أُمّي وََصَلاتي

كان جريجٌ عابدا زاهدا منعزلا في صومعته لا يخالط الناس إلا قليلا، وكان إذا دخل في صلاته أطالها، جاءته أمه يوما تناديه بعدما بدأ يصلي: يا جريج، أنا أمك، تعالى وكَلِّمْني. فقال: يا رب أُمِّي وَصَلاتي. ثم أقبل على صلاته وانصرفت أمه، ثم جاءته في وقت آخر فحدث نفس الأمر وانصرفت، ثم جاءته الثالثة وحدث نفس الأمر، فقالت: يا رب، هذا جريج، وهو ابني، وإني كلّمتُه فأبى أن يكلمني. ودَعَتْ عليه دعوة شديدة، فاستجاب الله دعوتها.

هذه ليست مجرد قصة أو حكاية من الأساطير، هذه واقعة حقيقية أخبرنا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي موجودة في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة، وفي بعض الروايات ذَكر أنها لو دعت عليه بأشد مما دعت لاستجاب الله دعوتها، هذا رغم أن جريج لم يمتنع عن أمه في الحقيقة، لكنه احتار، أيجيبها أم يكمل صلاته؟ فاختار أن يكمل صلاته.

وإذا كان هذا حال من احتار بين أمه وصلاته فاختار صلاته وقدمها عن جواب نداء أمه، فكيف بمن يقول: أمي وزوجتي، ويقدم زوجته!! أمي وأولادي، ويقدم أولاده!! أمي وأصحابي ويقدم أصحابه!! وكيف بمن لا يحتار أصلا وليس لأمه منزلة ولا مكانة في حياته!! أمّه.. مهملة منسية مهجورة!! أمه.. لا يعرفها ولا يفكر فيها!! أمه.. يعُقُّها ويؤذيها!! أمه.. يتبرأ منها ويحتقرها!!

آاااااه يا أم جريج آاااااه
آهٍ يا من دعوتي على ولدك لأنه تأخر عليكِ بسبب الصلاة، تعالي وطوفي على بيوت الأمهات واسأليهن: منذ متى لم يزرْكُنَّ الأبناء؟ تعالي في زمن نحتفل فيه للأم بعيد سنوي وللمرأة بيوم عالمي، وستجدين من لا يذكر أمه إلا في المناسبات والأعياد!! بل ستجدين من يتبرأ من أمه ويستحي أن تظهر في محل عمله أو أمام أصحابه!! ستجدين من لا يصطحب أمه يوم عرسه لأنها لا تليق بمقام زوجته!! ستجدين من يهين أمه ويتطاول عليها ويَسُبّها -بل- ويضربها!! ستجدين يا أم جريج من المآسي ما يجعلك تقولين: اللهم ارحم جريجا واغفر له، فقد كان ولدا بارًّا (حتى لو أخرته الصلاة عنكِ) بدلا من دعائك عليه.

دائما ما تحضرني قصة جريج مع أمه كلما تذكرت أيام صباي وشبابي، وكيف كنت قبل معرفة طريق التدين ولدا عاقًّا لأمه، كيف كنت أتضجر عند تأخرها في تلبية طلب لي، كيف كنت أترك البيت غاضبا إذا صنعت طعاما لا أشتهيه، كيف كنت أتأخر خارج البيت غير مبالٍ بسهرها وهي تنتظرني كي تطمئن عليَّ وتضع لي العشاء، كيف كنت أستيقظ من نومي وهي عند رأسي تمسح على صدري برفق وحنان وتقول: قم يا حبيبي، حان وقت الدراسة أو العمل، وما أفتأ أرفع رأسي حتى أجد فطوري جاهزا لا ينتظر طلبي (ولا يعجبني!!). كيف وكيف وكيف… حتى تنتهي الكَيفات كلها ولا تنقطع ذكراها أو تنتهي خيراتها.

ويستمر حضور القصة عند تذكر ما كان يحدث بعد أن أكرمني الله بالهداية والسير على طريق الحق، بل كانت تبرز أمامي حين كنت أستيقظ من الليل لأصلي فتستيقظ هي الأخرى لمجرد استشعارها بحركتي، فأقول لها: نامي يا أمي، استريحي، عندك يوم شاق مع أبي وإخوتي. فتقول: وكيف أنام وأنت مستيقظ يا بني! ولو احتجتَ شيئا من يقضيه لك؟ وكانت تصلي معي وبمجرد أن أسلّم من الصلاة تبادرني: هل أصنع لك شرابا ساخنا؟ هل تريد ماء أو عصيرا أو أيّ شيء؟

أذكر ذات مرة حال الصلاة لمحت أمي دمعة في عيني، فقالت لي: لماذا تبكي يا حبيبي؟ فقلت: خوفا من الله يا أمي. فقالت: لا تخف، لأن الله لا يعذب من أرضى قلب أمه، وأنا قلبي راض عنك يا بني. وكانت هذه الكلمة هي أكثر كلمة تريح قلبي وتزيل كربي.

وبعدما لفظت أمي أنفاسها الأخيرة بين يديّ، وفقدَتْ حياتي أعزّ إنسان لديّ.. صِرتُ أبَرُّها بالدعاء لها خاصة في صلاتي، والتصدقِ عنها، وتعاهدِ أحبابها، وأصبحتُ أوصي كل من له أم: أمك ثم أمك ثم أمك، لتكن حياتك كلها لأمك، ليكن قلبك لأمك، لتكن روحك فداءً لأمك، ليكن كل مالك تحت أقدام أمك، فمهما وجدتُ من زوجاتي وأبنائي وكل من حولي.. لا أجد مُدَّ أمي ولا نصيفه.

لا يخفى علينا جميعا مكانة الوالدين في شريعة الإسلام، وخاصة الأم، حتى إن الله عز وجل ربط بر الوالدين بتوحيده سبحانه في العديد من الآيات كمثل قوله تعالى: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا“.
وفي بيان خطر العقوق ربطه بالشرك والكفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: “أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين” والآيات والأحاديث في هذا السياق كثيرة، لكني أريد أن أذكّر كل عاقٍّ لوالديه بأن العقوق جريمة يعاقب اللهُ فاعلَها في الدنيا قبل الآخرة، فالقاعدة العامة أن الجزاء من جنس العمل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: “اثنتان تُعَجّلان: البغي والعقوق”، والأمّ مقدمة في هذا كله دون ضياع لحق الأب، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك

أما الذين لا يعرفون أمهاتهم إلا في اليوم المسمى بعيد الأم (21 مارس)، فأقول لهم: أمهاتكم لسنَ بحاجة لهذا العيد ولا للهدية فيه، أمهاتكم يحتاجونكم أنتم مثلما تناديكم صلواتكم (خمس مرات في اليوم والليلة) بين اتصال هاتفي وطلّةٍ بهية ولو عابرة وإرسال ولد من أولادك يلاعبها وتلاعبه.. وهكذا، ومرة مختلفة أسبوعيا كصلاة الجمعة في عطلة الأسبوع، ومرتين كبيرتين في العام عندما تجعلها في أول برنامجك بعد صلاتي عيد الفطر والأضحى، فإن العلماء قد اتفقوا على وصف من لا يصلي إلا العيدين بأنه شخص (لا يصلي) وتسري عليه كل أحكام تارك الصلاة، فكذلك أمك التي لا تعرفها إلا فيما يُزعم أنه عيدها لا ينفي عنك وصف (الابن العاق).

اللهم ارحم أمي وأموات المسلمين، واهدنا ووفقنا لِبِرّ آبائنا، وأعنّا على حسن تربية أبنائنا.


التعليقات