رمضان بين العزلة والمدافعة

في رجب من العام الثاني من الهجرة بعث النبيُّ عليه الصلاة والسلام سريةَ استطلاع سُمِّيت (نخلة) وجعلَ على رأسها عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وفي آخر أيام شهر رجب أدركوا قافلة لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوه وأسروا رجلين وغنموا القافلة ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلم الناس بعد ذلك في أمر قتلهم لعمرو وهجومهم على القافلة في الشهر الحرام (رجب).

ومع تنوع الأجوبة التي تناولتها كتب السيرة عن هذا الإشكال، إلا أن البيان القرآني تجاوز ذلك كله، وجاء بجواب حاسم وقاطع {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَر}، حيث أثبت وقوع المخالفة، وبين أنها كبيرة وليست بالأمر الهيّن، لكن في ذات الوقت هناك ما هو أكبر من ذلك وأعظم عند الله، فهناك كفر بالله وبالمسجد الحرام، وهناك اعتداء على الدماء والأموال والأعراض، وهناك فتنة الناس ومطاردتهم وملاحقتهم وصدهم عن الدين وإرغامهم على الكفر، (وما أشبه الليلة بالبارحة) المهم أن القرآن أثبت لنا القاعدة العامة التي تقول: إن بعض الشَّرِّ أهون من بعض، وأن الفساد الأكبر يُدفَع ولو بفساد آخر لكنه أقل.

قبل كل رمضان تصدر دعوات كثيرة من بعض أصحاب التأثير باعتزال التفاعل مع القضايا العامة والتفرغ فقط للعبادة، ويستشهد أصحاب هذه الدعوات ببعض آثار واردة عن السلف الصالح تفيد هذا المعنى، حتى إن بعض العلماء كانوا يتوقفون عن دروس وحلق العلم في رمضان، وينشغلون بالقرآن والذكر والدعاء فضلا عن الصيام والقيام، لكن بنظرة سريعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، سنجد أن هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح، حيث إنه عليه الصلاة والسلام قد صام وقام واعتكف، وكان جبريل يأتيه في رمضان يدارسه القرآن، وفي نفس الوقت كان يعلم الصحابة أمور الوحي، ويصلح بين الناس، ويدعو الكفار إلى الله عز وجل، ويجاهد المعاندين والمتكبرين (كل ذلك في رمضان).

ومن الغزوات الشهيرة في شهر رمضان غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة، وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، بل إن توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام للمجاهدين بالفطر في رمضان كان واضحة وصريحة، فعن أَبي سعيد الْخُدْرِيَّ رضي اللَّه عنه قال: “سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا وَكَانَتْ عَزْمَةً، فَأَفْطَرْنَا (رواه مسلم) بل إنه عليه الصلاة والسلام قد صرح بأن المفطر الذي يقوم بخدمة الصائم يحصل على أجر أكبر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ، فأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ، وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ: ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليَوْمَ بِالأَجْرِ” (رواه البخاري ومسلم)

وقد سار الصحابة والتابعون والقادة على نهجه عليه الصلاة والسلام في عدم اتخاذ رمضان ذريعة لترك الجهاد، فكانت معركة البويب الطاحنة (رمضان 13 هـ) وهي أقوى معارك الفتوح الفارسية قبل القادسية، وكان فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد في رمضان سنة 92هـ، ومعركة عمورية التي قادها المعتصم 223هـ، وكانت عين جالوت بقيادة قطز في رمضان عام 658هـ، ومعركة شقحب (بالقرب من دمشق) 702هـ، وفتح بلجراد بقيادة السلطان سليمان القانوني عام 927هـ.

وإذا كان كلامي هنا غير موجه بالدرجة الأولى للمجاهدين في ساحات مقاتلة أعداء الدين، فإن الدعاة والمثقفين والكتَّاب هم ردء المجاهدين وظهرهم والمنافحون عنهم من جهة، ومن جهة أخرى هم الذين يقودون معركة الحجة والبيان أو جهاد الكلمة واللسان، والرد على الشبهات والاتهامات، هم الذين يواجهون حملات التهويد والتنصير والتشييع التي يتحرك لها أصحابها ليل نهار، هم الذين يردون على العلمانيين والشيوعيين ودعاة الإلحاد، هم الذين يحفظون شباب المسلمين من الضلال والانحراف، هم الذين يشغلون أبناءنا وبناتنا بالخير بعيدا عن مسلسلات العهر والفجور التي تنتشر في رمضان، هم الذين يساهمون في ضبط بوصلة الأمة وتوجيهها إلى حيث يرضى عنها ربُّها.

 وحتى لا يفهم كلامي في غير موضعه، أؤكد على أن حق الخلوة والتعبد مكفول للجميع، دون أن يؤثر ذلك على سير العمل العام في طريقه بلا توقف أو تباطؤ، وليكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب: (خذوا حَظّكُم من العزلة) وقال (العزلة راحة من خليط السوء) أي إن العزلة أمر له وقته الذي يحتاج إليه كل شخص عند وجود أسبابه، فلا تكون دائمة ولا دعوات عامة في مواسم معينة، وأظن أن دعاة العزلة في رمضان متفقون معي على أننا لم نصل بعد إلى زمان الفتن الذي يكون فيه “خيرُ مالِ الرجل المسلم غنمٌ يتبع بها شعْفَ الجبال” (رواه البخاري)، لأننا لو وصلنا لهذه المرحلة لما كان لتخصيص رمضان بالاعتزال أي معنى.

هذه دعوة للاتزان والتوسط، حيث يؤدي أحدنا عبادته الشخصية، ويقرأ ورده من القرآن، ويحرص على الذكر والدعاء، دون أن يكون ذلك ذريعة لترك المقارعة والمدافعة، بل العكس هو الصحيح، بحيث لو قصرنا في شيء من نوافل العبادات، احتسبنا أننا نقوم بما هو أهم وأوجب منها، كما كان خالد بن الوليد يقول: (لقد شغلني الجهاد في سبيل الله عن كثير من قراءة القرآن)، ولنضع الآثار الواردة عن السلف بالاعتزال في رمضان في موضعها الصحيح، حيث كانت دولةُ الإسلام قويةً مُهَابةً، لها جيوشها التي تتحرك في كل اتجاه لإسقاط الطواغيت وإقامة الحق ونشر العدل بين الناس، لها جنودها المرابطون على الثغور الذين يزودون عن حياضها، ويدفعون المعتدين عن حدودها، ومن ثَمَّ كانت الفرصةُ سانحةً للراغبين من العلماء والدعاة وغيرهم أن يتفرغوا في شهر رمضان للعبادات المحضة وترك الاختلاط.

فيا أصحاب الأقلام الحرة، ويا أصحاب الكلمة المؤثرة، ويا دعاة الخير، قد جاءكم رمضان يناديكم أن يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِر (رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم) فكيف تكون النتيجة أن يقبل بغاةُ الشّرّ بِخَيلِهِم ورَجْلِهم وأن يُقْصِر بغاةُ الخير ويعتزلوا قومهم!!


التعليقات