حقائق الحياة

لماذا وُجدنا في هذه الدنيا ، وأين سنذهب بعد انقضائها ؟
هذان السؤالان يسألهما كل إنسان لنفسه ، أما من أنعم الله عليهم بالهداية فقد سَعِدُوا بحقيقة الجواب على هذين السؤالين : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). (الذاريات 56 .) خلق الله الجن أولا فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، ثم جعل الله الإنسانَ خليفته في الأرض ، يَخلُفُهُ بامتثال منهجه وتحرَّي رضوانه ، معتمدا على (يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) الآية الثالثة من سورة البقرة.
فالإيمان بالغيب في منهج الله ليس مجرد نوع من الإيمان (الاعتقاد الْمُنشيء للعمل) بل هو أساس المنهج وقاعدته ، فإن الحياة في تصوِّر القرآن ليست هذه الأمور المادية الدنيوية فقط وإنما الحياة في هذا التصوُّر هي القيم التي ينبغي أن تكون بها هذه الأمور المادية الدنيوية، فالإيمان بالخالق المالك المدبِّر والإيمان بلقائه للحساب أساسٌ للعمل البشري المستقيم في هذه الحياة.

1 ـ حقيقة الصراع :
لما بيَّن الله عز وجل في أول كتابه حقيقة الإيمان أعقبها مباشرة وفي الآية السادسة من سورة البقرة بقوله (إن الذين كفروا …)، فالله عز وجل من أول الكتاب يضع الإيمان في صراع ، ولا يشعر المؤمن بما عليه من الإيمان حتى يعيش هذا الصراع ، فلا توجد حلاوة الإيمان إلا في (مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)، ( صحيح البخارى) نعم هذه أول حقائق الحياة ، حقيقة الصراع ، فلا تستقيم العبادة إلا في محيط الصراع . الصراع بين المؤمنين بالغيب وبين الكافرين، وكما قال المؤمنون: (وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده). (الممتحنة ؛ آية 4 )

ثم يُعرِّف الله عز وجل ـ أعمق ـ بالطرف الآخر في الصراع ؛ فيذكر صنفا من الناس نبَّه عليه لعِظَمِ خطره وأهميته في الصراع . صنفٌ من الناس (يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر) (البقرة ؛ آية 8 ) وهذا مكمن الخطر؛ خطرٌ من ثلاث جهات ؛ الأولى : أنَّ هذا الصنف يُعلن الإيمان بالغيب فيظُنُّه من ليس في لُبِّ الصراع من أهل الإيمان ، فربما عاونه على أهل الإيمان واغتَرَّ ببعض ما يُظهِرُهُ من شعائر الإسلام ، لكن من عاش حقيقة الصراع وصار من أهل ولاية الله ألقى الله العلم في قلبه (وما هم بمؤمنين) ( البقرة ؛ آية 8). والجهة الثانية من خطرهم ـ غير إعلانهم الإيمان ـ : إدعائهم الإصلاحَ بالإفساد في الأرض ، فإذا سعوا في تغيير معالم الدين وتبديل الشريعة وموالاة أهل الإشراك وظلم المستضعفين وسفك الدماء ونهب الأموال فقام من ينهاهم (قالوا إنما نحن مصلحون) ( البقرة ؛ آية11)، والجهة الثالثة من خطرهم: إحسانهم فنَّ التلُّون والاحتيال وملاقاة الناس بوجوه مختلفة ، فتجدهم في المساجد من أهل الوقار والخشية الظاهرة وتجدهم في الملاهي من أهل البغي والاستهزاء .. (الله يستهزيء بهم ويمدهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون). ( البقرة ؛ الآية15)
والحياة هي هذا الصراع بين فريق الإيمان وفريق الكفر ، والعبادة هي منهج المؤمن في الصراع، ومشروعها إصلاح الأرض بمنهج الله، ولا يحيا الإنسان حتى يكون جزءا من هذا الصراع يُؤذي في سبيل المنهج . في سبيل القيم . في سبيل الله ، فيُمنح من الْمِحَن ويُعطَى من الضيق ، ويُثاب من العذاب، (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). ( الأنعام ؛ آية : 122)

2 ـ حقيقة الابتلاء :
قال الله يعزِّي أهل الإيمان ـ كطرفٍ في الصراع ـ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، (وتلك الأيام نداولها بين الناس) هذا هو الواقع ؛ يوم لك ويوم عليك ، يوم تُستَضعف ويوم تُعزّ ، هذه طبيعة الحياة.
لكن ما المراد من حركة الحياة وما المقصود من تصريف أمور الكون وما الهدف من إدارة مسالك الصراع ، إنَّه : (وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء) نعم ليظهر الإيمان. ليظهر الثبات. لتظهر القيم. ولِيُعلَمَ الدين . (والله لا يحب الظالمين)( آل عمران ؛140) ولا يرضى الظلم، فهو الحكيم. لا يُكرم إلا مَنْ يستحق الإكرام بإظهار الإيمان به ، ولا يضع إلا من حقه الضعة بهوان الدين به.

وكيف يتم هذا الظهور وكيف يتحقق التمحيص؟
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)، ( آل عمران ؛142) وكيف يظهر إيمانهم ـ وإصلاحهم ـ في الأرض؟ (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا)(آل عمران 142 )، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه خباب بن الأرت يشكو بأس المحنة (ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا) ـ وهو على يقين بأنَّه مُجاب الدعوة ـ فأرجعه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحقيقة ، حقيقة الابتلاء، فقال : (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه) ، وكما قال الشافعي عندما سُئِلَ أيهما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ فقال الفاهم بحقائق الحياة : (لا يُمكَّن حتى يُبتلى)، أما الدين فسيظهر لا محالة فهو دين الله وهو ناصِرُهُ؛ (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه) وأما ما يَنفَعُنا فالإيمان والثبات، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (ولكنكم تستعجلون). (صحيح البخاري ) لا تصبرون على استيفاء سنن الله في كونه، باللجوء إلى رحابه للدخول في ولايته، وقد لام الله على قومٍ فقال : (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون).(المؤمنون ؛ 76 )

3 ـ حقيقة النجاح :
الاستكانة للرب والتضرع له هو الثمرة السليمة للابتلاء ، وهذا هو النجاح ، فالله عز وجل أعطانا العقل لنحمل منهج الإصلاح في الأرض ، وأقام الحياة على الصراع بين الإيمان والكفر ابتلاءً لعباده ليُظهِرَ دينه في الأرض ، ثم في آخر المطاف يؤكِّد حقيقة النجاح في الحياة فيقول : (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله). ( آل عمران ؛162) يالها من نتيجة .. وياله من نجاح ..

وانظر إلى هؤلاء وتأمَّل خبرهم لتتعرَّف على حقيقة النجاح:
قال أَبو عُثْمَانَ النَّهْدِيّ : إِنَّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ : أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا ، وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ ؟ ، والله لا يَكُونُ ذَلِكَ . فَقَالَ لَهُمْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَالِي تُخَلُّونَ سَبِيلِي ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَقَالَ : أُشْهِدُكُمْ أَنْ قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (رَبِحَ صُهَيْبٌ ، رَبِحَ صُهَيْبٌ).
وقال أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه : جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلا مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ ، فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ ، فَقَالُوا : اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا ، قَالَ : وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ ، فَقَالَ : حَرَامٌ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ ( إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإِنَّهُمْ قَالُوا : اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا).
وقال جَابِر بن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه : أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي وَجَعَلُوا يَنْهَوْنَنِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَنْهَانِي ، قَالَ : وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو تَبْكِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (تَبْكِيهِ أَوْ لا تَبْكِيهِ مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ).

وبعدُ ؛ فهذه حقائق الدنيا الثلاث على وفق منهج خالق الحياة (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)  حقائق واضحة في كتاب الله وفي سيرة رسوله لكنها تخفى على كثير من الناس والمقصود خفائها من ناحية الشعور والعمل وحال الإنسان لا مجرد خفاء المعرفة (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، والله الموفق وعليه التكلان.


التعليقات