فهم السلف وصلاحية النص لكل زمان ومكان

يفترض دعاة تجديد الخطاب الديني والقراءة العصرية للنصوص الدينية التناقض بين مقولتين هامتين هما: صلاحية النص دلاليًا لكل زمان ومكان، وفهم الخطاب كما فهمه المعاصرون لنزوله. وهذا التناقض الوهمي يتأسس -في أذهانهم فقط- على أن مجالات المعرفة الإنسانية تتطور، فكيف نقبل تطبيق فهم عصر مضـى منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام على العصر الحديث، على ما بين العصـرين من متغيرات ومتناقضات؟
ويتزامن افتراضهم المتناقض مع اتهامهم الخطاب الديني المعاصر بالوقوع في سلبية الفصل بين المعرفة الدينية وسائر مجالات المعرفة الأخرى في الثقافة فصلًا شبه تام، وأن هذه السلبية هي التي أدت إلى أن يقبل الخطاب الديني المقولتين المتناقضتين -في زعمهم- دون أن يشعر بأي تناقض.
ويمكن إجمال مناقشة هذه الشبهة في النقاط التالية:
أولًا: إنهم يتناقضون مع أنفسهم عندما يحاولون إثبات التناقض بين المقولتين، ووجه تناقضهم: أن المعرفة الدينية التي يبغون التسليم بتطورها لا تخرج عن أحد أمرين، كلاهما مناقض لفكرتهم؛ فإن قصدوا بالمعرفة الدينية ما يشمل العقائد والشعائر والتشريعات، أي الدين بالمعنى الشامل الحقيقي، فهذا مناقض لكلامهم السابق الذي نفوا فيه هذا المعنى الشامل للدين.
وإن قصدوا بالمعرفة الدينية ما كان داخلًا في مجال العقيدة والشعائر، فهذا ضد ما ادعوه سابقًا من أنهم لا يتدخلون في مجال العقيدة، أو ما يدعونه بضرورة أن نسلم بالدين ولكن في مجال العقيدة والشعائر، ونسلم للعقل في مجال الدنيا. وعلى كلا المعنيين للمعرفة الدينية فقد أثبتوا تناقضهم.
ثانيًا: الله هو الذي خلق الخلق وهو القيوم القائم عليهم، لذلك شرع لكل قوم ما يناسبهم من أحكام وشرائع، وإذا كان أصل الدين الذي جاءت به الرسل واحدًا وهو التوحيد، فإن شرائع الأنبياء مختلفة، فشـريعة -عيسى عليه السلام-  تخالف شريعة موسى -عليه السلام- في بعض الأمور، والأخيرة تخالف شريعة يعقوب -عليه السلام-  في بعض الأمور.. وهكذا. فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحل الله أمرًا في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.
جاء في “تفسير القرآن العظيم” لابن كثير (2/73): فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك. وكان التسـري على الزوجة مباحًا في شريعة إبراهيم وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسـرى بها على سارة، وقد حرم الله مثل هذا في التوراة. وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغًا وقد فعله يعقوب -عليه السلام- جمع بين الأختين، ثم حرم عليهم في التوراة. وحرم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل، قال تعالى “كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ” آل عمران: 93.
ومما حرم الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام “وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ” الأنعام: 146، ولم يكن سبب هذا التحريم خبث المحرم، أو التزام من أبيهم يعقوب -عليه السلام-، ولكن تكملة الآية توضح أن هذا كان بسب ظلمهم، ولذلك قال تعالى “ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ” الأنعام: 146، وقال تعالى في موضع آخر “فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا” النساء: 160. ثم جاء عيسى -عليه السلام- فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم “وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ” آل عمران: 50.
والآيات كما هو واضح تشير إلى أن التحليل والتحريم ملزم حتى يأتي رسول بوحي جديد، يقر ما يقر، وينسخ ما ينسخ. ومضى الأمر على ذلك حتى أرسل الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- للناس كافة بعد أن كان كل نبي يبعث في قومه خاصة قال تعالى “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا” الأعراف: 158، وجعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، قال تعالى “وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” الأحزاب: 40.
وعَنِ ْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ “فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ” متفق عليه، ومعنى كونه خاتم الأنبياء والمرسلين أنه لا يبعث رسول من بعده بغير شرعه، وأنه لا يبطل شيء من دينه حتى تقوم الساعة، حتى أن عيسى-عليه السلام- إذا نزل آخر الزمان كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا ينزل ليحكم بشـريعة التوراة ولا الإنجيل، بل يحكم بالقرآن.
إذن فصلاحية الشريعة -المستمدة من القرآن والسنة- لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة أصل من أصول الدين، ومن كذب بها فقد جحد القرآن الذي أخبر بعموم رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- عمومًا يشمل الزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وهو الحكيم العليم اللطيف الخبير، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض “وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ” الأنعام: 59. والخلق خلقه، والشرع شرعه، فمن شكك في شرعه فقد شكك في علمه وحكمه “وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” النور: 19.

ثالثًا: من تأمل في الشريعة الخاتمة عَلم علم يقين أنها لا تخاطب مجموعة من البشـر في بيئة خاصة أو في زمان خاص، وإنما خاطبت الإنسان من وراء البيئات والأزمنة، خاطبت فطرته التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغير “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ” الروم: 30. فهذا الدين القيم هو دين الفطرة، ولذلك تناولت الشريعة الخاتمة حياة الإنسان -كإنسان- من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، فوضعت لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، ولم تتعرض لتلك التفاصيل محل التغير، ووضعت كذلك الأحكام التفصيلية والشرائع الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان.
قال صاحب الظلال (6/482): وكذلك كانت الشريعة الخاتمة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتمدد حول هذا المحور، وداخل هذا الإطار.
رابعًا: الآن -والآن فقط- نستطيع أن نفهم كيف أن مقولة “فهم الخطاب كما فهمه المعاصرون لنزوله” منسجمة بل مبنية على مقولة “صلاحية النص دلاليًا لكل زمان ومكان”. فالمقولة الأخيرة تعني أن الشريعة تخاطب الإنسان، والإنسان من حيث هو إنسان لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فالشريعة التي تخاطب المعاصرين للرسالة هي نفس الشريعة التي ستخاطب المشرفين على قيام الساعة. ولأن الخطر الحقيقي هو المحدثات والبدع التي قد تطرأ على تلك الشريعة الخاتمة، فيختل ميزان العدل عند البشر، كان “فهم الخطاب كما فهمه المعاصرون لنزوله” هو الضمان لدوام الصلاحية؛ لأنه الفهم المتلقى من الصحابة الذين عايشوا الرسول ونقل إليهم معاني الوحي كما نقل إليهم حروفه، وإن لم يكن أحدهم معصوما، ولكن العصمة ثابتة بالنص لمجموعهم والعدالة لآحادهم.


التعليقات