هل يسقط تنظيم الدولة بسقوط الحدباء؟!

داعش رافضياً أو ISIS أمريكياً أو تنظيم الدولة إسلامياً أو دولة الخلافة ولائياً وعصبياً؛ تلك هي الأسطورة التي بدأها الشهيد أبو مصعب الزرقاوي، يوم تحول تنظيم مجلس شورى المجاهدين -وركيزته الأساسية القاعدة- إلى دولة العراق الإسلامية.
يحار المحللون في تقييم تنظيم الدولة وتحليل أسباب نشوءه وارتقاءه، وهم في ذلك بين تزييف أعدائه وتعصب أوليائه، فيجنح أغلبهم إلى اعتباره صناعة مخابراتية لأنظمة وأجهزة أجنبية معادية
 
أراد التنظيم أن يستبق التقسيم أو السيطرة الرافضية فأعلن نفسه كدولة في مناطق السيطرة السنية؛ فكرة تبدو جيدة مبدئياً لكن يشوبها الافتقار إلى التنظير وعيوب التطبيق وعوائق التنفيذ، والافتيات على بقية التنظيمات والمجموعات السنية المسلحة والمقاومة، وقد حافظ التنظيم في جميع مراحله على تقليد إسلامي تم تغييبه كثيراً ربما كنوع من إجبار الخصوم على الإذعان إليه وهو قرشية بل حسينية الإمام، استلهاماً للصورة النقية التي تمثلها هذه النسبة وارتقاباً للوعد النبوي الشريف في آخر الزمان، وهو التقليد الذي استمر حتى اليوم.
 
ولكن الأمر لم يبقى على حاله كثيراً ولم يُسلم لهم أحد بذلك فقد طالت أيدي الصليبيين الجدد القيادات الأقوى؛ أبي مصعب ثم أبي عمر وأبي حمزة رحمهم الله جميعاً؛ وتبع ذلك فترة عصيبة على التنظيم وسنوات عجاف، فاعتقل الآلاف منهم بينما قتل آخرون كثر، وانهارت المقاومة أو كادت باهتزاز دولة العراق الإسلامية وترنحها تحت تلك الضربات، لكن التنظيم القوي أخذ في التعافي تدريجياً بعد ذلك.
 
وفي فترة قصيرة نسبياً استوعب خلالها كل المتغيرات واستفاد من جميع التجارب السابقة عليه خاصة الجهادية منها بدء من قاعدة الجهاد وانتهاء بحماس، فاتقن جميع التكتيكات والتقنيات والفنون العسكرية ، بدءً من تصنيع المتفجرات وحفر الانفاق والهياكل الخداعية والمفخخات الاستشهادية وحتى تصنيع المدافع المضادة للمدرعات ومدافع الارض جو ثم الطائرات بدون طيار للتجسس والهجوم، كما اتقن وبمرونة عالية القدرة على التحور من حرب الجبهات شبه النظامية حين يسيطر على المناطق والاقاليم الى مجموعات تقود حرب العصابات في المدن وغيرها.
 
استفاد التنظيم عند سيطرته على الموصل من اغتنام العتاد الهائل الذي سيطر عليه حين انسحب أربعون ألفاً -وقيل ستون ألفاً- من الجيش العراقي الطائفي فائق التجهيز؛ أمام بضعة مئات فقط من جنوده كما قال منظره العدناني في أحد إصداراته، كما استفاد أموالاً طائلة من المناطق التي استطاع السيطرة عليها في العراق ثم الشام لاحقاً ومن بيع البترول للدول المجاورة.
 
ولكن النقلة الاكبر -من وجهة نظري- كانت في إعادة التوزيع القيادي والتطوير الإداري اللذين قام بهما أبو بكر البغدادي والتي حلت مشكلة المركزية الشديدة جداً والمعرقلة لحركة وحيوية التنظيم، كما قللت الى حد كبير الاثر النفسي والحركي لاغتيال او قتل القادة في المعارك.
أن التنظيم هو تطور متميز لأطروحة ربما لم يحلم صاحبها أن ترتقي هذا المرتقى؛ وهي أطروحة أبي بكر ناجي الموسومة في جزئيها ب “إدارة التوحش” و “الخونة”
 
وكل ما سبق هو مهم جداً في فهم ظاهرة تنظيم الدولة، ولكنه يبقى شكلياً وليس بنفس القدر من الأهمية التي يشكلها فهم مضمون الظاهرة وجذورها التكوينية والتي يتعامى عنها الخصوم والمناصرون والتي أوجزها فيما يلي:
 
١- يحار المحللون في تقييم تنظيم الدولة وتحليل أسباب نشوءه وارتقاءه، وهم في ذلك بين تزييف أعدائه وتعصب أوليائه، فيجنح أغلبهم إلى اعتباره صناعة مخابراتية لأنظمة وأجهزة أجنبية معادية؛ وإن فُهِمَ سلفاً لماذا تروج بعض الأنظمة المجرمة في المنطقة لذلك، إلا أنه يبقى غريباً أن تروج ذلك فئات وحركات إسلامية أخرى كالإخوان مثلاً والتي ما فتأت تعد كل فئة إسلامية أخرى مخترقة أو صنيعة مخابراتية وأمنية للتشويش على الخط الوسطي التي تحتكره احتكاراً، ومصدر الحيرة والعجب في هذا التصور المؤامراتي الأحمق ان ذلك الاتهام تحديداً قد رُميت به نفس تلك التيارات بل كل التيارات الإصلاحية والثورية ربما عبر التاربخ.
 
٢- خطورة نظرية المؤامرة تلك أنها تعمد إلى تصور معتسف وعقيم عسير على الفهم بل لا تستسيغه العقول السليمة بل هي من تزييف الهوى والتبعية العمياء فيتصورون أنه من الممكن للمخابرات الغربية ودول الهيمنة الصليبية أن تجمع عشرات الآلاف من أبناء المسلمين عن وعي او غير وعي ليقتلوا أنفسهم لتنفيذ مخططاتها !!
 
بينما يتناسى أولئك كل الاسباب والمبررات الواقعية المشهودة لكل ذي عينين في كل أرجاء العالم مما تسنفر الحجر والشجر لقتال هؤلاء المجرمين ودحرهم، فهذا الإجرام الغربي والعالمي ضد المسلمين هو سبب واضح وتلقائي لنفرة هؤلاء الشباب بالآلاف من إندونيسيا إلى نيجيريا بل ومن بلاد الغرب نفسها بلا مؤامرة ولا مخابرات؛ لترد هذا العدوان المجرم عن أمتها والذي استمر لقرون، فهم أبناء التاريخ وصناعة الألم، ففي هذا التصور السخيف تبرئة للقوى المستكبرة وتعظيما لها ايضاً.
 
٣- أن التنظيم هو تطور متميز لأطروحة ربما لم يحلم صاحبها أن ترتقي هذا المرتقى؛ وهي أطروحة أبي بكر ناجي الموسومة في جزئيها ب “إدارة التوحش” و “الخونة”، فالأول في حقيقته هو دعوة لتوحش إسلامي -إن جاز التعبير- لا يبقي ولا يذر في مواجهة التوحش الجاهلي المجنون وغير المسبوق، والجزء الثاني هو توجه تابع لهذا التوحش يمتد إلى الامة خواصها قبل عوامها وشيوخها قبل جهالها من جالد الظالمين منهم ومن خان وسلم، ومن ظَلَموا قبل من ظُلِموا ومن أَموا قبل من أُمِمُوا. 
أرى أن تنظيم الدولة هو ظاهرة جديرة بالملاحظة -عملياً- من بقية التيارات الجهادية إذ يمثل حالة جارفة من السيولة والديناميكية والاحتواء والتطور في بعض الجوانب رغم عيوبه الخطيرة في جوانب أخرى
 
هذا الطرح البسيط المباشر المكافئ للواقع والذي لا يوغل في التنظير ولا التعقيد التنظيمي، فمرحباً بالجميع مقاتلين حتى الموت أو النصر؛ كان هو في الحقيقة سبب الإقبال منقطع النظير وفي ظل ظروف مناسبة لهذا التوحش هناك في العراق والشام.
 
٤- يرتكز الفكر الاساسي والمرجعية الاعتقادية العامة للتنظيم إلى التجربة النجدية بكل مفرداتها وإفرازاتها وتطبيقاتها السياسية أيضاً، ولا أقول إلى العقيدة النجدية فحسب، وذلك لما تحمله هذه التجربة من أصول شرعية سليمة ولمحة غاية في الغلو تخص بيئتها وظروف نشأتها التي اختلط فيها التوسعي السياسي بالإصلاحي ووجهت العداء داخلياً تجاه الانحرافات التي تراها في الامة من شيعة وصوفية وإباضية، ومع قابلية أصول التكفير والغلو هذه للتوسع والتمدد، في ظل حالة البساطة والتلقائية المذكورة في نشاة التنظيم والتي احتوت كثيراً من الصغار والبسطاء والعوام في صفوفه.
 
٥- كذب الدعاوى التي تزعم أن تنظيم الدولة لا نكاية له إلا في المسلمين، بينما نكايتهم واضحة جلية في الكفار والشيعة، إلا أن لهم عدوة أيضاً على أهل السنة سيما المجاهدين منهم وهم بعمدون إلى مبدأ القوة مع الجميع حتى العوام في مناطقهم؛ ألم أقل لكم إنها ذروة حالة التوحش الإسلامي؟!
 
وهذا لا يستره غربال ولا تعمى عنه إلا عين ذي ترة، وقد شهدت به الآلاف من المجاهدين والمؤمنين والثقات والصالحين وهو فرع عن غلو التنظيم في باب الاسماء والأحكام وذلك كله مسموع مقروء في أدبيات التنظيم وفي تكفير البغدادي والعدناني وغيرهما للمجاهدين وكثير من المسلمين، وهو سار شائع مشهور على الإنترنت في تكفير الشيخ د.أيمن الظواهري وأردوغان و د.مرسي والإخوان وحازم أبو إسماعيل والجماعات المجاهدة في الشام وطالبان وكل من مارس الديمقراطية وغيرهم.
 
٦- أرى أن تنظيم الدولة هو ظاهرة جديرة بالملاحظة -عملياً- من بقية التيارات الجهادية إذ يمثل حالة جارفة من السيولة والديناميكية والاحتواء والتطور في بعض الجوانب رغم عيوبه الخطيرة في جوانب أخرى كتكفير المسلمين والولوغ في دمائهم، فقد التحق به غلاة مجرمون ولغوا في دماء المسلمين بل وخيارهم دون ورع أو روية، وكثير منهم مشهود له بسوء الخلق والمسارعة في السب والتخوين والاتهام بالردة والعمالة لكل مخالف، وهي مصائب لا تجبرها تلكم المميزات وقد عزلتهم عن الأمة عمومها وخصوصها، وذلك رغم أنه التحق به بالفعل وفي مراحله المختلفة مجاهدون كثر ومخلصون ومؤمنون من أبناء هذه الأمة، وقاتلوا وقتلوا لإعلاء كلمة الله تعالى.
 
٧- ظاهرة التنظيم نشأت واقتات على حواف الظواهر كاضطهاد أهل السنة وظهور الرافضة عليهم بالقتل والعسف والوحشية التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً منذ التتار والصليبيين الأُوَل، والطائفية والعرقية واحتمال التقسيم إلى أكراد وشيعة يحتكران الثروات والمياه بينما السنة في صحاري العراق بلا مقدرات، وتراجع قاعدة الجهاد النسبي بعد الحملة العالمية ضدها ثم استشهاد الشيخ أبو عبد الله أسامة والملا عمر، ووجود مساحات جغرافية هائلة ومعقدة تضاريسياً وخارج السيطرة بشكل كامل، وظاهرة الثورات العربية ثم الانقلاب عليها، وغيرها من الظواهر، مما يرشح التنظيم للاستمرار والتمدد ولو إلى عشر سنوات أخرى ما بقيت ظواهره المغذية كروافد مستدامة وما لم تتغير الأوضاع في المنطقة خاصة في مصر. 
أعرف أن هذا المقال سيفتح أبواب الجحيم على الأغلب ولن يعجب مافيه القريب قبل البعيد، وسيثير كل عقد النقص وضلالات العقل التي فُرضت على العقلية المسلمة المعاصرة
 
٨- لا تجوز مظاهرة الكافرين عليهم بالقول أو الفعل فضلاً عن القتال، ومن فعل ذلك فهو في ورطة خطيرة، وليس هذا كقتالهم لدفع الصائل ورد بغيهم وعاديتهم عن الدماء والأموال والاعراض كما حدث من معاملتهم بالمثل في الشام من كثير من الفصائل التي اعتدوا عليها، كما أن تفسير شدة بغيهم على المسلمين في اعتقادي؛ ليس هو الاختراق والعمالة بقدر ماهو تأثير الغلو في بدعة التكفير وهو يورث الحول الفكري والازدواج في الأهداف وتشتتها، كما قتلت الخوارج أمير المؤمنين وقاتلت أصحاب رسول الله ﷺ، مع ملاحظة أنني لا اصف التنظيم بالخارجية وذلك لنكايتهم في أهل الكفر ما لم يكن للخوارج قط من قبل، وان اشتركوا معهم في بعض صفات المارقة من الدين كالجهل الشرعي الخطير وبساطة الفهم والتكفير لأكثر مخالفيهم من أهل الإسلام وقتلهم.
 
٩- سطر تنظيم الدولة في الموصل ملحمة عسكرية عقائدية خطيرة وجديرة بأن تسطر في التاريخ صمد خلالها ما يقارب العام في مواجهة ستين دولة ومائة ألف أو يزيدون من الجنود والعتاد الهائل، واضطر للانسحاب بعدما كبدهم خسائر فادحة بل واضطرهم للتوقف التكتيكي لمدة شهرين كاملين لإعادة الكرة عليه، وأما المتهم بتدمير المدينة وتحويلها إلى كومة من الانقاض والمسئول عن هدم المنارة الحدباء وعن الفتك بالآلاف من أبنائها رجالاً ونساء وأطفالاً؛ فهي قوات التحالف المجرمة وخلفها الحرس الثوري الإيراني الطائفي المجرم وميليشياته، وليس التنظيم الذي صمد أكثر ما يستطيع، في مدينة هي من حقنا أصلاً ومن يعيب عليهم ذلك فليتفضل بالجهاد لتحريرها وحميتها إن استطاع، فليس الرافضة الصفوية بخير من التنظيم ولا أحق منه بالمدينة رغم ما ذكرته أعلاه.
 
١٠- أعرف أن هذا المقال سيفتح أبواب الجحيم على الأغلب ولن يعجب مافيه القريب قبل البعيد، وسيثير كل عقد النقص وضلالات العقل التي فُرضت على العقلية المسلمة المعاصرة، فستعتبره الجهات الأمنية المجرمة تعاطفاً مع داعش من بعض الوجوه، وسيعتبره إخواننا رقة مني في مواجهتها رغم مانعرف عنها وما نعانيه منها في السجون وخارجها، كما سيعده البعض خيانة لدماء المسلمين التي سفكوها، وستعتبره الإخوان انحرافاً مني عن خط الجبهة الذي ارادوا استغلاله والاستفادة منه -تنظيرياً على الأقل- في جانب يعانون هم من الضعف فيه، وأخيراً ستنطلق أحكام الردة والتكفير والاتهام بالعمالة من أنصار التنظيم، كل هذا لا يهم بمقدار أن نبين للناس ما نعتقد أنه الحق والصواب وبحيادية كاملة، ترضي الله عز وجل وننصح لإخواننا المسلمين جميعاً.
 
١١- ومن المفترض بطبيعة الحال أن أكون معك أو ضدك، ولا ينبغي أن امتدح أي أحد أو أية فئة ولو بنصف كلمة ولو كانت حقاً وإلا كنت مؤيداً له أو لها بالكامل والعكس صحيح بطبيعة الحال؛ فلا يفترض تخطئة أي جهة ولو بشق كلمة طالما كنت موالياً لها، ولابد أن أُنزل كتالوجا لكل كلمة لشرحها وإلا أخذ الوسواس القهري القراء والمتابعين في كل دربِ غيٍ لا مخرج منه، فلابد أن يفكر لهم غيرهم، ولا يستطيعون وحدهم أن يعزوا الكلام لقائله ومنهجه وعقيدته وتاريخه وفكره وممارسته العملية وكتاباته السابقة.
 
ألم أقل أننا نعاني من ضلالات فكرية لا تفهم الاختلاف ولا تعرف الإنصاف ولا أدب الخلاف؟ فضلاً عن جهلها بمسارب الفكر وتضاعيف النظر !!

التعليقات