عودة الفجر لأهل مصر

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

الليل الحالك

لفت انتباهي أنَّ الناس في بلادي لا يبتسمون …

كان هذا منذ عشر سنوات تقريبا عندما كنت أسافر بالقطار إلى القاهرة فأنظر في وجوه الناس فلا أرى إلا الهمَّ يرتسم على وجوههم؛ هَمُّ المعاش هَمُّ اليأس هَمُّ المرض هَمُّ الفقر، يالبساطتهم؛ بعضهم يذهب مبكرا ليجد لنفسه مكانا يجلس فيه فإنَّ الطريق طويل ومع هذا قد يضطر للوقوف لثلاث ساعات ليُوفِّرَ لأولاده ثلاثة جنهيات هي الفرق بين تذكرة القطار وأجرة السيارة.

كان الصبيان والشباب في بلادي يستيقظون في الصباح يسلكون طريقهم إلى (جارات المدرسة)، نعم يتعلمون ويتربَّون على المقاهي والكازينوهات وأوكار الأفلام والدخَّان والمخدِّرات، ثم يأتي دور التحرش ولقاءات الذكور والإناث وما فيها من ضياع للعقول والطاقات، مع تسفُّلٍ في الأخلاق ، وإعراضٍ عن التعلُّمِ والمسجد والقرءان.

أما المستشفيات في بلادي فأوكارٌ للأمراض والإهمال والاحتيال، والمرض في بلادي مخلوطٌ باليأس فنصف المصريين إما مصاب بالسكريّ أو بالكبد أو بالقلب أو بالكُلى.

أما عن قوة الدولة فهذه مسألة لا تخطر ببال الناس كثيرا، فالدولة قوية جدا لدرجة أنَّ المواطن يخاف من المرور أمام قسم الشرطة، ويخشى أن يذكر في حديثه الأجهزةَ السيادية، والدولة أيضا ضعيفة جدا لدرجة أنها لا تستطيع أن تستنكر قتل جنودها على الحدود مع العدو، ولا تستطيع أن ترفض أوامر العدو بالحفاظ على أمنه وسلامته وتوفير احتياجاته الأساسية من الوقود والطعام.

الاستقرار الزائف

هذه الأوضاع المحزنة قد بلغت من الاستقرار مداه، وصارت بفسادها تحتل كل أركان الحياة، وأصبح التفكير في التغيير لا يدفع به إلا واجبُ الإيمان في قلوب بعض الموحِّدين، وعندها تصطدم الآمال بأجهزة النظام، تلك الأجهزة التي بلغت في تقدُّم الأهداف والوسائل إلى درجة التطبيق الناجح ـ في كثير من الأحيان ـ لبرامج تجفيف منابع التغيير وضربها في مهدها قبل تحرُّكها، وبرامج تصدير رموز التخذيل إلى ساحات الحراك الإسلامي العام والخاص.

لم يكن أكثر الناس على دراية بالحقيقة التي تستتر خلف هذا الاستقرار المزيف.

إنها الأوتاد … أوتاد النظام … أوتاد فرعون.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ). ([1])

والأوتاد هم الجنود الذين يشدّون لفرعون ملكه، ويستعملهم في الطغيان في بلاد الله بتجاوز المباحات، وإيذاء عباد الله في دينهم ودنياهم، والاستكثار من الفساد والصدِّ عن سبيل الله. ([2])

وحينما شاء الله عز وجل بتفجير الثورة كانت أحداث يناير كحجرٍ أُلقِيَ به في ماءٍ راكدٍ فاضطرب الماء، ثم ظهرت حركته للناس …

وانكشفت أوتاد الطغيان …

انكشفت في بيان التنحي، وفي تزوير التعديلات الدستورية.

انكشفت أمام مجلس الوزراء وفي شارع محمد محمود، وفي بورسعيد وفي ماسبيرو.

انكشفت في الترشح للانتخابات الرئاسية، وفي ميدان العباسية، وفي حلِّ مجلس الشعب. انكشفت في الإعلام والصحافة، وفي الأموال التي تُنفق والخطط التي تُحاك.

وانكشفت أيضًا أمام نادي الحرس والمنصة، وفي رابعة والنهضة ورمسيس، وفي كرداسة ودلجا وحول ميدان التحرير و……..

إنَّ ظهور الأوتاد بعد ثورة يناير كان طبيعيا، فإنَّ أول خطوة في طمس الأوتاد هي ظهورها للعلن، فالظهور بداية السقوط بإذن الله.

فجر الحركة والشباب

الحركة هي سمة الحياة، والصراع طبيعتها قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ([3]) فالحياة مبنية على سنن التدافع والصراع، فلا تسأموا ولا تستعجلوا ولا تتوانوا، (ولَمَّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا)، ([4]) فالحياة ما هي إلا حراك بين الحقِّ والباطل، كلٌّ يدلو بدلوه، و(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّه مَا لَا يَرْجُونَ).([5])

واليومَ فإنَّ حيوية الحركة في بلادي تتمثَّل في حركة شبابها الطاهر الرافض للاستبداد والتبعية، ولم لا ومرحلة الشباب تمتاز بأنها (تجمع الحيوية والنشاط والحركة، مع الوعي والمعرفة إلى حد كبير)،([6]) فهذا الشباب (يُمثِّل في حاضر هذه الأمة صحوتها من الغفلة، وإدراكها لبشاعة واقعها، كما يُمثِّل رفضها لهذا الحاضر وإن عجزت عن تغييره، كما يُمثِّل حنينها لأن تكون نفسها مرة أخرى، أي أمة مسلمة قوية عزيزة مجتمعة على الإسلام)،([7]) فيا أيها الشباب لا يرهبنكم تسلُّط ممياوات فرعون على أدوات الإدارة والبطش، فإن اليوم يومكم، تبذِلون وتُنصَرون، و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).([8])

فجر الإيمان والثبات

إن الثبات الذي رأيناه في ميادين الاعتصام، وفي ساحات المواجهات ليكشف عن قوةٍ في الإيمان مع ثباتٍ عليه، و(السنن الربانية في الأمم، والقوانين الثابتة في الاجتماع، تدل على أنَّ التغيير إلى الأصلح لابد أن يعتمد على نواة صلبة جدا، ونقية ومؤثرة إلى حد بعيد، تجتمع في فلكها عناصر الصلابة والنقاء والتأثير. وهذه النواة لا يمكن أن تتكون إلا بعد أن ينفض من حولها غبار العناصر الهشة، ولا يتحقق ذلك إلا بعد أن يخضع الجميع لتمحيص الابتلاء وغربلة الفتنة، مصداقًا لقوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ([9])

ومما زاد من تجذُّر هذه القاعدة وصلابتها: أنها لم تُمنَّ بالوعود البراقة من منصب ومغنم وجاه دنيوي، وإنما ربطت برضوان الله تعالى والجنة في الدار الآخرة ؛ لأنَّ الغاية من تلك التربية: أن تنشأ القلوب المؤمنة على درجة عالية من الصلابة والنقاء والتأثير، ولا يكون ذلك إلا بالتجرُّد من حظوظ النفس وشهواتها، وصرف الهمم إلى التعلق بالآخرة). ([10])

فجر البذل والعطاء

إنَّ الأقدار بيد الله يصرِّفها كيف يشاء، ولا يظلم ربُّك أحدا، فإنْ أَكرَم ونَعَّم أو قَدَرَ وضيَّق، فكله من الله ابتلاء، المؤمن يدرك هذا جيدًا، أمَّا أكثر الناس (فيُبتلى بالنعمة والإكرام فلا يدرك أنه الابتلاء تمهيداً للجزاء، إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلاً على استحقاقه عند الله للإكرام، ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله… وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصوُّر ومخطئ في التقدير، فبسط الرزق أو قبضه ابتلاءٌ من الله لعبده. ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر. ويظهر منه الصبر على المحنة او الضجر…

غير أن الإنسان حين يخلو قلبه من الإيمان لا يدرك حكمة المنع والعطاء. ولا حقيقة القيم في ميزان الله.. فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك. وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء، فعمل له في البسط والقبض سواء. واطمأن إلى قدر الله به في الحالين؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء.

(كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)).([11]) إنكم لا تدركون معنى الابتلاء، فلا تحاولون النجاح فيه، بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين، بل أنتم على العكس، تأكلون الميراث أكلاً شرهاً جشعاً؛ وتحبون المال حباً كثيراً طاغياً، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام).([12])

فجر القيامة

(يُخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة, فقال تعالى: (كلا) أي: حقاً (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال وقام الخلائق من قبورهم لربهم (وجاء ربك) يعني لفصل القضاء بين خلقه (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال رسول الله ×: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف مَلَكٍ يجرُّونها»،([13]) (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ) أي: عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، (وأنَّى له الذكرى) أي: وكيف تنفعه الذكرى. (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيا، ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعاً ، (فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) أي: ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) أي: وليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربهم عز وجل, وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين، فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) أي: إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته (راضية) أي: في نفسها (مرضية) أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) أي: في جملتهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي)، وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضاً, كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره, فكذلك ههنا).([14])

وأخيرًا.. تخوُّف لابد منه

(إنَّ ثبات الدعوة على الطريق الذي تسلكه للوصول إلى هدفها الرئيس وهو التمكين لدين الله في الأرض، أمرٌ يستدعي الاستعلاء على الضغوط والتحديات، والاستعصاء على الإغراء والمساومة، وهو ما يلحظه المتأمل في مواقف النبي × الشديدة الاستعصاء على الاستدراج والتنازل، مع أنَّه كان في أشد الحاجة إلى المساعدة والنصرة والتأييد لتخفيف الضغط على نفسه وأتباعه).([15])

فلا تساوموا على دينكم، واستمروا في فضح الأوتاد، ولا تبخلوا بنعم الله عليكم، ولا تغفلوا عن الآخرة، ولا ترتابوا في إيمانكم، (فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين).([16])

الهوامش

([1])  الآيات 10 و11 و12 من سورة الفجر.

([2])  تفسير الطبري، وتفسير السعدي لسورة الفجر.

([3])  سورة البقرة، الآية: 251.

([4])  سورة البقرة الآية: 214.

([5])  سورة النساء الآية: 104.

([6])  تربية الشباب المسلم للآباء والدعاة، خالد أحمد الشنتوت، ص: 7 ط: دار المجتمع.

([7])  حذار إنهم يحفرون الأخدود، د. محمد رشاد خليل، ص: 8 توزيع: دار الأنصار.

([8])  سورة الفجر الآية: 14.

([9])  سورة ال عمران الآية: 179.

([10])  منهج النبي × في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة، أ. د. محمد أمَحزون، ص: 95 ط: دار السلام.

([11])  سورة الفجر الآيات: 17 ـ 20.

([12])  مختصرًا عن: في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب، سورة الفجر.

([13])  صحيح مسلم (2842) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

([14])  مختصرًا عن: تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير، المجلد الثامن، ص: 369 و370 ط: دار الحديث.

([15])  منهج النبي × في الدعوة، ص: 104.

([16])  سورة يوسف الآية: 64.


التعليقات