جريمة طالب

للجريمة أنواع

إن الذي يمد يده ليسرق مالك من جيبك قد ارتكب جريمة لأخذه مالك بغير حق ولا رضا، لكن للجريمة في الأموال صور أخرى، فالذي يوقفك بقوته ويسلبك مالك تحت التهديد قد ارتكب الجريمة بصورة أخرى، بل والذي يحتال عليك بأشكال الخداع المتعددة حتى تُخرج أنت مالك من جيبك، وتلح عليه حتى يأخذه منك وأنت له شاكر ثم تكتشف بعد ذلك أنه قد سرق مالك ولم يعطك إلّا أوهامًا كاذبة في مقابلة، قد ارتكب هو أيضًا الجريمة بصورة أخرى.

وهكذا تتنوع صور الجرائم ولو تعلقت كلها بالمال، وقل مثل ذلك في الجرائم التي تتعلق بالنفس، بل تتنوع الجرائم حتى تكون أمام بعض الصور التي لم نكن نتخيل أنها تدخلنا إلى عالم الجريمة الفسيح.

هل يكون طالب الطب مجرمًا؟

إن الطالب المتفوق في دراسته الثانوية هو الذي يتأهل لدراسة الطب البشري في جامعاتنا اليوم، فهل يمكن أن يتحول طالب الطب إلى مجرم؟ بل ومجرم لا يمارس الجريمة إلا في تخصصه الدراسي؟

لو صدّر هذا الطالب نفسه للناس يشخص أمراضهم ويصف لهم أنواع العلاج، يحكم على تشخيصات ووصفات الأخصائيين والاستشاريين، فيصوِّب ويخطِّئ، ويعدِّل ويتصدى لأنواع العمليات الجراحية للمرضى، فأفلا يكون هذا الطالب مجرمًا بتصدره لما لم يتأهّل له بعد، وإن حصَّل فيه مبادئ متفاوتة؟ أفلا يكون مجرمًا حين يعرِّض أرواح الناس وأبدانهم وصحتهم للخطر والخطأ، مع أنهم ليسوا مضطرين لذلك في وجود متخصصين مؤهَّلين؟

إن المخاطرة في أبدان الناس أعظم من المخاطرة في أموالهم، وإن الضرر الذي يلحقهم في حياتهم أو صحتهم لهو أسوأ من الضرر الذي يلحقهم في أموالهم، لذلك قرر فقهاء الشريعة أن من تطبب وليس بطبيب فإنّه يضمن في الجناية التي تقع منه على أبدان الناس لتصدره لما لم يتأهّل له.

هل يكون طالب الشريعة مجرمًا؟

إن المخاطرة في دين الناس الذي يعاملون به رب العالمين، والذي يحكم على دنياهم أعظم من مجرد المخاطرة في أبدان الناس أو في أموالهم…

إن مصطلح طالب علوم الشريعة اليوم ليس قاصرًا على أصحاب هذه الدراسات، سواء أكانوا في المعاهد الإعدادية أو الثانوية وما شابههما، أم في كليات الدراسات الشرعية المتنوعة، بل إنه صار يشمل الدراسة في أنواع المعاهد المبثوثة لتعليم من لم يمكن لهم سابق دراسات في الشريعة، بل وصار يشمل أعدادًا من أصحاب الاجتهاد الشخصي في التحصيل غير النظامي، لا الرسمي، ولا الأهلي، فكلٌّ من هؤلاء ربما سمَّى نفسه أو سمَّاه من حوله بطالب علم شرعي.

فلو صدَّر طالب من هؤلاء نفسه للناس، فأفتى لهم وأجاب عن أسئلتهم وقضى بينهم في مختلف منازعاتهم، ونصَّب نفسه حكمًا على العلماء المتخصصين قدامى ومعاصرين فيصوِّب ويخطِّئ، ويتصدَّى لأنواع النوازل المعاصرة، أفلا يكون هذا الطالب مجرمًا لتصدره لما لم يتأهل له بعد وإن حصَّل فيه مبادئ متفاوتة؟ أفلا يكون مجرمًا حين يعرّض دين الناس ودنياهم لفهمه القاصر فيخاطر باستباحة الدماء والفروج والأموال، ويخاطر بتضييق الحلال على عباد الله، مع أنهم ليسوا مضطرين لذلك في وجود متخصصين مؤهلين؟

إن المخاطرة في دين الناس الذي يعاملون به رب العالمين، والذي يحكم على دنياهم أعظم من مجرد المخاطرة في أبدان الناس أو في أموالهم، وتحريم الفتوى والقضاء من غير المتأهل من تحريم القول على الله بغير علم؛ لذلك حكم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على القاضي بغير علم بأنّه «في النّار»([1])، وحكم الفقهاء على مثل هذا بالضمان في جنايات التي تقع بأحكامه على الناس لتصدّره لما لم يتأهَّل له.

أليس دين الله أغلى؟

لقد سمَّى الإمام ابن القيم -رَحمه الله- المتكلمين في دين الله بـ “الموقعين عن رب العالمين”([2])، وقرر أن القول على الله بغير علم هو أكبر الكبائر؛ لأن الله ذكر المحرّمات مرتبة إلى الأغلظ فختمها بقوله: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾([3])، ومن قبله حكم الإمام الشافعي -رَحمه الله- على أن من تكلّم فيما ليس مؤهَّلًا له فأصاب بأنه “غير مأجور”، وإن أخطأ بأنه “غير معذور؛ لأنّه تعدى رتبته في العلم.

ذلكم التناقض في تعامل الشخص الواحد مع كل من الفتوى الشرعية والفتوى الطبية يدل على خلل في الفهم، فيحتاج إلى استدراك وتنبيه، ويدل على نقص في الورع فيحتاج إلى وعظ وتحذير..

لقد نقل الإمام الشاطبي -رَحمه الله- عن أصل كل دين بأنه “علوم دينهم أعظم العلوم”([4]) وقرر في كتاب “الاعتصام” أن طالب العلم قد لا يعتبر ترجيحه فيلحق بالعوام الذين فرضهم التقليد، وقد يعتبر ترجيحه فيلحقه بالعلماء من وجه دون وجه، وإنّما يحكم عليه العلماء بموافقته لمسالكهم([5])، وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله- أن من عرف قول عالم واحد بدليله، فإنه لم يترقَّ بعد عن رتبة التقليد، وأكد على أن المقلد يلزم أحكام رتبته فلا يصوِّب ولا يخطِّئ، بل إن العلماء قد تكلموا في المقلد، وهل يجوز له أن ينقل ما أُفتِي له به لغيره، أم أنه لا يجوز له ذلك؟ وكل ذلك وأكثر منه، إنما تكلم العلماء، نظرًا إلى رتبة المتكلم في الدين ومستوى تأهله في العلم الشرعي كما لا يخفى.

إن ما لا ينقضي منه العجب أن الواحد من هؤلاء إذا احتاج إلى عملية جراحية لم يرض بأن يجرها له أي طبيب، فضلًا عن دارس الطب الذي لم يتخرج بعد، بل يتحرى أكابر المتخصصين من المتأهلين لمثل هذه العملية الجراحية، هذا إن لم يذهب إلى أكثر من واحد من هؤلاء ليتأكَّد من صواب التشخيص، ومن دقة العلاج الموصوف بهذه العملية الجراحية، ثم إن هذا الواحد نفسه إذا احتاج إلى فتوى في دينه اكتفى بأي كسير أو ضعيف، ولم يتحر عن التخصص والتأهل ورضي بالهواة والحواة، بل إنه ربما افتخر بأنه رجع إلى طالب علم، وهو الذي لا يسلم نفسه لطالب طب، فهل يدل على السلوك منه على أن دين الله أغلى عنده حقًّا؟!

تفسير التناقض

ذلكم التناقض في تعامل الشخص الواحد مع كل من الفتوى الشرعية والفتوى الطبية يدل على خلل في الفهم، فيحتاج إلى استدراك وتنبيه، ويدل على نقص في الورع فيحتاج إلى وعظ وتحذير، ولا يصر على المضي قدمًا في هذا التناقض بعد التنبيه والتحذير إلا صاحب هوى يحمله هواه على ما ترى من تناقض، أيًّا ما كان ذلك الهوى الذي يحمله.

ولا يرفع التناقض بالرضا بطالب الطب كما يرضى بطالب العلم، إلا صاحب حماقة تحمله حماقته على ما هو أسوأ من التناقض، فيجافي العقل كما جافى الشرع.

فالجاهل إذا عُلِّم تعلَّم، والغافل إذا نُبِّه تنبه، ومن تقارن عنده الآراء أهواء، إذا غلبه دينه وتقواه، فإنه يستجيب للموعظة ويخاف من التحذير، وهؤلاء كثرة تُرجى نجاتهم، ويُسعى لسلامتهم.

كلهم شركاء في الجريمة

ليس المتصدر وحده هو المجرم، وإن كان رأسًا في هذه الجريمة، بل الذين يصدرونه ويشجعونه شركاء له في الجريمة والذين يتوهمون أنهم ينتفعون به، ويدعمونه في دوره هذا هم كذلك شركاء له في الجريمة، بل والذين يتركونه يمارس هذا الدور مع معرفتهم بقصور رتبته عنه، هم كذلك، إنّهم كلهم شركاء في الجريمة.

——————————————–

[1] شرح مشكل الآثار 9/209
[2] كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم
[3] البقرة:169
[4] كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي
[5] كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي

التعليقات