نقطة ومن أول السطر

مرت بسلام ـ حتى الآن على الأقل ـ معركة الدستور؛ أو “غزوة الصناديق” الثانية كما يحلو للبعض أن يسمي الوقائع الانتخابية، وجاءت استحقاقات ما بعد الدستور كما بدأت مشاغبات ما قبل انتخابات مجلس الشعب القادم.

وقد تفائلت كثيراً جداً حين سمى البعض اللجنة الدستورية المشكلة بالانتخاب والتوافق معاً “بلجنة الأشقياء” كما أطلق آخرون على لجنة تأسيس دستور 1923م، ثم جاء ذاك الدستور من أفضل الدساتير التي عرفتها مصر والعالم من الناحية القانونية والدستورية حتى أثنى عليه زعيم الوفد نفسه وصاحب التسمية المهينة للجنة، كما تم النص فيه على مرجعية الشريعة الإسلامية وأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.

وهنا يعن لي التنويه لمحاولة بعض رموز القوى العالمانية الربط المبكر بين نسبة الاستفتاء على الدستور وشرعية الرئيس مرسي نفسه وكأنهم أرادوا ـ في محاولة ذكية ـ أن يعيدوا انتخابات الرئاسة في صورة جديدة واختراع مصري جديد كالعادة، غرهم في هذا الاضطرابات التي تلت الإعلان الدستوري الأخير وحالة الفوضى التي همت المشهد السياسي؛ والعجلة الإعلامية الدوارة والرهيبة التي تدهس الإخوان والتيار الإسلامي دهساً، بينما غابت عنهم المعطيات الحقيقة للموقف واللاعب الأهم على أرض الملعب المصري وهو الشعب المصري العظيم.

شعب مصر الذي ورث الحضارة عريقة بين اللحم والعظم والذي تجري دماء الرقي الأممي في عروقه مجرى الدم

شعب مصر الذي ورث الحضارة عريقة بين اللحم والعظم والذي تجري دماء الرقي الأممي في عروقه مجرى الدم أو كما يجري الماء الطهور في النيل المعطاء، وكم ضرني والله وآلم نفسي استعلاء بعض تلك النخب عليه حتى دعى داعيهم لحرمان أكثر من ستين في المائة من أبنائه من التصويت على الدستور المصري بدعوى أنهم أميون؟ أو كما زعموا من قبل أنه يدلي بصوته مقابل رشى الزيت والسكر أو رطل من اللحم، وحينها وحينها فقط كنت أعلم لماذا يرفضهم عموم المصريين ولا يعطونهم أصواتهم إلا قليلاً.

لكن الامتحان الصعب قد بدأ أيضاً للرئيس المنتخب؛ فما لم يحل الحكومة العاجزة ويستبدلها بأخرى قوية ناهضة، وما لم يصدر قرارات عاجلة لصالح الفقراء والمعدمين الذي يزدادون فقراً يوماً بعد يوم، مع توفير اعتماداتها المالية فوراً، فلن تشم البلاد ولا نظام الحكم فيها رائحة الاستقرار بأنوفهم، علماً أن هذا ممكن وميسور؛ إذ يكفي أن توزع آلاف الوحدات السكنية والمساكن الشعبية المغلقة والغير مستغلة منذ عهد النظام البائد على سكان العشوائيات؛ كما يكفي أن تصدر حزمة من القوانين والتشريعات التي تنحاز لعموم الفلاحين والعمال والمهمشين في البلاد.

نزلت جموع الشعب إذن لتصوت للدستور وليثبت شعب النيل وعيه العريق المتجذر والمتحدر من أعالي الجبال

نزلت جموع الشعب إذن لتصوت للدستور وليثبت شعب النيل وعيه العريق المتجذر والمتحدر من أعالي الجبال؛ ليتعالى على النخب ويشمخ بأنفه عالياً رغم ما تجاذبه من الدعايات من كلا الجانبين السياسيين عبر الآلة الإعلامية أو الدعايات الإسلامية، لكن الكتلة البينبة استطاعت أن تقول كلمتها وتحدد خيارها، رغم مصادرة بعض السياسيين للإرادة الشعبية قبل أن تتحدد ليعلن أن النتيجة مرفوضة سلفاً أياً كانت!!

وتناسى أولئك أن الشعب هو مصدر السلطات بل إن هذا المبدأ تحديداً هو جوهر الديموقراطية التي جعلوها أو كادوا للناس ديناً فحتى لو فرضنا جدلاً أن اللجنة التأسيسية غير شرعية أو مطعون عليها وهذا غير صحيح إذ شكلها مجلس الشعب المنتحب، أو فرضنا أن الدستور مسلوق ويعبر عن فئة واحدة كما زعموا وهو غير صحيح أيضاً إذ شارك فيه الجميع ثم انسحبوا بعد التوقيع على معظم مواده، ومع هذا فلو فرضنا هذه الفروض جدلاً يصبح الدستور شرعياً وصحيحاً والطعن على نتيجة الاستفتاء هو عبث بالغ الخطورة إذ يعد انقلاباً على الشعب والإرادة الشعبية بل وهيمنة لدكتاتورية النخب على إرادته، فالشعب وهو صاحب الشرعية العليا والسلطة العظمى قد قال كلمته وانتهى الأمر؛ نقطة ومن أول السطر.


التعليقات