كفار الأمس وكفار اليوم .. نقاش هادئ مع عصام تليمة (1)

 

سامح الله عصام تليمة وهداه إلى الحق.

فقد شغلنا والمسلمين بأمر كنا في أشد الغنى عنه، حيث رمضان ومحاولة الاهتمام بالعبادة وتحصيل التقوى وإصلاح القلوب.

حيث الأمة الإسلامية وما تتعرض له من حرب ضروس على يد كفار مجرمين تارة، وعلى يد أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا تارة.

حيث الثورات العربية وما أصابها من انتكاسات وانقلابات تبحث عمّن يضبط لها بوصلتها لتتمكن من إعادة الكرّة للشعوب المستضعفة المسكينة.

وفي هذا الحال يخرج علينا الشيخ المعمم بعقيدة المرجئة[i] التي تحصر الكفر فقط في الجحود والتكذيب، بزعمه أن الحجة الرسالية لابد أن تقام على العبد حتى يصبح متيقنا بصحة كونها من الله وأن من بُعث بها رسول، ثم يرفضها بعد ذلك (وهذا كفر لا شك فيه) لكن أن يُحصر الكفر في ذلك فلا يبقى كفر سواه، فهذه هي عقيدة المرجئة وليست عقيدة أهل السنة والجماعة.

حيث قال تليمة معقبا على قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} قال: (فقد تعامل القرءان على أن منهم من لم يسمع بالإسلام [سماع العلم اليقيني]) اهـ

ولما أراد تليمة أن يذكر سبب إثارته لهذه الأمور في هذا التوقيت ذكر عذرا هو أقبح من الذنب، حيث قال في لقائه مع الإعلامي محمد ناصر على قناة مكملين: (النهاردة كل أحداث العنف اللي في الغرب، أساس اللي بيعملها على أساس إيه؟ إن دول كفار حلال قتلهم) اهـ

وقد يقول قائل إنه يقصد مسألة حلال الدم، رغم توصيفه لهم بالكفر؛

فأقول: هو نفسه قال بعدها بلحظات (طب إنت مهتم بالحكم عليهم وعلى كفرهم منين؟) اهـ

فهو هنا لا يريد فقط الحديث عن هؤلاء الكفار في الآخرة، وأنهم تحت المشيئة بعد الاختبار والامتحان، لا لا

هو يريد أن ينزع عنهم وصف الكفر في هذه الدنيا، وهذا ضلال مبين لم يقل به أحد في القديم أو الحديث، ويترتب عليه من الشر أن تُلغى من قاموس المسلمين عقيدة الولاء والبراء بالكلية، بل لا أكون مبالغا إذا قلت أنها تلغي من القاموس البشري شيء اسمه [مسلمون وكفار].

وهو هنا سقط سقطة أخرى، حيث زعم أنه من باب الواجب علينا أن ندعوهم للإسلام فينبغي أن نمتنع عن تكفيرهم!!

حيث إن البدهي ألّا تدعو للإسلام إلا الكافر، ونص الآية التي ذكرها في مقاله {وإن أحد من المشركين)، حيث وصفهم الله عز وجل بالشرك (وهو أحد أنواع الكفر)

وحيث إن الكتب التي صُنفت في الدعوة إلى الله عرّفت الدعوة بأنها (نقل المدعو من محيط إلى محيط، من محيط الكفر إلى محيط الإسلام، ومن محيط البدعة إلى محيط السنة، ومن محيط المعصية إلى محيط الطاعة) فقل لي بالله عليك، ما هو المحيط الذي تريد أن تنقلهم منه، وما هو المحيط الذي تريد نقلهم إليه؟!

واستشهد تليمة بحال الطبيب الحريص على علاج المريض بخلاف الجزار الذي يشغله تقطيع الذبيحة، وغفل تليمة أو تغافل عن أن الطبيب الناجح لابد أن يشخص المرض جيدا حتى يتمكن من علاجه، ولو أخطأ في التشخيص لأضر بالمريض، وأن هناك من الأطباء من يلجأ للجراحة والاستئصال من أجل مصلحة المريض.

وحتى لا يتشعب بي الكلام في الرد عليه، فأنا لست مختلفا معه في أصل قضية العذر بالجهل، وأن عذاب الله مرهون ببلوغ الحجة الرسالية لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وغيرها من الآيات والأحاديث التي استدل بها العلماء على أصل عذر من لم تُقم عليه الحجة الرسالية.

لكن خلافي معه في أمرين رئيسين:-

  • حصر المؤاخذة على الجاحدين والمكذبين فقط، وكأنه يقول إن من رفض سماع الحجة (وهو المسمى عند العلماء بكفر الإعراض) فليس كافرا ولا من أهل النار.
  • نفي وصف الكفر عن الذين يزعم أن الحجة لم تقم عليهم، وبالتالي عدم إجراء أحكام الكفر عليهم.

وهاك نص كلامه من مقاله الأول [هل كفار اليوم في النار؟]: (إن آيات القرآن الكريم تبين أن الذي يؤاخذه الله سبحانه وتعالى ويحاسبه على عدم إيمانه بالإسلام، هو [فقط] من بلغته دعوة الإسلام واضحة بلا لبس أو غموض، وبلا تشويش أو غبش، وليس مجرد أن يسمع غير المسلم بالإسلام، فلا يتبعه فنحكم عليه بأنه [كافر] وفي جهنم وبئس المصير) اهـ

وأنا هنا أرد عليه ردا مجملا بخصوص هذين الأمرين، وبإذن الله أتبع هذه المقالة بمقالة أخرى تفصيلية أبين فيها خطأه فيما استدل به من آيات وما عزاه لبعض العلماء ونقله عنهم.

الأمر الأول: أقسام الكفر وأنواعه

قال ابن القيم في مدارج السالكين:

(فَصْلٌ

وَأَمَّا الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرُ تَكْذِيبٍ، وَكُفْرُ اسْتِكْبَارٍ وَإِبَاءٍ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَكُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَكُفْرُ شَكٍّ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ.

  • فَأَمَّا كُفْرُ التَّكْذِيبِ فَهُوَ اعْتِقَادُ كَذِبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ قَلِيلٌ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيَّدَ رُسُلَهُ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ مَا أَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ بِهِ الْمَعْذِرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وَإِن سُمِّيَ هَذَا كُفْرَ تَكْذِيبٍ أَيْضًا فَصَحِيحٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِاللِّسَانِ.
  • وَأَمَّا كُفْرُ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَنَحْوُ كُفْرِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا قَابَلَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْ هَذَا كُفْرُ مَنْ عَرَفَ صِدْقَ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى كُفْرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] وَقَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] وَهُوَ كُفْرُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وَقَالَ {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وَهُوَ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِي صِدْقِهِ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَتَعْظِيمُ آبَائِهِ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
  • وَأَمَّا كُفْرُ الْإِعْرَاضِ فَأَنْ يُعْرِضَ بِسَمْعِهِ وَقَلْبِهِ عَنِ الرَّسُولِ، لَا يُصَدِّقُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، وَلَا يُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يُصْغِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ كَلِمَةً، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَنْتَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.
  • وَأَمَّا كُفْرُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ، بَلْ يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَمِرُّ شَكُّهُ إِلَّا إِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً، فَلَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا،

وَأَمَّا مَعَ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا، وَنَظَرِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، لِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّدْقِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَجْمُوعِهَا، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصِّدْقِ كَدَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ.

  • وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ). اهـ

الأمر الثاني: هل يوصف مجهولو الحال ممن ظاهرهم الكفر بالكفر؟ وهل تجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا؟

لا أظن أن أحدا عنده مسحة من علم إلا ويقول بأن كل من لم يؤمن بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الذي أُنزل عليه فإنه كافر، ثم هو بعد ذلك يحتاج لوصف آخر يبين كيفية التعامل معه ككافر، فإما أن يكون محاربا تجري عليه أحكام المحاربين، وإما أن يكون من أهل الذّمة وإما أن يكون معاهدا أو مستأمنا.

أما أن تنزع عنه وصف الكفر لمجرد أنك تريد الحكم بعصمة دمه أو ماله كما يقول عصام تليمة؛ فهذا من أبطل الباطل، ولم يقل به أحد سلفا وخلفا.

قال ابن القيم في شفاء العليل: (وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه ولا يعلم المسلمون حاله فلا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من أهل الجنة كما أن المنافقين في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين وهم في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا وقوله “كل مولود يولد على الفطرة” إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعلى الثواب والعقاب في الآخرة إذا عملوا بموجبها وسلمت عن المعارض ولم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار تبع لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينزعون منهم إذا كانوا ذمة فإن كانوا محاربين استرقوا ولم يتنازع المسلمون في ذلك) اهـ

وللحديث بقية إن شاء الله

 

والله من وراء القصد

[i] قرأت لعصام تليمة ثلاثة مقالات متصلة حول هذا الموضوع، ورأيت حلقته مع الإعلامي محمد ناصر على قناة مكملين.


التعليقات