رمضان بين الصلاة والصيام

من أكثر الأسئلة التي تتردد عند مقدم شهر رمضان المبارك هو السؤال التالي:

أنا أصوم ولا أصلي، فهل يصح صيامي؟

ومن الأجوبة القاصرة المستفزة على هذا السؤال، والتي تصدر غالبا عن مشايخ أو هيئات ذوات صفة رسمية في الدولة، هي الإجابة التالية: الصلاة ليست ركنا في الصيام ولا شرطا من شروطه، وهما عبادتان منفصلتان لا يرتبط أحدهما بالآخر، ومن ثَمَّ.. فالصيام بلا صلاة صيام صحيح طالما استوفى شروطه وأركانه!!

وأنا هنا لا أريد أن أفتي بصحة العبادة أو بطلانها، لكني أريد أن ألفت نظر السائل لأمر مهم، وهو أن العبادات تتفاضل وتتعاظم فيما بينها، وأن ما ورد في شأن الصلاة يدل دلالة قاطعة على أنها أفضل وأعظم العبادات العملية على الإطلاق، وبالتالي.. إذا كان المسلم سيتمسك بعبادة ويقصر في أخرى أو يتركها، فالأولى به أن يتمسك بالصلاة ويحافظ عليها بلا تردد، ولو أن السائل ابتعد قليلا عن هؤلاء المشايخ وهذه الهيئات الذين لا يهمهم بعد رضا الحاكم سوى عدم الاصطدام بما عليه الناس، لوجد نفسه قد وقع في جُرْمٍ عظيم لا يضاهيه بعد الكفر بالله جُرْمٌ.

افتح الترغيب والترهيب للمنذري، أو الكبائر للذهبي، أو تعظيم قدر الصلاة للمروزي، أو كتب التفسير أو الفقه أو الحديث أو الرقاق، وانظر ما ورد في شأن الصلاة وحكم تاركها قبل أن تسأل هذا السؤال، وقد يكفيك آيتان وحديثان وأثر، أما الآياتان فهما قوله تعالى في سورة مريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} وقوله في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}، قال ابن كثير: ({أضاعوا الصلاة} -وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد- وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غَيًّا، أي: خسارا يوم القيامة) اهـ.

وأما الحديثان، فالأول ما رواه مسلم في صحيحه عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ»، والحديث الثاني ما رواه أحمدُ والتّرمذي والنَّسائي وابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»، وأما الأثر، فهو قول التابعي عبد الله بن شقيق قال: (مَا عَلِمْنَا شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ قِيلَ تَرْكُهُ كُفْرٌ, إِلاَّ الصَّلاَةَ). وبعيدا عن كونه يكفر بذلك أو لا يكفر، هل يتسنى لعاقل أن يترك نفسه محصورا بين قولي الفقهاء (هو كافر خارج عن الملة / هو كافر كفرا أصغر لا يخرج من الملة)؟ ثم هو يسأل عن صحة صيامه من عدمه!!

وقد يليق بمقامنا هذا أن نذكر أمورا تفردت بها الصلاة عن سائر العبادات، عسى أن ينتبه الغافلون، أو يرجع الذين هم عن ربهم مبعدون:
أولا:

كانت الفرائض تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي وهو على الأرض وسط الناس، لكن الصلاة فُرضت حال استدعائه إلى السماء خلال رحة المعراج بعد الإسراء.

ثانيا:

تفردت الصلاة من بين العبادات بكونها خمس فرائض في كل يوم وليلة، بحيث تسيطر على حياة العبد وتمثل ارتباطا واتصالا مستمرا، وبابا متجددا للتوبة بين العبد وربه، علما بأنها فُرِضت في البداية خمسين صلاة في اليوم والليلة، وكان الحوار الشهير بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام سببا في تخفيفها إلى خمس، مع بقاء الاحتفاظ بأجر الخمسين. إضافة لشعائر عظيمة مثل الجمعة والعيدين.

ثالثا:

سنن الصلاة كثيرة ومتنوعة، بدءًا من سنة الفجر التي هي خير من الدنيا وما عليها، مرورا بثنتي عشرة ركعة كَسُنَن تابعة للصلوات المفروضة، تمنح من صلاها كل يوم بيتا في الجنة، وصولا لصلاة الليل التي هي شرف المؤمن، وخلوته بربه حيث يغفل الناس، وأقلها ركعة واحدة، وأفضلها إحدى عشرة ركعة، إضافة لصلاة الضحى التي ينال من صلى أربع ركعات منها كفاية الله عز وجل له سائر اليوم، إلى غير ذلك من الصلوات التي يصليها الإنسان عند الحاجة والاستخارة والتوبة ولدفع همومه….. إلخ.

رابعا:

تفردت الصلاة بكونها العبادة الوحيدة التي لا يُعذر مسلم بتركها قط، فلم يرخص الله عز وجل للمريض ولا المسافر ولا المجاهد ولا الأسير -فضلا عن غيرهم- في تركها أو حتى تضييع أوقاتها، بل وضع لهم صورا متعددة لأدائها حال أعذارهم، حتى ولو بالذهن والعقل فقط في الحالات التي تقتضي ذلك. ولم يستثنى من ذلك سوى غير المكلفين أصلا، أو المرأة حال حيضها ونفاسها.

خامسا:

تفردت الصلاة بأنها العبادة الوحيدة التي يشترط لها طهارة الثوب والبدن والمكان الذي تؤدى فيه، فضلا عن طهارة المُصلِّي من الحدثين (الأكبر بالغسل، والأصغر بالوضوء).

سادسا:

تفردت الصلاة بكونها تؤدى بالعقل والقلب واللسان والجوارح، بحيث تتمكن من الإنسان بالكلية، حيث يلزم فيها الخشوع والتدبر إضافة إلى الأقوال والحركات فيها.

سابعا:

تفردت الصلاة من بين العبادات بأن الله حرم على النار أن تأكل من جسد ابن آدم أعضاء السجود السبعة (الوجه والكفين والركبتين والقدمين) إذا كان قد أتى من الذنوب ما استوجب عذابه قبل دخوله الجنة.

ورغم الفضائل العظيمة للصيام ولشهر رمضان شهر القرآن، فإن الصلاة كذلك حاضرة ضمن هذه الفضائل، فكان «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وإن تعجب.. فأعجب من أولئك الذين يصلون التراويح في رمضان (وهي سُنَّة)، مع تركهم للفرائض!!

فيا من تصوم ولا تصلي:

اعلم أن هناك من الصائمين من ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، ومنهم من يكون حظه من صيامه الجوع والعطش دون أجر أو ثواب، وما ذلك إلا بسبب ما يقترفونه حال صيامهم من الذنوب والآثام، وليس هناك أعظم جُرما وإثما من ترك الصلاة، وإذا كنت تدع طعامك وشرابك وشهوتك من أجل الله، فإن ذلك يستلزم منك تعظيم ما عظمه الله، وإذا كان الله عز وجل قد فرض علينا الصيام لأجل تحصيل التقوى، فإن إقامة الصلاة من أبرز صفات المتقين {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}. أما إذا كنت تمني نفسك بأن “رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما“، فلابد من تذكر قيد “إذا اجْتُنِبَت الكبائر” واتفق العلماء على أن تارك الصلاة قد وقع فيما هو أكبر من الزنا والربا وشرب الخمر وعقوق الوالدين.

ويا من تتصدرون لإفتاء الناس في أمور دينهم:

اعلموا أنكم مسؤولون أمام الله عن تبليغ دينه كاملا غير منقوص، وأن مهمتكم هي دعوة الناس للالتزام بشرع الله وتنفيذ أمره، لا أن توافقوهم وتسايروهم فيما يرضي أهواءهم ورغباتهم، فالتكليف هو إخراج المُكَلّفِ من داعية هواه ليكون عبدا لخالقه ومولاه، وقد حذركم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.


التعليقات