للحياة خطَّان

عمرٌ قصير، وهام

حياة الإنسان في الدنيا هي عمره الذي كُتب له وهو في بطن أمه، والذي يبدأ عدّاده في التنازل منذ لحظة الولادة حتى يصل إلى “الصفر” في لحظة الوفاة.

وهذه الحياة على قصرها، هي خلاصة قيمة الإنسان، وهي التي تحدد مصيره الأبدي في الجنة أو في النار، فأهميتها لا تقاربها أهمية أخرى؛ لأنها معبرة عن أهمية الإنسان نفسه، ولأنها مما لا يقبل التعويض.

هذه الحياة القصيرة والهامة، لها خطّان رئيسان، ويترتب على الوعي بهما الوعي ببعض الأخلال الخطيرة، كما يترتب على ذلك أيضًا الوعي ببعض الفوارق بين الأفراد والمجتمعات، وسنبحر سويًّا –بإذن الله- في هذه الأفكار، سعيًا للوصول إلى أحد أسرار نجاح الحياة.

خط الاستمرار

الإنسان الحيّ لا يدري متى يموت، وقد تطول به الحياة، هذا من جهة، ثمّ إن مراحل حياته ليست متماثلة؛ فضعفٌ في الطفولة، وقوةٌ في الشباب، وضعفٌ في الشيخوخة، فالاحتياجات والقدرات متفاوتة بينها، وهذا من جهة أخرى. فالعاقل من يحسن استثمار مزايا كل مرحلة في حياته الفردية، ليخرج منها بأحسن ما كان ممكنًا فيها، وليخرج منها بأحسن استعداد ممكن لما بعدها.

والإنسان الرسالي لا تنحصر اهتماماته بنفسه وبأسرته فقط، بل هو حاملٌ لهمّ مجتمعه وأمّته والإنسانية كلّها.

والإنسان الطبيعي يولَد في أسرة، ثم يكوِّن هو أيضًا أسرة، ولا تنقطع علاقاته بأفراد أسرته الأولى مع ذلك، مما يُوجِب للإنسان وعليه مجموعة من المسؤوليات المتبادَلة بينه وبين كلٍّ من أسرتيه السابقة واللاحقة. فالكريم من الناس لا يضيّع مسؤولياته، بل يراعي الوفاء بها حال حياته، ويحرص على ما يمكن من أسبابها بعد وفاته.

والإنسان الرسالي لا تنحصر اهتماماته بنفسه وبأسرته فقط، بل هو حاملٌ لهمّ مجتمعه وأمّته والإنسانية كلّها. فإنّه لا يعيش أحد من الناس وحده، بل لا بد من الحياة في ظل مجموع يؤثر كل منهما في الآخر من جهة، كما يؤثر المجموع الصغير على المجموع الكبير الذي يتماسّ معه ويتبادلان التأثُّر والتأثير.

ثم إنَّ خط الاستمرار وجوده قدري، لكن النجاح فيه كسبيّ، وهذا الأمر ماضٍ على مستوى الفرد الذي تستمر حياته، والأسرة التي تستمر معه وبعده، والمجتمع والأُمّة اللذان لا تتوقف حياتهما بتوقف حياة فردٍ ما، بل يستمران إلى الأجل المقدّر عند الله.

لذلك طالَبَ الشرع الإنسان بأخذ أسباب الاستقرار، والتي تحفظ له خط الاستمرار سواءً أكان ذلك على مستوى حياته الدينية، كما في موعظة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضِيَ الله عنهما- حين نصحه أن يلتزم من العمل ما يقدر على المحافظة عليه مدى عمره، وقال له: «لَعَلَّكَ يَطُول بِك» فلمّا طال عمره -رضِيَ الله عنه- كان يقول: “يا ليتني قبلت رخصة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-“[صحيح مسلم: 1159]. أو حياته الدنيوية كما في نصيحة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لسعد بن أبي وقاص -رضِيَ الله عنه- لما أراد أن يوصي بكل ماله أو بأكثره، حتى بلغ معه الثلث، وقال: «والثُّلث كثير» ثم علل ذلك بقوله الشريف: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» [الاستذكار: 6/280].

وعلى ما ذكرنا من أسباب الاستقرار التي تدعم الاستمرار الناجح، يُقاس غيره في جميع محاور الحياة، فإنّ أسباب الاستقرار تساعد الإنسان على عدم الانقطاع من جهة، وعلى عدم الانهيار من جهة أخرى. إذ أن الحياة في الأرض لها متطلباتها، وإذا كان الإنسان –بل كل كائنٍ حيّ- مفطور على حب الحياة، فالإنسان يتأثّر بضغوط متطلبات هذه الحياة.

خط التغيير

الحركة بأي صورةٍ من صورها هي أول وأظهر علامات الحياة، فالفعل حركة، وردّ الفعل حركة، والنمو حركة، والانفعال الاختياري حركة؛ لذلك كانت الحياة الحيوانية التي تتّسم بالحركة الاختيارية أعلى وأقوى من الحياة النباتية والتي تفتقد الحركة الاختيارية، وللإنسان باعتباره أرقى الكائنات الحية الخط الأكبر من حقيقة الحياة وكمالها اللائق بالمخلوق؛ ولذلك تتميّز الحياة الإنسانية بالتطور المستمر عبر تاريخها كله.

والتطوُّر تغيير نحو الأرقى، فالحياة الإنسانية في تغيُّر يجرف الأفراد دائمًا، حتى لو كان ذلك بنسب متفاوتة، ثُمَّ إنَّ أكثر التغييرات الهامة في حياة الفرد أو المجموع تكون من خلال قفزات قوية مؤثرة تمثل نقلة نوعية أو كَمِّية يختلف ما بعدها عمَّا قبلها. ولكل تغيير ما يدعمه من جهة، وله أيضًا ما يعارضه من جهة أخرى، والتدافع بينهما توجّه نتيجته خط الحياة.

أما بالنسبة للأمة فقد كان بدء الدعوة بداية تغييرية لوجودها، ثم كان الانتقال من الدعوة السرية إلى العلنية نقلة على مستوى الظهور العلمي، ثم كانت الهجرة هي النقلة الكبرى على مستوى الوجود السياسي العملي..

ولا تتم تلك التغييرات إلَّا بتضحيات تتناسب مع قيمة تلك التغييرات من جهة، وتتناسب مع ما يعضدها وما يعارضها في الواقع من جهة أخرى. لذلك فهي تقوم على درجة من درجات روح المغامرة، وتمر بمرحلة من مراحل المخاطرة محسوبة كانت أو غير محسوبة.

فعلى مستوى الحياة الدينية الفردية، تدرك قيمة خط التغيير من مثل حديث النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ الشَّيطانَ قعدَ لابنِ آدمَ بأطرُقِهِ، فقعدَ لَهُ بطريقِ الإسلامِ، فقالَ: تُسلمُ وتذرُ دينَكَ ودينَ آبائِكَ وآباءِ أبيكَ، فعَصاهُ فأسلمَ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الهجرةِ ، فقالَ: تُهاجرُ وتدَعُ أرضَكَ وسماءَكَ، وإنَّما مثلُ المُهاجرِ كمَثلِ الفرسِ في الطِّولِ، فعَصاهُ فَهاجرَ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الجِهادِ، فقالَ: تُجاهدُ فَهوَ جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، فعصاهُ فجاهدَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: فمَن فعلَ ذلِكَ كانَ حقًّا على اللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ» [صحيح النسائي: 3134].

أما بالنسبة للأمة فقد كان بدء الدعوة بداية تغييرية لوجودها، ثم كان الانتقال من الدعوة السرية إلى العلنية نقلة على مستوى الظهور العلمي، ثم كانت الهجرة هي النقلة الكبرى على مستوى الوجود السياسي العملي؛ لذلك رَبط التاريخ الأُمة بها، ثم كانت الغزوات حتى الحديبية فكان الانتشار الدعوي الواسع، ثم فتح مكة فكان اتساع السلطان السياسي. وهكذا بُنِي وجود الأُمّة من خلال خط التغيير الصاعد الذي يجمع بين مستويي الحياة الدينية والدنيوية في زمنٍ قياسي.

وكذلك قفزات بناء الدول الإسلامية المتعددة كالدولة الأموية التي تأسست في الأندلس، أو كدولة المرابطين التي تأسست في المغرب، أو الأيوبيين حين أسسوا دولتهم في مصر، أو غيرها من نماذج قفزات البناء الناجحة في الدنيا.

وعلى ما ذكرنا من نماذج قفزات النجاح التي تحقق التطورات الإيجابية على الأرض تُقاس غيرها في باقي محاور الحياة، فالحياة متسارعة قفّازة لا تنتظر بطيئًا ولا كثير المخاوف، وهي ميدان تنافس وتدافع بين أهلها، فالقفزة غير الناجحة قد تحرق أهلها فتهلكهم سريعًا، والوقوف دون قفزات قد يجمّد أهله فيهلكهم بطيئًا، ولا حياة ناجحة إلا بقفزات النجاح المُوفَّقة ربانيًّا والمحسوبة واقعيًّا.

أشهر الأخلال

بناءً على ما سبق، فإنَّ أشهر الأخلال الواردة هنا، هي واحد من اثنين:

ومن لا يحمل روح خط التغيير يتأخَّر كثيرًا عن ركب الحياة السائر، ويفوته السبق دائمًا

الخلل الأوَّل: غياب أحد الخطين السابقين، فمن لا يبني حياته على أرضية من خط الاستمرار يتعرَّض للكثير من الهزَّات في حياته،  وأسوأ ذلك ما كان في كبرٍ أو ضعفٍ حين يصعب استدراك ما فات سابقًا، ومن لا يبني حياة أسرته على ما يمكن من أسباب الاستقرار يعرضهم لأسباب الانهيار إمَّا في حياته أو بعد وفاته، وليس بعد خسارة النفس أسوأ من خسارة الأهل، ومن لا يبني مؤسساته العملية على مقومات الاستقرار التي تساعدها على الاستقرار، يكون قد حكم عليها بالمرحلية العابرة في الواقع، ولو أثرت فيه تأثيرًا لحظيًّا يمتد في غيرها ويستثمره غيرها. وبمثل ما ذكرنا يُفهم أثر غياب أسباب الاستقرار على الأفراد والأسر والتجمعات.

ومن لا يحمل روح خط التغيير يتأخَّر كثيرًا عن ركب الحياة السائر، ويفوته السبق دائمًا، فعدم أخذه بالاستعداد المناسب للقفزات الممكنة، يجعل الفرص تمرّ أمام عينيه، لكنها لا تكون أبدًا في يديه. وكثرة تخوفاته تجعله أسير أوهامه وهواجسه، فيفتقد المبادرة حتى على مستوى ردود الأفعال المطلوبة.

وإذا كان إشكال غياب خط الاستمرار، يظهر مع طول العمر وامتداد الأجيال ومرور الزمن، فإنَّ إشكال غياب خط التغيير يظهر في لحظات مفارق الطرق الهامة في الحياة، وفي ظل ظروف التنافس والتدافع في الأحوال المرنة، وعندما تُتاح فرص مؤقتة لا يربح إلَّا من يبادر إلى اغتنامها لعدم تكررها في الحياة كثيرًا.

الخلل الثاني: ضعف الاتزان بين الخطين، سواءً أكان ذلك بسبب توهم التعارض بينهما، مما يؤدي إلى ترجيح أحدهما على حساب الآخر، أو كان بسبب الاستجابة للميول النفسية، والتي قد يستهويها أحد الخطين على حساب الآخر، وغالبًا ما يكون ثمة تداخل بين شبهة التعارض والترجيح وبين شهوة الميول النفسية، فتحمل الشهوة الشبهة، وتستر الشبهة الشهوة.

لا يُنكر أن هناك ظروف قد تستدعي تقديم أحد الخطين وترجيحه بشكل مؤقت على الآخر، لكن ذلك ينبغي أن يتم بحسابات دقيقة للغاية، وأن يكون في ظل حرص على المحافظة عليهما بالقدر اللازم لنجاح الحياة في النهاية، وإلَّا ظهرت أخلالُ ضعف الاتزان على الفرد أو الأسرة أو الفئة بحسب نوعها وكمّها، وبحسب الظروف المحيطة بكلٍّ منهم، والتي تدعم أو تعارض تلك الأخلال.

بين الأفراد والمجتمعات

التجمعات النخبوية التي تريد أن تقود المجتمعات نحو التحرير والتطوير لا بد أن تحرص لنفسها –مع قيامها على خط التغيير- على أسباب الاستقرار التي تحافظ بها على استمرارها لتتوالى أجيالها، وتتراكم خبراتها، وتحسن استثمار تضحياتها.

كلما كان التجمُّع الإنساني أكبر اقترب في خصائصه من خصائص المجتمعات، والمجتمعات في الأغلب تميل إلى دعم أسباب الاستقرار للمحافظة على خط الاستمرار، والذي لا بد لها منه كما سبق، وكلما كان التجمع صغيرًا أو كان الموجود إنسانًا فردًا كانت احتمالات القفزات المعبرة عن خط التغيير أكثر ورودًا، وهذه حقائق إنسانية عامة في البشر تاريخًا وحاضرًا.

ولا يمنع ما ذكرناه وجود أفراد وتجمعات صغيرة، ذوي سمت حريص على خط الاستمرار، ومتقلل للغاية من قفزات خط التغيير، كما أن المجتمعات والتجمعات الكبيرة تمر بها لحظات حرجة في ظل ضغوط ومؤثرات قوية تجعلها قابلة وداعمة لخط التغيير، وإن أدّى ذلك للتضحية ببعض مكتسبات الاستقرار المكونة لخط الاستمرار.

فالتجمعات النخبوية التي تريد أن تقود المجتمعات نحو التحرير والتطوير لا بد أن تحرص لنفسها –مع قيامها على خط التغيير- على أسباب الاستقرار التي تحافظ بها على استمرارها لتتوالى أجيالها، وتتراكم خبراتها، وتحسن استثمار تضحياتها. كل ذلك دون أن يكون حرصها على أسباب الاستقرار بديلًا لها عن قفزات التغيير التي تعبر عن رسالتها، وبها تحقق أهدافها.

أمَّا في علاقتها بالمجتمع، فلا بد أن تراعي محافظتها على مقومات استمراره، حتى لا ينقطع دونها، ولا ينفصل عنها، وفي نفس الوقت تستثمر وتصنع ظروف التأثير القوية التي تحفز المجتمع لتبني التغيير، والصبر على تكاليفه وتضحياته.

نجاح الحياة

إنَّ نجاح الحياة لهو أمرٌ أعلى من مجرّد وجودها، إنَّه يعني تحقيقها لأهدافها الممكنة في ظل ظروفها الواقعية؛ ولذلك فقد يتخذ أشكالًا متنوعة في ظواهرها، لكنها متفقة في حقيقتها وجوهرها.

إنَّ الإدارة المتزنة للحياة بين خطي الاستمرار والتغيير، تمنحها دفعات الحياة المترقية على أرضية قوية من الاستقرار بما يحقق لها أمثل صور النجاح، والإنسان بأصل خلقته لا يسلم من نقصٍ في علمه وحكمته، ولا يسلم من هوًى في ميله وإرادته، فلا يستغني عن توفيق ربه، الذي يجبر نقصه، ويستر عيبه، ويكمّله بفضله.

فنجاح الحياة الإنسانية مرهونٌ باتزان إرادة العبد واستنزال توفيقه للرب –-سبحانه وتعالَى-، وأنت أخي الحبيب أهلٌ للنجاح في حياتك الغالية فاحرص على ذلك.


التعليقات