خياراتنا مع انقلاب مصر

مع أن الموقف من انقلاب مصر إنما هو خيار سياسي، لكنه يشتمل بالضرورة على أصل شرعي ينطلق من مبدئيته، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن اختياره لا بد أن يكون من خلال تصور للبدائل المتنوعة، أدى لتفضيله على البقية، انطلاقا من معيارية الموازين الشرعية تجاه الاحتمالات الممكنة.
وليست الاحتمالات الممكنة استرسالا مع الممكنات العقلية، أو استجابة للتطلعات النفسية. بل هي قراءة واعية للواقع بسياقاته (الزمانية والمكانية) المؤثرة في خط سير الأحداث الحالية. وهي قراءة تستنير بهدى الوحي، وتنتفع بخبرة التاريخ، وتميّز أمارات المستقبل.

من جهة المبدأ :

إن كل نظام حُكم لا يردّ الناس إلى سيادة شريعة الإسلام، هو نظام فاقد للشرعية الأصلية. ومهما اضطررنا أحيانا لترجيح بعض الباطل على بعض، لكونه أقل الشريّن، مع العجز عن غيرهما، فلا يجوز أن يتضمن ذلك إسباغ الشرعية على ما لا شرعية له.
وفي حالتنا الراهنة فقد قام الانقلاب أساسا لمضادة المقصود الشرعي، فهدفه منع إقامة دولة إسلامية في مصر، بإزاحة من يحملون هذا المشروع. كما في تصريحات القائد العسكري للانقلاب لصحف أجنبية بالخارج، وللشيخ محمد حسان في الداخل، عندما كان وسيطا بين تحالف دعم الشرعية وبين قيادة المجلس العسكري [نقل ذلك عنه د.صفوت عبد الغني قيادي الجماعة الإسلامية والتحالف] . وتصريحات وزير خارجية الانقلاب، ثم تصريحات ثاني رئيس وزراء انقلابي [والذي كان وزيرا للإسكان في حكومة الانقلاب الأولى] .
مما جعل الموقف من الانقلاب محسوما من هذه الناحية المبدأية، وصار الانحياز له بيعا لقضية الشريعة بثمن بخس، وخيانة لمجموع الحركة الإسلامية التي قامت لإعادة سيادة شريعة الإسلام، بل لمجموع الأمة التي أعلن جمهورها احتضانه للإسلاميين ولقضيتهم.

من جهة بدائل الاستسلاميين :

إن كل أصحاب خيار الاستسلام للواقع الانقلابي [وهذا يشمل المنحازين للانقلاب، ويشمل غيرهم ممن لا ينحاز للانقلاب لكنه ينحاز للاستسلام له] يرون أننا أمام خيارين :

الأول : الاستسلام للانقلاب

باعتباره قد فرض واقعا بالقوة، والعودة إلى ممارسات ما قبل الثورة، في إطار الدعوة والعمل المجتمعي. ويرون أن هذا سيحافظ على وجود وتأثير الحركة الإسلامية، وسيمنع تعرضها للاستئصال من قبل دولة الانقلابيين. وهذا ما يفضلونه، ويرونه حكمة عظيمة، ويطالبون غيرهم بالرجوع إليه.
وهذا الافتراض مفرط في الخيال، بعيد عن مفردات الواقع كلها. فإن الانقلاب الذي أسكت القنوات الإسلامية في لحظة نهاية بيانه الأول، لن يسمح بصوت إسلامي إلا إن كان خادما لوجوده. والانقلابيون الذي رأوا ثورة الإسلاميين على المخلوع فاضطروا لمخادعتهم حينا، لن يسمحوا لهم أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الثورة (كاستفادة من درس ثورة يناير) بل لا بد أن يجعلوهم أضعف وجودا وتأثيرا.
ونظرة إلى المحيط الثوري في المنطقة، سترى انقلابا علمانيا ناعما في تونس، بادر بتجريم النقاب أسوة بفرنسا. وسترى تقسيما لليمن، وإشعالا لليبيا، وتحطيما (داخليا وخارجيا) لسوريا. وأخرى إلى المحيط العربي المتأثر فقط بالثورة، سترى تجريما للإسلاميين في السعودية بعد الإمارات. وسترى حلّا لجمعياتهم (وهي الشكل الرسمي لعملهم) في موريتانيا.

الثاني : الاستمرار في الحراك المناهض للانقلاب

سياسيا وإعلاميا وشعبيا. سواء أكان ذلك من خلال التحالف، أو بالتعاون معه، أو حتى بالانفراد عنه. ويرون أن هذا سيؤدي إلى قمع استئصالي للحركة الإسلامية، مما سيلحق الأذى بأفرادها، ويمنع تأثيرهم الصالح عن المجتمع. مع رؤيتهم ألا جدوى من منابذة الانقلابيين، إلا تكثير الضحايا وزيادة الخسائر. وهذا ما يرفضونه ويهاجمونه بشدة، ويطالبون أصحابه بالتراجع عنه.

وهذه رؤية من لايخوض صراعا في حياته، فيتوهم أن خصمه سيتيح له الفرصة للوجود والتأثير، وأنه لن يضربه ضربات استباقية إجهاضية. لذلك فهي رؤية تجعل الهدف هو السلامة، وليس النصر. وبالتالي فهي رؤية لا تستحضر تجارب الأمم في تغيير الحكومات المستبدة، أو نيل حريتها ممن يحتلها بالقوة العسكرية.

أما البدائل الحقيقية :

فإن كل من اختاروا منابذة الانقلاب، قد انطلقوا في موقفهم هذا من خلال رؤيتهم للمبدأ الذي قام الصراع عليه، وهو مبدأ سيادة الشريعة ودولة الإسلام [كذا عبر عنه الطرف الانقلابي بنفسه] . فوجدوا أننا أمام أحد خيارين :

الأول : الاستسلام للانقلاب

مما سيسبغ عليه الشرعية، ويضيع ما كسبناه من سلطة شرعية في حس جمهور الشعب. كما سيمنح الاستسلام الانقلاب فرصة مثالية للاستقرار السريع، ويتيح له إدارة المشهد بانفراد لا يشوش عليه فيه أحد. مما سيؤدي إلى استئصالنا دون ثمن، بل ودون ضجيج. فضحايانا سيتضاعفون، لكن حيث لا يراهم ولا يتعاطف معهم أحد، ودون أي مكسب لقضيتنا.
ولا يخفى أن هذا الاستسلام سيعتبر انتحارا لكل من شارك في ثورة يناير، وإجهاضا لكل الحركات الإسلامية التي ترفع لواء سيادة الشريعة، ربما لأجيال قادمة في أمتنا المسلمة. بل سيكون وضعاً لثورات شعوبنا (التي انحازت إلى الحرية والكرامة والشريعة) في كفن عسكري (علمان/صليبي) .

الثاني : الاستمرار في مقاومة الانقلاب

لنستثمر ما تبقى لنا من مكاسب ثورتنا، ونبني عليه حدّاً أدنى من المكتسبات المقبولة، على مستوى الحركة الإسلامية، و على مستوى المجتمع، ثم على مستوى الدولة.
فرفع راية الشريعة، وتسليم السلطة لرئيس إسلامي، في ظل انحياز أغلبية شعبية عامة. واستعداد قطاعات واسعة للتضحية في حراك ثوري تغييري، مع قبول جمهور شعبي واسع لذلك. وإسقاط أسطورة الأنظمة التي لا تُقهَر، وكسر قيد الاستسلام للطغيان بدعوى العجز. كل تلك مكاسب تستحق التضحية من أجل ترسيخها في الأمة.
بل إن بقاء رايتنا مرفوعة، يجعل كل كسرٍ ينال عصابة الانقلاب، يصب تلقائيا في مصلحتنا، بمقتضى التقابل السياسي والمجتمعي بيننا وبين الانقلابيين.
وبمقدار ما نتألم من مرور الوقت في ظل الانقلاب، بمقدار ما نسبب له ألما أكبر في ظل مشروع دولة يعجز عن ترسيخها لنفسه (ونحن حراك وهو سلطة). بل نحن بوجودنا وتأثيرنا هذا، نمنعه من طيّ صفحتنا كماضٍ انتهى في حس المجتمع والدولة والعالم، لنبقى جزءا من الحاضر والمستقبل.
فهل يبقى لنا كحركة إسلامية، رفعت راية التغيير، ودعت الأمة إلى سيادة الشريعة، وشاركت في ثورة التحرير .. خيار غير مناهضة الانقلاب، بالوسائل الممكنة والمقبولة مجتمعيا .. فنسير نحو نصر .. نراه قريبا؟!

 


التعليقات