شبهة نزول عيسى عليه السلام أخر الزمان

قال السفهاء من الناس: إن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يتعارض مع حقيقة ختم النبوة بالرسول عليه الصلاة والسلام لذا لزم تحديد الأسس التي تفسر الصفة التي سينزل بها عيسى ابن مريم في أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم

أولًا:

النبوة وحيٌ .. والوحي أحكام .. وعيسى لن ينزل بأحكام؛ لأن كل أفعاله ستكون أحكامًا ثابتة مسبقًا في شريعة الإسلام، فإذا كانت أهم أفعاله بعد النزول كسر الصليب، وقتل الخنزير، ووضع الجزية- فإن أحكام هذه الأفعال قد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمَّا كسر الصليب فقد روت أُمُّنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه )[1]. وعندما دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -قبل أن يسلم- وفي عُنقه صليب من ذهب قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عدي .. اطرح عنك هذا الوثن)) [2].

وأما قتل الخنزير فدليل على الحرمة؛ لأن ما أمر الشرع بقتله لا يؤكل، وإن كان مما يؤكل أصلًا فإن قتله دون ذبح يمنع أكله، ومن هنا كان قتل الخنزير دلالة على حرمته. وكذلك كانت ضرورة وضع الجزية؛ لأن الجزية إقرارٌ باختلاف الأمم وتعددها، ووضعها إنهاءً لتعدد الأمم والملل، فيصبح الناس ملةً واحدةً كما كانوا في بدء الخلق؛ ولذلك جاء «كتاب بدء الخلق» في تصنيف البخاري بعد «كتاب الجزية» لأجل هذا المعنى المشار إليه، فقد بدأ الخلق أمة واحدة كما قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] فمعنى أن يكون الناس أمة واحدة .. هو ألا تكون هناك جزية ..! وكذلك قيام الساعة هو عودة الخلق كما بدأ؛ لقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]. كما أن حكم الجزية مرتبط بالجهاد، وبمجرد قتل الدجال لن يكون جهاد، ودليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال)) [3].

نقل الإمام ابن حجر عن الإمام النووي قوله: (الصواب أن عيسى لا يقبل إلا الإسلام، قلت «أي ابن حجر»: ويؤيده عند أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة: ((وتكون الدعوة واحدة)) ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة- أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى لما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، المثبت له في شريعة الإسلام ابتداءً). ثم يقول: (إن مشروعية قبول الجزية من اليهود والنصارى لما في أيديهم من شبهة الكتاب وتعلقهم بشرعٍ قديمٍ بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته، فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم وانكشاف أمرهم، فناسب أن يُعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم).

ثانيا:

الحكمة الأساسية للمعجزات بالنسبة للأنبياء هي إثبات للنبوة أو تعريف بالنبي، ولكن المعجزات التي ستكون على يد عيسى ابن مريم لن تكون كذلك؛ لأن الناس جميعهم سيعرفون عيسى بمجرد نزوله الأرض بين المنارتين في مسجد دمشق، بدليل أن المهدي سيقدِّمه للصلاة، فيرد عليه قائلا: ((إمامُكم منكم؛ تَكرِمة الله هذه الأمة))[4]. كما أن صلاة عيسى وراء المهدي دليلٌ على خضوعه لأحكام الشريعة الإسلامية المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن صلاته ستكون نفس صلاتِنا، وأن إمامة المهدي له تُثبت سُلطان المهدي على الأمة، وأن حكم عيسى سيكون حكم الضيف الذي يُصلي وراء صاحب البيت.

ثالثًا:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن الصفة التي سينزل بها عيسى فقال: ((يُوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية)) [5] فهو سينزل في الأمة بصفته حكمًا عدلًا وليس باعتبارٍ آخر.

رابعا:

أن كل ما سيكون من أمر عيسى ابن مريم سيكون معجزةً للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أخبر به قبل أن يكون. خامسًا: أن أثر نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان لن يكون محدودًا برسالته الأولى؛ لأن رسالته الأولى كانت في بني إسرائيل، أما بعد نزوله فسيكون أثره خارجَ هذه الحدود.

خامساً:

الحكمة من المساءلة يوم القيامة والحكمة من هذا الموقف ترجع إلى قاعدة عامة، وهي الإظهار الكامل للحق يوم القيامة؛ لأنه يوم كمال الإظهار لأسماء الله وصفاته .. ولذلك يقول ابن القيم: (جعل الله سبحانه وتعالى الدُّور ثلاثة: دارٌ أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور، ودارٌ أخلصها للألم والنَّصب وأنواع البلاء والشرور، ودارٌ خُلط خيرها بشرها، ومُزج نعيمها بشقائها، ومزج لذتها بألمِها، يلتقيان ويطالبان، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار، وأجرى أحكامه على خلقه في الدور الثلاثة بمقتضى ربوبيته وإلهيته، وعزته وحكمته، وعدله ورحمته، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء -من حين أوجدهم- لتعطلت أحكام هذه الصفات ولم يترتب عليها آثارُها). ويقول في موضع ثانٍ: (إن يوم الميعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها، ولهذا يقول سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]، وقال: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]، حتى أن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده في ذلك اليوم بأسماء وصفات لم يعرفوها في هذه الدار، فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى، فتأمل ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه، وظهور عزته وعدله، وفضله ورحمته، وآثار صفاته المقدسة، التي لو خُلقوا في دار البقاء لتعطلت، وكمال سبحانه ينفي ذلك، وهذا دليلٌ مستقلٌ -لمن عرف الله تعالى وأسماءه وصفاته- على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله، فيتطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه). ويقول في موضوع ثالث: (إن الله سبحانه يحب أن يُعبد بأنواع التعبدات كلها، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله، ولا يحسن ولا ينبغي إلا له وحده، ومن المعلوم أن من أنواع التعبد الحاصلة في دار البلاء والامتحان ما لا يكون في دار المجازاة، وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة، وكمالها وتمامها إنما في تلك الدار، وليست دار عمل وإنما هي جزاء ثواب وعقاب، أوجب كماله المقدس أن يجزي فيه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 21]. فلم يكن بد من دار تقع فيها الإساءة والإحسان، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، ثم يعقبها دار يجازى فيها المحسن والمسيء، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات، فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل، وهو تعطيلٌ لربوبيته وإلهيته وملكه وعزته وحكمته. فمن فُتح له بابٌ من الفقه في أحكام الأسماء والصفات وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها، واستحالة تعطيلها .. علِمَ أن الأمر كما أخبرت به الرسل، وأنه لا يجوز عليه سبحانه، ولا ينبغي لغيره، وأنه ينزه عن خلاف ذلك كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص، وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان فيفتحه الله على من يشاء من عباده ويحرمه من يشاء. ومن هنا كان قول الله -في الحديث القدسي-: ((أنا الملك .. أين ملوك الأرض؟)) [6] فيوم القيامة هو يوم ظهور أسماء الله وصفاته، ونفي كل ادِّعاء يناقض مقتضى أسماء الله وصفاته، وكمال إظهار الحق لا يكون إلا بإقرار أهل الباطل بما كانوا عليه، وفي هذا الإقرار جاء قول الله: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ*وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 21-22]. ومع إقرار أهل الباطل تكون مُساءلة أهل الحق، ومنها مُساءلة كل من عُبد من دون الله: { يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 17-19]. وفي إطار إظهار الحق يوم القيامة كانت مُساءلة المرسلين .. {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]. لتأتي بعد مُساءلة المرسلين .. مُساءلة عيسى عليه السلام .. {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ} ؟! {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]. فأكمل درجات الإقرار أن يكون بالأطراف التي يتعلق بها موضوع الإقرار، ومن هنا كان إقرار عيسى بالعبودية في يوم القيامة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]. وكان إقرار عيسى قبل يوم القيامة بالحق، وتحقيق كل مقتضياته بالفعل في الواقع .. كما كان الباطل فعلًا وواقعًا.

هوامش

[1]أخرجه البخاري (5952) عن عائشة.

[2]أخرجه الترمذي (3095).

[3] أخرجه أبو داود (2532).

[4]سبق تخريجه.

[5]أخرجه البخاري (2222، 2476، 3448) ومسلم (406) كلاهما من حديث أبي هريرة.

[6]أخرجه البخاري (6519، 7382) ومسلم (7227) كلاهما من حديث أبي هريرة.


التعليقات