الثائر الخائن

كشفت الأحداث المتتالية التي يمر بها العالم الإسلامي الغطاء عن المعادن الحقيقية السيئة للعديد من القادة والرموز والكوادر، مما جعل البعض يحار في فهم كيفية تحول القيادي أو الشيخ أو القدوة “فلان” من رمز لمناهضة الاستبداد ليصير أداة في يد الطغاة ينافح عنهم، بل ويقدم لهم النصح والمشورة في كيفية القضاء على القوى المجتمعية الحية التي ترفض الخضوع للظلم.

ظاهرة الخيانة بالتأكيد ليست ظاهرة طارئة بل تمتد بامتداد الوجود البشري على ظهر الأرض، ولكن سخونة الأحداث المعاصرة وشدتها حتمت التمايز وإعلان الانحيازات بوضوح دون مواربة، مما جعل حالات الارتداد والنكوص على الأعقاب تتزايد وتستشري.

وفي هذه التدوينة سأستعرض نموذجا فجا لهذه الظاهرة، يتمثل في شاب تحول من كونه أحد رموز العمل الفدائي بمصر مطلع القرن العشرين إلى أن صار مضرب المثل للخيانة. فعقب اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس عام 1914، أعلنت بريطانيا:

– فرضها الحماية على مصر، وزوال السيادة التركية عنها لتصير سلطنة مستقلة.

– عزل الخديوي “عباس حلمي” الثاني من منصبه، وتعيين عمه الأمير “حسين كامل” سلطانا على مصر.

أثار تولي”حسين كامل” مقعد الحكم على حراب الإنجليز، وقبوله فرض الحماية البريطانية شعورا عاما بالسخط عليه، حتى أنه عندما زار (كلية الحقوق) عام 1915 فوجئ بغياب طلابها احتجاجا عليه، ففصل بعضهم واعتقل البعض الآخر. ووصل حجم البغض تجاهه إلى أن تعرض لمحاولتي اغتيال إحداهما وقعت في يوليو 1915 على يد عناصر من جمعية (التضامن الأخوي) التي سبق لها اغتيال رئيس الوزراء “بطرس غالي”.  وفي تلك العملية ألقى “محمد نجيب الهلباوي” عضو شعبة الإسكندرية بالجمعية قنبلة أشعلها بفتيل سيجارته من شرفة شقة مستأجرة على عربة السلطان أثناء سير موكبه من قصر رأس التين بالإسكندرية إلى مسجد “عبد الرحمن بن هرمز” لأداء صلاة الجمعة.

ألقى “الهلباوي” عقب السيجارة على الأرض أثناء هروبه من عناصر الأمن، وكان مكتوبًا عليه الحروف الأولى من اسمه، ففي ذلك الوقت كانت السجائر تصنع بالطلب للمدخنين، ويُكتب على كل سيجارة اسم صحابها، فألقى البوليس القبض على أصحاب مصانع السجائر بالإسكندرية، وتعرف أحدهم على “الهلباوي”  فقُبض عليه ثم على عدد من رفاقه، وصدر عام 1916 الحكم بإعدام  “الهلباوي” و”محمد شمس الدين” الذي استأجر المنزل الذي ألقيت القنبلة من شرفته، وتلقى “الهلباوي” الحكم ضاحكا، ثم تدخل السلطان فخفف الحكم عليهما إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

عقب اندلاع ثورة 1919 ثم خفوت أحداثها، نجح الانجليز في الزج بأغلب معارضي الاحتلال في مسار العمل السياسي والحزبي الخاضع لسيطرتهم، حتى أن جمعية (التضامن الأخوي) عانت من انفضاض العديد من قادتها وكوادرها عنها، ووصل الحال إلى أن رئيس شعبة القاهرة بالجمعية “شفيق منصور” انضم لحزب الوفد وصار نائبا بمجلس النواب، وكذلك فعل “محمود فهمي النقراشي” و”أحمد ماهر” اللذان توليا منصب رئاسة الوزراء فيما بعد.

في تلك الأجواء أعاد عناصر جمعية (التضامن الأخوي) تنظيم صفوفهم وشنوا عمليات اغتيال دموية ضد الإنجليز وأعوانهم ناهزت 40 عملية خلال الفترة الممتدة من عام 1919 إلى 1924. وعجزت أجهزة الأمن السياسي عن توقيف الضالعين في تلك الحوادث، فتفتق ذهن ضابط القسم المخصوص “إنجرام” عن السعي لاستمالة “الهلباوي”، فزاره  في سجن طرة عام 1923 رفقة الضابط “سليم زكي” وداعبا مشاعره قائلين ما خلاصته (إن رفاقك خانوك، فالنقراشي صار وزيرًا، وشفيق منصور صار نائبًا بالبرلمان، بينما أنت تقضي شبابك في السجن) وعرضا عليه الإفراج عنه، والتعيين كموظف في الحكومة، ونيل مكافأة قدرها 10 آلاف جنيه مقابل المساعدة في الوصول لمنفذي الاغتيالات، وخلال ثمانية أشهر من المساومات واللقاءات المتكررة استطاع “سليم زكي” إقناع “الهلباوي” بالعمل لحساب الشرطة.

وتمثلت خطتهم في توظيف “الهلباوي” لماضيه في العمل الفدائي كمدخل إلى المشتبه فيهم حتى يكسب ثقتهم. وبالفعل أفرج عنه في 11 فبراير 1924، وشرع في الاتصال بمن لهم سوابق في الحوادث السياسية، وتردد على مكتب المحامي “شفيق منصور” النائب الوفدي بالبرلمان وقائد شعبته القديمة، وفي المكتب التقى “الهلباوي” مع  الشابين (عبد الحميد وعبد الفتاح عنايت) متخذًا من رفقته لشقيقهما المتوفي “محمود” في محاولة اغتيال السلطان ستارًا، وقال لهما إن الاغتيالات السياسية وسيلة فعالة في تحقيق المطالب الوطنية، وتظاهر برغبته للعودة في القيام بها؛ ولكنه لطول إقامته بالسجون، وتغير أحوال البلد لا يجد من يعاونه، ولا يطمئن لأحد لا يعرفه، وأنه يود أن يواصل معهما رسالة شقيقهما.

فلما وقع حادث اغتيال سردار (قائد) الجيش المصري وحاكم السودان “لي ستاك” بشارع القصر العيني في نوفمبر 1924 طلب “الهلباوي” من الأخوين “عنايت” عقد لقائهما التالي معه بأحد الفنادق لإبعادهما عن أي مراقبة خشية من تكرر لقاءاتهم في المنزل ومراقبة البوليس لتحركاته، وبالقرب منهما بالفندق تواجد الضابط “سليم زكي” حيث استمع لهما وهما يرويان للهلباوي قصة مشاركتهما في حادثة اغتيال “لي ستاك”.

ومن خلال تقارير “الهلباوي” اكتشف ضباط الأمن السياسي أن “عبد الفتاح عنايت” ضعيف الأعصاب وصغير السن؛ لذلك اختاروه للإيقاع برفاقه، فعقب اغتيال “لي ستاك” ألقي القبض على عدد كبير من المشتبه فيهم من أصحاب السوابق السياسية، ومنهم عضو جمعية التضامن الأخوي “محمود إسماعيل”، وأوعز البوليس إلى جريدة المقطم المؤيدة للاحتلال بنشر خبر مزور في الصفحة الأولى يوحي بأن “محمود” وشى بزملائه طمعًا في العشرة آلاف جنيه المرصودة لمن يدلي بمعلومات عن منفذي الاغتيال، فنشرت الجريدة الخبر في صفحتها الأولى تحت عنوان:

(محمود إسماعيل يقابل وزير الداخلية ويلقي باعترافات خطيرة في حادث مقتل السردار) وأوصل “الهلباوي” للأخوين “عنايت” الجريدة في بيتهما، واقترح عليهما الهروب سريعا إلى ليبيا عن طريق الصحراء الغربية، وطلب منهما أن يكون معهما سلاح أثناء عملية الهروب للدفاع عن أنفسهم، فأخبراه أن السلاح موجود، واصطحباه للمنزل الموجود به السلاح، وهو ذاته المستخدم في قتل السردار.

وعند سفرهم جميعا بالقطار لمرسى مطروح داهم البوليس القطار في مدينة “الحمام” لتفتيش الركاب، وقبض على الثلاثة، وحققوا معهم، وتوالت الاعترافات والاعتقالات، وانهار “شفيق منصور” حيث كان قد قطع علاقته بالجمعية بعد التحاقه بحزب الوفد، فأعطى تفاصيل شعبتي القاهرة والإسكندرية التي شن أفرادهما العديد من عمليات الاغتيال خلال الفترة من عام 1910 إلى 1919.

وانتهت المحاكمة في القضية رقم 110 جنايات السيدة زينب لسنة 1925 بالحكم على 8 متهمين بالإعدام، ونفذ الحكم في 7 منهم بنفس العام، وخفف الحكم إلى المؤبد على المتهم الثامن “عبد الفتاح عنايت” نظرًا لصغر سنه ولإعدام شقيقه.

مواقف تاريخية لحظة الإعدام

سجلت لحظات الإعدام مواقف تاريخية لمعظم عناصر الجمعية تكشف عن عمق الالتزام بالإسلام في نفوسهم:

* إذ قال “عبد الحميد عنايت”: (قمت بعملي أحسن قيام، إنا لله وإنا إليه راجعون، رب أدخلني جنة النعيم).

* أما “إبراهيم موسى” الذي نفذ معظم العمليات، فقد رفض الاعتراف حتى نهاية القضية، وبالرغم من سوء حالته المالية وأبوته لأربع بنات كان يرفض استلام أموال من زملائه بدلاً عن أيام غيابه من عمله في السكة الحديد لتنفيذ الاغتيالات. فقال (إن قلبي مطمئن بالإسلام ونطق الشهادتين قبل إعدامه).

* أما “علي إبراهيم” فأوصى بالتمسك بالإسلام والتبرؤ ممن خالف دين محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد حاول بعض الناجين من المحاكمات اغتيال “الهلباوي” فيما بعد، ولكنه أفلت منهم بالفرار والإقامة بالصعيد.

نموذج “نجيب الهلباوي” يبين كيف أن شابا اشترك في العمل الوطني ضد الاحتلال وكبار أعوانه، وتلقى حكم الإعدام بثبات، تحول بمرور الوقت إلى مشروع خائن بعد أن رأى قائده وبعض رفاقه يتولون المناصب النيابية والوزارية تحت حكم الاحتلال، بينما هو يرزح في السجن، ومن ثم استجاب للإغراءات والمساومات، وسلم خيرة شباب وطنه إلى أعواد المشانق مقابل حفنة من المكتسبات الشخصية الزائلة، وهو ما يستدعي المداومة على طلب الثبات من الله سبحانه وتعالى، والتعامل بحذر مع الأحياء من البشر مهما كان تاريخهم، فكما يقال (إن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).


التعليقات