وجاء دور اليسار

ما إن اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة؛ إلا وشاركت فيها أغلب قوى المجتمع المصري، ومنها القوى اليسارية المحدودة الشعبية جداً رغم تعددها وتنوعها فئوياً. ورغم ما تحمله تلكم الفصائل من مناهج ثورية، إلا أن بعض مكوناتها قد خذلت الثورة في بداياتها الأولى؛ كحزب التجمع وبعض الأحزاب الناصرية، ورغم أن الإسلاميين هم القوة العددية الأكبر شعبياً والأكثر التحاماً مجتمعياً وميدانياً إلا انهم لم يسلموا من هذه الظاهرة أيضاً.

فبينما تأنت جماعة كبرى كالإخون المسلمين حتى أعلنت موقفها رسمياً من المشاركة في الثورة يوم جمعة الغضب التي انطلقلت من المساجد؛ نزل كثير من شبابها بتمرير صامت من قيادة الجماعة منذ أيامها الأولى، إلا أن بقية الطيف الإسلامي العريض من الكتلة السائلة ـ إن جاز التعبير ـ قد شارك بقوة كغيره من أبناء مصر، اللهم إلا فئات “إسلامية” محدودة وهي تلك التي اعتبرت الثورة فتنة وادعت أن دورها هو حماية الكنائس وبيع الطماطم للناس بأسعار مخفضة فقط؛ بينما الناس يموتون في ميادين الثورة في كل ربوع الوطن، وهي نفس الجماعة التي أنتجت فيما بعد حزب النور “السلفي” والذي استفاد بأصوات الجماهيرالعريضة من السلفيين في بدايتة حين آن أوان اقتطاف ثمرات نفس الثورة ـ الفتنة ـ في أول مواسم حصادها!!

وربما كان ذلك مفسراً عند أولئك لبمخذولين بقمعية النظام البائد وعدم قناعة تلكم الفئات بجدوى الثورة أو إمكانية نجاحها في تلك المرحلة؛ وخشية أن يرتد عليها النظام المتغول حينئذ فيذيقها الويلات، إلا أن عامة فئات الشباب من كافة الأطياف انطلقت غير عابئة بما قد تئول إليه الأمور واحتفتها جماهير غفيرة من جموع الشعب، من أبناء مصر يحتجون على نظام مبارك وكلهم ثقة بقدرتهم على إسقاطه.

وأفلح الإسلاميون في إزعاج الجميع ؛ خاصة بعد اكتساح جميع الاستحقاقات الانتخابية فأظهروا لغة التعالي من كثير من رموزهم وفي كثير من مواقفهم بدعوى أنهم أغلبية وغيرهم أقلية؛ ومع ذلك فلم يكونوا على مستوى الحدث بالمرة ، فقد تركوا مهمتهم الدعوية الأساسية والتي أكسبتهم تلكم الشعبية وذلك القبول؛ وانحازوا فجأة عن عمقهم الشعبي الاستراتيجي، كما لم يكونوا على وعي بما يجري حولهم وما يحاك في دهاليز الدولة الفاشية السرطانية المتجذرة ككيان موازي في أحشاء الوطن، والتي أفلحت تماماً في احتوائهم ـ كما غيرهم ـ استعداداً للالتفاف على الجميع وذبحهم.

وهنا كان اليسار تحديداً هو الفئة المجتمعية الأكثر وعياً وقدرة على التحكم بالشارع رغم محدوديته العددية ، فقد كانت تلكم الفئات هي الوحيدة التي كرست البعد التبشيري الدعوي الممنهج في كافة ميادين مصر واعتصاماتها الطويلة وكذلك في أوساط شباب الجامعات، إلا انها ومع وجود بعض القيادات التي لا تحب الأضواء كثيراً قد أفلحت في إدارة حالة الفوضى ما بعد الثورة باقتدار، وعلى رأسها الدكتور ممدوح حمزة والدكتور محمد غنيم كقيادات سياسية وحركية والدكتور علاء الأسواني كقيادة فكرية تنظيرية، وهذه القيادات تحديداً هي المسئولة بعد ذلك عن إسقاط تجربة الإخوان وإنجاح الوفاق بين كل المكونات الأخرى رغم تبايناتها الشديدة وتناقضاتها الأيديولوجية الفجة وعلى رأسها الجيش.

فقد أفلحت تلك الفعاليات في عزل التيار الإسلامي عن قاعدته الشعبية، وكان هو من أعطاهم كل الأداوات والمبررات اللازمة لهذا وساعدهم كذلك اجتماع إرادة كافة القوى العلمانية على إسقاطهم وامتلاك آلة الإعلام الجهنمية فخاضوا ضدهم حرب المصطلحات الرهيبة والتي تروج في الحقيقة وبدهاء للأطروحة اليسارية “الدين أفيون الشعوب” كمصطلح “تجار الدين” مثلاً وكأنه صار أفيونة يتاجر بها هؤلاء في أسواق الحشاشين!!

بل نزعوا عنهم قدسية المنهج ـ والمناهج تقدس أصحابها بالضرورة أو تدنسهم ـ فزعموا أنهم جماعات “الإسلام السياسي”، كما فرغوا محتوى “الدعوة” للشريعة حتى صارت “دعوى” ضد الشريعة؛ فقالوا أن الشريعة نسبية واجتهاداتها سائلة لا تكاد تنضبط فلكل اجتهاده فيها وليست حكراً على “المتأسلمين” ـ في تكفير ضمني ـ ثم رحبوا هم بها بعدما صاغوا لها هذه الصياغة التي ترضيهم!!

ولم ينسوا في خضم حرب المصطلحات تلك أن ينزعوا عن أنفسهم هم لباسهم المزعج فتخلصوا ولو إلى حين من “نبذ العالمانية” والذي طالما عيرهم به الإسلاميون واستحلوا به إهدروا مشروعيتهم في فترات القوة والتركيز المنهجي، ووقف أولئك المستهدفون بهذه المذبحة الاصطلاحية العاتية عاجزين حتى عن المواجهة الفكرية في هذه الحلقة من الصراع، وكانت في الحقيقة مقدمة للمذبحة الميدانية والتي مازال أوارها مستعراً حتى الآن في كل شوارع مصر وميادينها.

كما ركزوا على إسقاط أهم عناصر وجود هذا التيار وهو البعد الأخلاقي يإظهار بعض الممارسات المختلة لبعض صنائع الأجهزة الأمنية فيه، وكذلك ببعض المواقف المتخاذلة التي اتخذتها بعض الجماعات والقيادات بالفعل؛ كخذلان الناس في مواقف عدة سفكت فيها دمائهم وانتهكت أعراضهم، ورغم أن هذا الخذلان حصل من الجميع فلم أر بعيني هاتين في أغلب المواقف الثورية التي خضناها ومنها أحداث محمد محمود أحداً من المتاجرين بها إلا أن أولئك كانوا أكثر ذكاءً من هؤلاء فانحازوا إليها ولو إعلامياً وسياسياً.

وللحديث بقية ولابد ..

التعليقات