الأمة الإسلامية وعنق الزجاجة

لا أنسى أبداً الهتاف المدوي في ميدان التحرير “يا مبارك يا جبان يا عميل الأمريكان”، والذي يحمل دلالة واضحة قوية في أن الثورة قامت أساساً على التبعية المصرية للخارج، وبالطبع فإن الفساد والاستبداد كانا من توابع هذه العمالة لدول الاحتلال التي تستنفد مقدرات وطاقات هذه الأمة عن طريق وكلاء لا يهمهم إلا المناصب والسلطة.
وإذا تأملنا حال الدول العربية التي قامت فيها الثورات اليوم وبعد مرور قرابة ست سنوات.. لوجدنا أن بعض الدول قد تعاطت مع التحركات الشعبية بالاحتواء السريع وعمل إصلاحات دستورية وإدماج الإسلاميين في السلطة كما حدث في المغرب “وكان ملكها أدهى القوم”، أو القضاء المبكر عليها كما حصل في الجزائر، أو التماهي معها ومنحها بعض المكتسبات الهشة كما حصل في تونس ومصر واليمن، أو إدخالها في أتون الحرب المباشرة كما هو الوضع في ليبيا وسوريا والعراق.

ومهما اتَّفقَتْ أو اختلفَتْ أحوال هذه الثورات الآن، فإن عاملاً مشتركًا ثابتاً لا تكاد عين الناظر تخطئه، وهو تدخل الفاعل الدولي أو الإقليمي “الحاكم الحقيقي أو دولة الاحتلال”.

فقد اجتمعت القوى الفاعلة في تونس؛ في باريس لوضع الخريطة السياسية لمرحلة ما بعد زين العابدين بن علي، وقد تدخلت دول الخليج لوضع التصور الكامل لرحيل علي عبد الله صالح؛ وقد أدى الصراع السياسي بين السعودية وإيران إلى دخول اليمن في حرب ليس للشعب اليمني فيها ناقة ولا جمل، وقد رتب السيسي مع أمريكا والكيان الصهيوني تفاصيل خطته للانقلاب على أول رئيس منتخب في مصر بعد الثورة، وإذا كانت الكلمة العليا للإجرام والقتل في سوريا لروسيا وفي العراق لأمريكا، فإن دماء الليبيين “بعد ظهور حفتر المدعوم إقليمياً ودولياً” مازالت متفرقة بين القبائل!

إذن.. فقد اجتمعت القوى العظمى على معاقبة الشعوب التي فكرت في الثورة عليها والخروج من حظيرتها، وقد استخدمت هذه القوى كل وسائل الردع والإرهاب حتى لا تفكر هذه الشعوب في الثورة مرة أخرى، لكنها أخطأت خطأً كبيراً حيث لم تقدر الأمور قدرها هذه المرة، ولقد أوشكت الحالة الثورية الشعبية على الخروج عن السيطرة في ليبيا وسوريا، وفي مصر يبدو أنها ستنحى نفس الاتجاه -خاصة- بعد فشل الجماعات المتكلسة في إيجاد حل سريع يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

لا أنكر حزني الشديد على الحالة التي وصلت إليها بلدي الحبيبة مصر، ولا أنكر خوفي وقلقي من الحالة المنتظرة والمتوقعة بسبب الجرائم التي ارتكبها “ومازال يرتكبها” النظام العسكري، والذي لم يترك مجالاً لمن يعيش أوهام المصالحة أن يظل حالما بها، ولا لمن يُسوِّق لفكرة التراجع والانسحاب أن يجد أي مرتكز يبني عليه فكرته!

بل إن القيادات الإخوانية المعادية لفكرة الثورة لم تجد بدّاً من التماهي معها إلى الآن وهي كارهة مرغمة، حيث لم تجد طريقة تحفظ بها ماء وجهها لتذهب وتجلس بجوار برهامي ورفاقه بعدما اتهمته بالخيانة والعمالة، وبعدما أودى السيسي وحكوماته بمصر في واد سحيق.
لقد اضطر الجميع في مصر لرفع شعار “لا تراجع ولا استسلام”.

قد يكون لأمريكا وروسيا والنظام العالمي والمجتمع الدولي قدرة على إخضاع الحركات الجهادية أو ليّ ذراع الجماعات الإصلاحية أو ابتزاز الأحزاب السياسية، لكنها لا تستطيع أبداً أن تقضي على أمة الإسلام أو تنهي آمالها في التحرر والاستقلال، وقد تأخرت أمة الإسلام كثيراً لكنها بدأت حراكها، والمؤشرات تقول إنها لن تتوقف، وليس أدل على ذلك من صمود الشعب السوري بهذا الشكل الأسطوري على مدار أكثر من خمسة أعوام في مواجهة جيش بشار الأسد مدعوماً بإيران وميليشياتها المتعددة وروسيا بأسلحتها وإمكاناتها المتطورة، إضافة لما يُسَمَّى بالتحالف الدولي لمحاربة داعش الذي تقوده أمريكا، والذي لا تنال منه داعش ربع الضربات التي تنالها الفصائل الأخرى.

نعم.. إن الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع الآن أن الأمة بكافة أطيافها قد فطنت لمخططات أعدائها، وبدأت في تخطي حاجز التنظيمات التي تحارب بالوكالة عنها، وأيقنت أن المعركة معركتها هي لا أحد آخر، وإن كانت عملية التماوج حاليا من أجل إفراز قيادة صالحة لتحديات المرحلة، وقد أثبتت الجماهير ذلك عندما وجدت هذه القيادة في تركيا، فتحركت معها بأسرع وأقوى مما تخيلت القيادة نفسها، فسحقت انقلاباً عاتيا شاركت فيه دول كبرى لإسقاط إرادة الشعب التركي وإعادته للحظيرة مرة أخرى.

إن أمة الإسلام التي تعتقد أنها لا تستطيع دخول جَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض إلا عبر صراط أَدَقِّ من الشعرة وأَحَدِّ من السيف، عليه كلاليب تتخطف المارة لتسقطهم في جهنم، ينبغي أن تعلم كذلك أنها لا تستطيع الخروج من حالة الذل والتبعية التي عاشتها عقودا من الزمن إلا عبر مرورها من عنق الزجاجة الذي تعيشه الآن بضغوطه وآلامه توشك أن تخرج منه، ولئن كان التاريخ مليئاً بمثل هذه الأوقات الصعبة التي نعيشها الآن، فإن الواقع يشهد حالة اضطراب عالمي توحي بقرب سقوط المنظومة الدولية التي فاقت في إجرامها كل وقائع الإجرام والدموية التاريخية.

ولعل أعظم ما ينبغي على الأمة الاهتمام به في وقتنا الحاضر هو محاولة تقليل الخلافات والنزاعات الداخلية -وخاصة- تلك التي تحدث بين التيارات الثورية في مصر والجهادية في فلسطين وليبيا وسوريا والعراق واليمن، وعلى علماء الأمة وقيادتها السياسية والفكرية التصدي لهذا الأمر، والسعي لتضييق هوة الخلاف بين الحركات والتنظيمات التي تبذل دماء أبنائها من أجل عودة مجد الأمة وعزها وسؤددها.

وقد يكون مهمّاً كذلك أن تعلم الحركات العاملة لخدمة الأمة ونصرتها أنّ تَعدُّدَ النقاط الملتهبة وإشغال أعداء الأمة في العديد من الساحات سيكون له أكبر الأثر -بعد عون الله- في تخفيف وطأة الضغط على المناطق المشتعلة حالياً، ويساهم بشكل كبير على انفلات زمام الأمور من يد القوى الديكتاتورية والصهيونية العالمية، فبدلا من البحث عن سبل تسهيل مهمتهم في قمع الشعوب ونهب مقدراتهم عن طريق التصالح معهم، ينبغي أن نخطط لإجبارهم على ترك الدول العربية والإسلامية حرة خالصة لشعوبها وأبنائها.

والله من وراء القصد


التعليقات