طبيعة أنظمة الحكم و أثره على صور التغيير

إن أشكال التغيير فى البلاد التى يتسم ببعد حضارى فى طبيعة أنظمة الحكم يختلف عن غيرها ممن هى أقل تحضرا , فالدول التى لها نظام حكم مركزى و قوى , وحالة سياسية مستقرة و سلطة مهيمنة وراسخة ” قد صبغت بها المكان و ساعدتها البيئة و التضاريس و الجغرافيا و التركيبة السكانية , فخلقت مناخا و طابعا توارثته الأجيال و سلمت به ” يكون التغيير فيها أكثر تعقيدا و يحتاج لحسابات عديدة وموازنات كثيرة و يعتمد على التحضير الطويل و تهيئة الأجواء و تربص الفرص .

و صورة التغيير فيه مركزى إنقلابى , بحيث إذا جاء وقته وحان موعده و دقت ساعته يكون بشكل كامل و جملة واحدة
فى حين أن التغيير فى المناطق التى بها فراغ سياسى أو شبه فراغ سياسى أو أنظمة حكم غير راسخة و غير متماسكة أو كيانات سياسية متبعثرة و متشتتة لا تلتئم فى وحدة مركزة قوية , يكون التغيير فيها بشكل توسعى مرحلى .

فإذا أردنا أن نمثل الحالة الأولى فإن واقع قطر كالقطر المصرى خير نموذج , حيث الجغرافية ” وادى ضيق حول شريان نهرى أوحد ” جعلته منذ مراحل التاريخ المبكرة تتشكل فيه حكومة مركزية , ودولة واحدة ,لها قبضة قوية لا تتغير صورتها مع ثورات و تعاقب العائلات المختلفة على عرش هذا القطر .

ومثل التغيير فى هذا القطر على النمط سابق الذكر كان بسقوط دولة العبيديين ” الفاطميين ” فى مصر , حيث استوزر صلاح الدين من بعد عمه فى هذا النظام , حتى إذا ترسخت أقدامه , وتملك زمام الأمور , وقويت شوكته , ونفوذ رجاله وتصادف ذلك مع ضعف الحاكم العبيدى , وثب على السلطة , وتم الإنقلاب على العبيديين , إعلان الخطبة لبنى العباس , السيطرة على كل الدولة جملة واحدة .

هذا بخلاف شكل التغيير الذى كان وقتها فى الجبهة الشامية و التى كانت عبارة عن إمارات صغيرة مبعثرة من بقايا سلاجقة الشام فقام عماد الدين زنكى ومن بعده ابنه بفتح هذه الإمارات و المدن ” عنوة أو صلحا ” الواحدة تلو الأخرى بنظام توسعى تدريجى حتى أحكم سيطرته على كل الرقعة الشامية .

مثال أخر للحالة الثانية و هى دولة المرابطين , حيث انطلقت الدعوة من منطقة فراغ سياسى ” مصب نهر السنغال ” لتفتح المدن و البلاد المحيطة التى كانت تحت نفوذ القبائل ” شبه فراغ سياسى ” ثم توسعت جنوبا وشمالا لتحتوى دولا و إمارات صغيرة , بل إن سيطرة المرابطين على الأندلس كان فى زمان ملوك الطوائف التى كانت تعيش حالة من التشرذم .

و من ناحية أخرى نجد أن الكيانات الناتجة عن مشاريع التغيير فى الحالة الأولى تكون أكثر ثباتا و امتدادا , فحكم الأيوبيين فى مصر و امتدادهم من المماليك كان أثبت من حكمهم فى الشام
وكذلك كانت دولة المرابطين التى لم يتجاوز وجودها المائة عام
فكما سمحت البيئة بظهور كيانات على أنقاض أخرى فإنها ستسمح بسقوط هذه الكيانات لأخرى جديدة .


التعليقات