تجربة الدولة … رؤية نقدية

إن الطفرة التى قفزت بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق و الشام تثير كتيرا من التساؤلات عن الحكمة القدرية لهذا النمو السريع و المفاجئ ، وخاصة أن الدراسة المبدئية لشخصية التنظيم تشى بامتلاكة القدرة على تفكيك واقع موجود على الأرض أكثر من قدرته على بناء واقع مأمول ، وكيان سياسى مستقر ، و مشروع متمدد .

من الإجحاف بالتجربة الحكم عليها فى مهدها ، لكن بمعرفة تاريخ نشأة التنظيم و خلفيته الفكرية ، و نمط شخصيته ، وطبيعة عقليته , و الصفة الغالبة للمكنون البشرى الحالى له , يمكن التنبؤ بمستقبله ، وتوقع مآلات حركته .
ومن المؤكد أن الظهور القوى و القفزة المفاجئة للدولة فى صدارة المشهد يدخل فى إطار البعد القدرى الذى يغلب على طبيعة المرحلة ، ومن المؤكد أن هذا التقدير فيه خيرية على المدى البعيد ، لكن لا يمنع هذا من تقييم التجربة ونقدها من بعض جوانبها.

– أكثر إشكالات تجربة الدولة أنها حولت مسار الثورة السورية من كونها ثورة ضد طاغية “لها رونقها فى حس الناس وتستجلب التعاطف العام ” إلى مشروع إقامة دولة على ما يتاح من رقعة دون تطهير كاما لكل الأراضى السورية من سيطرة الأسد . فالثورة لها معنى نبيل يرادف مناصرة المظلوم و الوقوف أمام الطغيان بعكس الصراع على النفوذ الذى قد يفهم بشكل أخر , يخفت معه بريق الحالة الثورية و التعاطف معها فى حس الناس .

هذه الحالة الجديدة تصب فى مصلحة الأسد حيث أمدته ببعض مسوغات البقاء ” وقد كانت شعبيته و شرعيته تساقطت بشكل كامل ” بدعوى دوره فى التصدى لما يسمى بالإرهاب ،و الحاجة إليه لإيقاف طوفان الدولة الجارف المتمدد ، كما أنها ضعفت من شدة الوطأة وضيق الخناق على الأسد بتحويل جزء من حركة الجهاد إلى معارك كانت فى غنى عنها ، أو لم تكن لها الأولوية فى هذا التوقيت الحالي .

– وهنا يأتى المأخذ الثانى أن الدولة أدخلت المجاهدين فى صراع لم يكن له الأولوية الأن ” التصادم مع الأكراد ” , ومعركة كان من الممكن تأجيلها و لم تكن المصلحة فى خوضها فى هذه المرحلة و لم تحسم المعركة مع الأسد بعد ” إدخال التحالف الدولى فى المشهد ”
و معلوم أن فتح جبهات متعددة يشتت و يضعف أقوى الجيوش ، و إدارة الصراع تستلزم تحييد ما يمكن تحييده من الخصوم ، وتركيز الصدام مع عدو واحد وحصر الصدام معه ، وتجنب الجمع بين أكثر من عدو فى حرب واحدة .

-إعلان إدماج الجبهتين العراقية و الشامية يجمع بينهما فى المصير حيث يرتبط نجاح أحد الجبهتين و فشله بالأخرى ، بل تفرض على الجبهتين خيارات موحدة قد تكون المصلحة فى تنوعها و التفريق بينهما للاختلاف الذى قد يطرأ على الواقع فى الجبهتين ، وهو ما يقلل مساحة القدرة على المراوغة و المناورة ، و ييبس المرونة الحركية لدى التنظيم .

– و ينضم إلى الإشكالات الصورة السلبية التى تلصقها الممارسة غير الحكيمة بشعار الدولة الإسلامية أو بمصطلح الخلافة ، وكذلك الصبغة المتشنجة التى قد صبغ بها بعض المنتسبين الجدد للتيار الجهادى سواء فى الجانب النفسى أو المنهجى أو الفكرى أو السلوكى ، و فى المقابل فإنه لابد لهذه التجربة من فوائد لأجلها كانت الحكمة القدرية لوقوعها .

– فقد أحدثت الدولة خرقا فى النظام الدولى ليس فقط بتشكيل منطقة توحش ، بل بإنشاء كيان سيايى خارج المنظومة الدولية و متمرد عليها ولا يعترف بقواعدها و أعرافها ، وكأنه خرزة انفلتت من عقد لتشق طريقا لانفراط كل خرزة ، أو نسيج نقصت من جانبه عروة فلا يلبث حتى ينسل كل خيوطه .
وهذا الكيان السياسى فرض على الواقع نوع من أنواع التعامل معه عن طريق تقاطع بعض المصالح ” تصدير النفط لتركيا ” ، ولو أنه أجاد مفاوضات تبادل الأسرى ” الكساسبة نموذجا ” لانتزع جزء من الاعتراف بشرعيته .

– مثلت الدولة محاولة بدائية لإعلان إقامة الخلافة , وكأنها شكل من أشكال إرهاصات قبل قيامها , فقربت الآمال , ورفعت سقف الطموحات , وكسرت أبوابا قد أوصدت منذ أزمان بعيدة , وفتحت أفاقا قد أغلقت لأعوام عديدة .

و الله تعالى أعلم .


التعليقات