انتصار رابعة .. ومسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة

قد تخدع الظواهر أحيانا فإذا ما تأمَّل الإنسان الأحداث ونظر لها نظرة شموليَّة تتجاوز أسر اللحظة انكشفت له حقائق لم يكن ليقف عليها إلا بهذا التأمَّل وبهذا النظر الشموليّ للأحداث.

في بعض الأوقات قد يُحاصر اليأس تفكير المؤمن وهذا قد حصل لي كما حصل لكثير وفي إحدي المناقشات مع بعض إخواننا أظهرتُ شيئا من اليأس بسبب توارد الأحداث وتكاثرها لاسيما مع ازدياد الرقعة الْمُضلَّلة فقال لي الأخ: إنَّ حال الإسلاميين اليوم أفضل وأمرهم أظهر وإذا أردت الدليل على هذا فقارن (الحالة الشبيهة) وهي ما حدث للجيل الأول للحركة المعاصرة في أوائل الخمسينيات وكيف استطاع الطغاة هزيمة الحركة في أول جولات الصراع.

لم يكن في تصوُّري ساعتها أبعاد الانهزام في الجولة الأولى ومن ثَمَّ اكتشاف أبعاد الانتصار في الجولة الحالية (رابعة)، لكن الآن وقد انكشف كثير من حقائق الأحداث أستطيع أن أسطِّر ملامح هذا الانتصار لإبراز دوره في مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة من خلال استثمار هذا الانتصار وتدعيم مفرداته والانتقال إلى المرحلة التالية في المعركة (مرحلة ما بعد الانتصار).

ملامحُ الانتصار
التقطُ طرف الحديث عن ملامح الانتصار بأساسٍ مهم في المفارقة بين ما انتهت به الجولة الأولى للصراع وبين ما انتهت به جولة (رابعة)؛ فلإن انتهت الجولة الأولى بتلاشي قيادة الحركة الاسلامية الذي بدأ باغتيال الإمام البنا ـ الذي اجتمعت عليه قلوب أبناء الحركة ـ ثم بتصدُّر بعض الوجاهات المجتمعية التي لم يكن لها رصيد كاف من الحزم والصلابة . فقد انتهت جولة (رابعة) بصمودٍ وثباتٍ لقيادة الحركة الاسلامية بداية من الرئيس ومرورا بقيادات الإسلاميين وانتهاءً بالقيادات الشبابية الفاعلة على أرض الواقع.

هذا الصمود صار وقودا للحركة فلم تخبوا أو تهِن رغم ما نالها من التعذيب والتشريد والقتل ، بل كشف عن إيمانٍ وصدقٍ وفداء ، وبهذا تنتصر الأفكار ويظهر الإيمان وينجلى صفاء الحقِّ ، فإنَّ الذهب لا تظهر لمعته الأخَّذة إلا إذا نال نصيبا وافرا من لهيب النار. وهذا ملمح آخر من ملامح الانتصار فلا يظهر صفاء الإيمان إلا بمعالجة الثبات أمام المحن ولقد سجَّل أبناء الحركة الإسلامية أروع الأمثلة في الصبر والثبات والجسارة في الحقِّ حتى صاروا مضرِب الأمثال ومناط الفخر والاعتزاز

ولئن قُتِلَ بعض هؤلاء الصامدين فإنَّ الله يقول: (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا ويتخذ منكم شهداء)؛ فالشهيد أول المنتصرين إذ فاز بمنزلة تقارب منازل النبيين والصديقين، ثم إنَّ دماءَه تُقوِّي قلوب المؤمنين من بعده وتؤكِّد عزيمتهم في بعث الحقِّ وإعلاء الدين إذ دماؤهم ليست أغلى من دماءِهِ ، وما دون القتل أهون ، والحياة لا تُستطعم ولا يُستطابُ نعيمُها بغياب رفقاء الدرب إلى الله حيث قضوا على كرامة وعِزَّةٍ ووفاء . فأي انتصار للحركة الإسلامية أعظم من هذا.

إنَّ جيلا بأكمله من أبناء المسلمين شبابًا وصبيانًا ونساءً قد عايش المحنة. المحنة لأجل الله. لأجل الدين. لأجل الحقِّ. إن هذا الجيل قد ابتدأ سيره في الحياة بين أشلاء الجثث المحروقة وعلى قيعان الساحات المقصوفة وفي صحبة أخوةٍ قد اغتالتهم البنادق وأُغلقت عليهم أسوار المعتقلات، فما حجم الصراع في شعوره وما حجم الإباء في نفسه؟
وبالانتقال إلى جانب آخر من ملامح الانتصار ننظر إلى تدبير الله العلي الحكيم فنعلم أنَّ تنقية الصف وسقوط المنافقين وأهل الأهواء شرطٌ لسير الحركة الإسلامية (ويجعل الخبيث بعضه على بعض)؛ فهذا لا بد منه.

ولن يتحقَّق إلا بأحداث مثل (رابعة)، فتجد كلَّ منافقٍ وكلَّ ضعيفٍ وكلَّ مدَّعٍ يسقط وينفضح أمره وتطالبه الأحداث ببيان موقفه وإظهار ما بداخله كما قالها بوش من قبل: (إما أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين).

وهكذا تظهر القضية وتتضح معالم المعركة ويتمايز الصفَّان، وتختفي الألوان الباهتة والأفكار المائعة والوساوس الزائغة، لتغزو القلوبَ حقائقُ الحياة، وليعلم كلُّ إنسان أين يضعُ نفسه ، وليصل لكلِّ إنسان من البيان ما تقوم به الحُجَّة. وهذا ملمحٌ خطيرٌ لانتصار الحركة الإسلامية.

ولعل من مفردات الانتصار اكتشاف أخلال داخلية من اختراق وعدم مراعاة لتوظيف الكفاءات توظيفا ملائما وتقصيرٍ في الإعداد وضعفٍ في الإدارة وتمييعٍ لأصول وتضخيمٍ لفروع وأشياء أخرى لمسها أبناء الحركة الإسلامية، وهم اليوم في انشغالٍ بسدِّ الخلل ووحدة التنظيم وتنسيقه، وهذا انتصارٌ يلتقي بصمود القيادة وثبات قلوب الموحِّدين بعد مطالعة تدبير الله العظيم عزَّ وجلَّ لأهل طاعته وأولياءِهِ مما يَزيدُ الإيمانَ به معرفةً وانقيادًا فهذا الإيمان هو زاد المسلم في حركته في هذه الحياة.


التعليقات