذلك رادعاً فما بالنا لو كانت نارا مجازية غير أبدية ؟!

بل أن العصاة لو عادوا الى الدنيا بعد معاينة العذاب الحقيقي لعادوا الى المعصية:

– { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } (الأنعام:28).

ومن هنا كان التصور الإسلامي في قضية الجزاء هو الحق الذي يتناسب مع واقع البشر ليكون جزاء البشر قائماً بالعدل الكامل الشامل الظاهر بصورة مؤصلة مقنعة مجردة، جامعة للروح والجسد. وجامعة لكلَّ لحظات وجوده ومراحلها: حياته الدنيا، والموت، والقبر، والقيامة، والحساب، والمرور من فوق الصراط، والجنة والنار.. مع وجود التناسب المطلق بين العمل والجزاء من خلال تلك المجالات وهذه المراحل.

ومثال واحد من عذاب الدنيا يثبت دقة هذا التناسب:

فعندما استغل السامري غياب موسي عن بني إسرائيل وصنع لهم العجل ليلتف الناس حوله ويتقربون إليه وتكون له الوجاهة فيهم .. كان جزاؤه أن لا يستطيع أحد الاقتراب منه بل ويفرون منه: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } (طـه:97)

فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة، فجعل حَظَّه في حياته أن يقول لا مِساس فسلبه الأُنس الذي في طبع الإنسان.. وأبدله به هوساً ووسواساً وتوحشاً، فأصبح متباعداً عن مخالطة الناس، وحيداً لا يقترب منه أحد، فإذا لقيه إنسان قال له: لا مساس، يخشى أن يمسه، جزاء محاولته جمع بني إسرائيل حوله بعبادة العجل [11].

ومن الدنيا حتى موقف القيامة حيث تتدلى الشمس فوق رؤوس الخلائق ويكون العرق بقدر العمل فمن الناس من يبلغ عرقه الى كعبيه .. ترقوته .. من يغطيه عرق .. من يسبح في عرقه كل بقدر عمله

ثم يكون المرور فوق الصراط..

وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فيمرُّ أولُكم كالبرق، ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير، وشدِّ الرِّحال، تجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائم على الصراط، يقول: ربِّ سلم سَلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليبُ معلقة مأمورة، تأخذُ من أُمرَتْ به، فمخدوش ناج، ومكدُوس في النَّار) [12].

ثم دخول الجنة أو النار ليكون عدل الجزاء بتناسب دقيق بين الذنب والجزاء من خلال الطبيعة البشرية، ومن العجيب أن تكون الآيات الدالة على التناسب بين الذنب والطبيعة البشرية بخصوص الأحبار والرهبان، وهو قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)

(يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:35)

فذكرت الآية: { جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ }..

لأن دلالة «الجِبَاه»: الاستعلاء..

ودلالة «الجُنُوب»: الاطمئنان..

ودلالة «الظهور»: الاعتماد والاستناد..

والذين يكنزون المال يستعلون به، ويطمئنون إليه، ويعتمدون ويستندون عليه، ولذلك كان جزاؤهم هو الكي في هذه المواضع.

وقيام الجزاء بمقتضى الطبيعة البشرية أساس من أسس قياس جزاء الآخرة على عمل الدنيا حتى أصبح هذا القياس معالجا لأهم الإشكاليات العقلية في تصور الجزاء في الآخرة: الطعام والشراب، والحور العين، وأنهار الخمر واللبن، والقصور والغرف والمساكن، والغلمان المخلدون..

وهي نفس الأشياء التي تركها المؤمنون ابتغاء مرضاة الله، فينالونها بعدله سبحانه..

فالمؤمنون باعوا الحياة الدنيا بالآخرة، ولابد لذلك أن يكون الجزاء مكافأة لهم على ترك الدنيا بنعيم يقاس عليها، جزاءً لهم على ترك شهوات الدنيا الدائرة حول هذه الأشياء، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه القاعدة بقوله: ( مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا ، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ، لَمْ يَشْرَبْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ شَرِبَ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، لَمْ يَشْرَبْ بِهِمَا فِي الْآخِرَةِ ” . ثُمَّ قَالَ: لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَشَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَآنِيَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) [13].

يعني أن لباس وشراب وآنية أهل الجنة ستكون لمن امتنع عن الحرير والخمر والذهب في الدنيا ابتغاء مرضاة الله، ومن الامتناع عن الحرير والخمر والذهب حتى التضحية بالنفس والشهادة التي يكون جزاؤها مناسبا لبيع النفس ذاتها لله..

فإذا كان العمل هو ترك الزوجة والجهاد والاستشهاد في سبيل الله.. فلابد أن يكون الجزاء مرتبط بالفعل، وبمجرد الموت..

مثلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حنظلة غسيل الملائكة بأنه كان مع زوجته، فسمع النداء بالخروج إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتأخر ولم يغتسل؛ بل خرج جنبا.. فلما استشهد أقبلت الملائكة فغسلته، ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين عن ذلك، وأسماه غسيل الملائكة [14].

ويبقى الارتباط ليكون جزاؤه الحور العين مثلما أخبر رسول الله في الشهيد بقوله: ( لِلشَّهيد عندَ الله ستُّ خِصال : يَغْفِرُ الله له في أول دُفْعَة ، ويُرَى مَقْعَده من الجنة ، ويُجارُ من عذاب القبر ، ويأمَنُ مِنَ الفزَعِ الأكبر ويُوضَعُ على رأسه تاج الوقار، الياقُوتةُ منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوَّج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه ) [15].

كما أن ارتباط الجزاء بالطبيعة البشرية كان أساساً في تحديد صورة الجزاء..

فعندما تترك امرأة فرعون حياة القصور والجاه والصولجان لتنضم إلى موسى ومن معه من المستضعفين فإنها تعوض ببيت في الجنة: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (التحريم:11).

ولعلنا نلاحظ أن الجزاء في دعاء آسية هو “بيت” وهو أمنية كل امرأة..

كما يحدد ارتباط الجزاء بالبيئة وجود أنهار اللبن والعسل والخمر باعتبار أن هذه العناصر هي أهم أنواع الشراب الدنيوي، ومن هنا كانت المقارنة بين الجنة والدنيا إذا كان نعيم الجنة متشابها في الاسم مع أمر من أمور الدنيا مثل الخمر في الجنة التي وصفها الله بأنها ليست كخمر الدنيا، فقال سبحانه:

{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ . بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ . لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ } (الواقعة:17-19) يعني ليست كخمر الدنيا في أضرارها.

كما يتم تفسير الإشكالات المتعلقة بأمر الأحجام والمساحات التي ورد ذكرها في الجنة والنار، وأساس هذا التفسير هو أن القيامة ستتغير فيها الأرض والسموات القائمة:

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (إبراهيم:48).

فلا يكون هناك علاقة في أمر الأحجام والمساحات بين الدنيا والآخرة، وعلى ضوء هذا التفسير نفهم النصوص التي يعجز الإنسان عن تخيلها.

وهناك فارق بين التصور والتخيل:

– فالتصور قائم على التجريد العقلي للأمر بصفته الموضوعية..

– والتخيل قائم على التكييف الذهني للأمر بصفته الحسية..

فقد يتصور الإنسان الأحجام والأعداد وحركة الكواكب وزمن هذه الحركة كحقيقة علمية ولكنه لايستطيع تخيلها دون أن يراها

والنصوص الشرعية تعالج هذا الفارق، ومثال تلك المعالجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ( قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ، واقرؤوا إن شئتم: { فلا تَعْلَمُ نَفْس ما أُخْفِيَ لهم مِنْ قُرَّةِ أعْيُن } [ السجدة: 17]  [16].. حيث يكون في الجنة ما لا يمكن لأحد من البشر تخيله

ولكن القضية هي الإيمان الصحيح ليست التصور أو التخيل

فقد يتقبل الناس إفتراضات العلماء لحساب حركة الكواكب ومسافاتها بآلاف السنيين الضوءية ولكنه لايتقبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

« إن في الجنة شجرة ، يسير الراكب في ظلها ، مائة سنة »

 وبهذا التصور الواضح الكامل عن الجزاء كان هناك تفسير لكل كلمة وكل لفظ يدخل في إطار القضية في مقابل ألفاظ الطرح النصراني الغامض للجزاء، وندلل على التقابل بين التصورين من خلال لفظ مشترك ورد في الطرحين، وهو لفظ «الظلمة»:

ففي الجانب الإسلامي: عن ثوبان مولى رسول الله ? قال: (كنت قائما عند رسول الله ? فجاء حبرٌ من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودى: إنما ندعوه باسمه الذى سماه به أهله. فقال رسول الله:  «إن اسمى محمدٌ الذى سمانى به أهلى». فقال اليهودى: جئت أسألك. فقال له رسول الله  «أينفعك شيءٌ إن حدثتك». قال أسمع بأذنى! فنكت رسول الله بعودٍ معه. فقال: «سل». فقال اليهودى: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله:  «هم فى الظلمة دون الجسر»).
و«الجسر» هو الصِّرَاط المَنصُوب عَلَى جَهَنَّم لِعُبُورِ المُسلِمِينَ عَلَيهِ إِلَى الجَنَّة، كما يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري([1][1]).

قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد: 13] ([1] [2]).
وتفسيرها: أن الجسر هو الصراط، وأن المرور عليه هو الذي يحدد مقامات الناس ودرجاتهم قياسا على النور الذي سيكون لكل من يمر منهم على الصراط بحسب العمل، فكان لابد أن يدخل الناس إلى الصراط من «ظلمة»([1] [3])، ثم ينال كل واحد من النور بقدر عمله، فيتبين معنى اللفظ بسهولة ويُسر.
وقد ورد نفس اللفظ عند النصارى «الظلمة الخارجية»، ولكننا لا نجد التفسير الموضح لمعنى الكلمة لماذا هي ظلمة؟ ولماذا هي خارجية؟
وكما اتفق الجزاء في التصور الإسلامي مع الطبيعة البشرية وطبيعة الذنب، كان هذا التصور أحكم قضاء في واقع البشر.
ونظرة إلى التاريخ البشري الذي صنعه إبليس وأولياؤه من الطواغيت، وأئمة الكفر ومردة البشر، الذين قتلوا الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، بالحرق والنشر بالمناشير والتعذيب والتجويع المخطط المصنوع، أصحاب الوثنيات والشرك وعبادة الحجر والبقر.. رواد إشاعة الفواحش والإدمان والمسخ المروع لطبيعة الإنسان كالأنعام والقردة والخنازير.
ثم يكون الجزاء على ذلك.. نارًا مجازية لا تؤثر.. وجسدًا ممجدًا لا يتأثر.. !! ويكون العذاب مجرد تأنيب للضمير وندم وشعور بالحزن والبكاء وصرير الأسنان كما تقول النصوص في (متى13: 42) (متى 3:22) (متى 51:24) (متى30:25)..!!
حيث لا تزيد كل النصوص المشار إليها عن «صرير الأسنان»..!! ليكون صرير الأسنان هو كل الجزاء عن أي عمل!
ومن هنا كان قول ابن تيمية في المقارنة بين الإسلام وأهل الكتاب: «وأما العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش والملائكة والجن والجنة والنار وتفاصيل المعاد.
فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء اليهود والنصارى.. وجد كلام المسلمين فيها أكمل وأتم.

وبهذا التصور الواضح الكامل عن الجزاء كان هناك تفسير لكل كلمة وكل لفظ يدخل في إطار القضية في مقابل ألفاظ الطرح النصراني الغامض للجزاء، وندلل على التقابل بين التصورين من خلال لفظ مشترك ورد في الطرحين، وهو لفظ «الظلمة»:
ففي الجانب الإسلامي: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائما عند رسول الله ? فجاء حبرٌ من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودى: إنما ندعوه باسمه الذى سماه به أهله. فقال رسول الله ?: «إن اسمى محمدٌ الذى سمانى به أهلى». فقال اليهودى: جئت أسألك. فقال له رسول الله ?: «أينفعك شيءٌ إن حدثتك». قال أسمع بأذنى! فنكت رسول الله ? بعودٍ معه. فقال: «سل». فقال اليهودى: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله ?: «هم فى الظلمة دون الجسر»).
و«الجسر» هو الصِّرَاط المَنصُوب عَلَى جَهَنَّم لِعُبُورِ المُسلِمِينَ عَلَيهِ إِلَى الجَنَّة، كما يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري([1] [1]).

قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد: 13] ([1] [2]).
وتفسيرها: أن الجسر هو الصراط، وأن المرور عليه هو الذي يحدد مقامات الناس ودرجاتهم قياسا على النور الذي سيكون لكل من يمر منهم على الصراط بحسب العمل، فكان لابد أن يدخل الناس إلى الصراط من «ظلمة»([1] [3])، ثم ينال كل واحد من النور بقدر عمله، فيتبين معنى اللفظ بسهولة ويُسر.
وقد ورد نفس اللفظ عند النصارى «الظلمة الخارجية»، ولكننا لا نجد التفسير الموضح لمعنى الكلمة لماذا هي ظلمة؟ ولماذا هي خارجية؟
وكما اتفق الجزاء في التصور الإسلامي مع الطبيعة البشرية وطبيعة الذنب، كان هذا التصور أحكم قضاء في واقع البشر.
ونظرة إلى التاريخ البشري الذي صنعه إبليس وأولياؤه من الطواغيت، وأئمة الكفر ومردة البشر، الذين قتلوا الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، بالحرق والنشر بالمناشير والتعذيب والتجويع المخطط المصنوع، أصحاب الوثنيات والشرك وعبادة الحجر والبقر.. رواد إشاعة الفواحش والإدمان والمسخ المروع لطبيعة الإنسان كالأنعام والقردة والخنازير.
ثم يكون الجزاء على ذلك.. نارًا مجازية لا تؤثر.. وجسدًا ممجدًا لا يتأثر.. !! ويكون العذاب مجرد تأنيب للضمير وندم وشعور بالحزن والبكاء وصرير الأسنان كما تقول النصوص في (متى13: 42) (متى 3:22) (متى 51:24) (متى30:25)..!!
حيث لا تزيد كل النصوص المشار إليها عن «صرير الأسنان»..!! ليكون صرير الأسنان هو كل الجزاء عن أي عمل!
ومن هنا كان قول ابن تيمية في المقارنة بين الإسلام وأهل الكتاب: «وأما العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش والملائكة والجن والجنة والنار وتفاصيل المعاد.
فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء اليهود والنصارى.. وجد كلام المسلمين فيها أكمل وأتم.
(17) انظر: تعليق ابن حجر على ترجمة الباب: باب الصراط جسر جهنم (18/418).
(18) جاء في تفسير الآية حديث ابن مسعود: “ثم يقال للمسلمين: ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم” وفي لفظ: “فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك ومثل النخلة ودون ذلك حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه، ثم يطفأ نور المنافقين”.
(19) وكما كان النور دليلا على العمل فوق الجسر، كان تصديقا لقدر الله السابق بالهداية، عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ? يقول: إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله. رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني.


التعليقات