الرمزية بين الإسلام والنصرانية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الرمز: الرمز هو تعبير خاص عن حقيقة أو معنى بالقول أو الإشارة أو الصورة أو الحركة لإظهار العلاقة بين التعبير ودلالته. والقصد من كلمة “تعبير خاص” لإخراج الرمز من إطار التعبير الإنساني العادي، أما الحقيقة أو المعنى فهي “موضوع الرمز” الذي يجب أن تكون ثابتة وقابلة للإظهار الرمزي. وأما القول أو الإشارة أو الصورة أو الحركة: فهي وسائل التعبير الرمزي وهي نفس وسائل التعبير الإنساني الطبيعي لتسهيل واختصار التعامل ونقل المعاني والرمزية ضرورة نفسية لتجسيد المشاعر حول الحقيقة وتثبيتها في التصور. الرمزية في الإسلام والرمز في الإسلام له حد عقدي وهو: البعد عن ذات الله لأن الله ليس له َمَثل والرمزية َمَثل {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74] وباعتبار الرمزية طبيعة إنسانية صحيحة فقد ارتكزت الأحكام الشرعية عليها فكانت نشأة الرمز في التصور الإسلامي إما أن تكون من الحكم الشرعي إبتداءاً أو من الواقع الذي أقره الشرع إنتهاءاً مثل الآذان وهو من الأحكام الدالة على ثبوت حكم الإسلام للدار فأصبحت المأذنة بالتبعية رمزاً مستقراً في الواقع التاريخي والنفسي لديار الإسلام. والذي يقابله نشأة الرمز من الواقع مثل رمز الراية المرفوعة في القتال التي توارثها الناس تاريخياً حتى أصبحت الراية المرفوعة رمزاً للنصر فأقر الإسلام هذا المعنى الرمزي وأثبته في نصوص شرعية كثيرة. وباعتبار الأثر النفسي لرمزية الراية المرفوعة على النصر ارتكز الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الأثر في غرس الإحساس بالنصر والهزيمة أمام الشيطان كطرف غائب عن الإنسان وضرورة الإحساس بالنصر عليه فقال عليه الصلاة والسلام: «ما من خارج يخرج من بيته إلا ببابه رايتان, راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته،وإن خرج لما يسخط الله عز وجل اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته» [رواه أحمد والطبراني في الأوسط]. وبذلك تكون نشأة الرمز إما من الشرع أصلا أو من الواقع الذي يقره الشرع. والمثل الجامع في العلاقة بين الرمز والواقع والشرع هو: الكعبة فالكعبة لها إحداثيات واقعية مما جعلها رمزاً معبراً عن العلاقة الجامعة للواقع والشرع باعتبار إحداثياتها الكونية كمركز ثقل للكرة الأرضية وباعتبار الأمر من الله ببنائها والأمر من الله بالحج إليها والطواف حولها. موضوعية الرمز في الإسلام والموضوعية هي أهم خصائص الرمز في الإسلام. وهي العلاقة الأساسية بين الرمز والحقيقة التي يعبر عنها. ومن نماذج الرمز الثابتة في الشرع والمثبتة للموضوعية ما كان ليلة الإسراء والمعراج اللبن والفطرة.. والخمر والغواية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج «فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ» [متفق عليه]. فعندما يقول جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم «أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ» يكون اللبن بهذا النص رمزاً للفطرة والخمر رمزاً لتغيرها. ومن هنا كان الربط بين اللبن والفطرة والخمر والغواية وهو الوارد في سورة النحل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]. والآية تفسر الفصل بين اللبن وبين الفرث والدم، كما يكون الفصل بين الهدى وبين الضلال فلا يختلطان، ثم جاء بعدها قوله عز وجل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:67] فتبين الآية صورة لفعل الإنسان في تحويل الأشياء عن أصلها وتغير فطرتها مثلما يتحول الهدى بالاختلاف والابتداع عن طبيعته في عقول الناس وأفهامهم، وبالآيتين الأخيرتين يتحقق التقابل بين اللبن والخمر وهما المثلان الكونيان المضروبان للهدى وللغواية في حديث الإسراء والمعراج. والذي يؤكد أن هذا هو المقصود من الآية هو قول الله عز وجل {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}؛ لأن السكر هو الخمر, والرزق الحسن هو أكل الثمر قبل أن يصير خمرا والتعقيب يؤكد ذلك بقول الله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، إذ أن التعقيب يتفق مع عبرة تحول الأشياء إلى خمر كبداية للتحريم الشرعي، فالمقصود هو معنى التحويل كأساس للتحريم. ولذلك يذكر ابن القيم هذه الحقيقة بصورة مباشرة فيقول: “الشراب المعتصر من العنب فإنه طيب يصلح للدواء والإصلاح للغذاء والمنافع التي يصلح لها فهو خلي على حاله لم يكن إلا طاهراً صحياً ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكراً، فخرج بذلك عن خلقته التي خلق عليها من الطهارة والطيب فصار أخبث شيء وأنجسه. فلوا انقلب خلا وزال تغير الماء كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى، فأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها، والله أعلم”. وكذلك المرائي التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج ومنها التعبير عن حقيقة الربا «وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، فيقول: من هذا يا جبريل؟ فيقول: هذا آكل الربا» [صحيح أخرجه البخاري في (التعبير / بـ تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح / ح 7047]. والملاحظة الهامة التي تساهم في معني الرمز هي قوله عن النهر «أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ» لم يقل من الدم لأنه صورة رمزية، فنجد الارتباط بين الدم والمال باعتبار أن الدم والمال هما شريان الحياة، ونجد الحجر الذي يلتقمه حتى يشبع لأنه لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وها هو يلتقم حجراً ونجد تكرار الموقف بين الشاطئين ليمثل كل شوط دورة من دورات الربا التي يضاعف بها المال كما يتضاعف الحجر. «فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ قَالَ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا» ثم يبين جبريل أنهم «الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي» وتماما مثلما يكون اللغط والأصوات في الفاحشة يكون في الصورة الرمزية لها وتماما مثلما تأتي الشهوة من أسفل الزناة, يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَل مِنْهُمْ. وبذلك كانت المرائي مثالاً للموضوعية في طرح القضايا الإسلامية الضخمة بأسلوب رمزي رائع ولعلنا نلاحظ روعة الأسلوب من المناسبة اللفظية بين الكلمات وبين الموضوع مثل كلمة «ضَوْضَوْا». والضوه: الجلبة, وصوت الفحل الهائج والصوت يخْرُجُ من حَياءِ -فرج- الناقَةِ قَبْلَ خُروجِ الوَلَدِ، فتناسبت الكلمة المعبرة عن الرمز مع موضوعه وهو الزنا. فاعلية الرمز في الإسلام الفاعلية الوجدانية: والعلاقة بين الرمز والمشاعر تفسرها طبيعة السلوك والتعبيرعند الإنسان، مثل القبلة الدالة على القبول والرضى والحب، ومثل البصق الدال على الرفض والكراهية، ومثل القذف بالحجارة (الرجم) الدال على العداء والرفض. والرمزية في الإسلام تقوم في معناها على هذا التفسير الطبيعي ومن هنا كان تقبيل الحجر الأسود، وكان التفل وهو البصق الخفيف تحت قدم المصلي اليسرى عند وسوسة الشيطان، ومن هنا كان رجم الزاني مع كونه عقوبة فهو رفض اجتماعي للزنى والزناة، وكان رجم إبليس تعبيرا وجدانيا عن رفضه وكراهيته. فاعلية الفهم: ومن أهم صور الفاعلية الرمزية هو الفهم الناشيء عن الموقف الرمزي أمام من يعيشه أو يراه مثلما كان الغلام في قصة أصحاب الأخدود “فبينما كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل! فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فقتلها ومضى الناس”. ولقد أحسن الغلام في طلبه لليقين لما اختار حادث الدابة التي تسد على الناس الطريق إذ أن هذا الحادث وما تم فيه يعتبر بحق تجربة كاملة للدعوة بجوهرها وأبعادها كما تتضمنه التجربة من خلال القصة كلها. فهناك دابة تسد على الناس طريق سيرهم ترمز في إحساس الغلام إلى أي طاغوت يسد على الناس طريق هدايتهم. فيأخذ حجراً ليكون رمزا للسبب في قتل هذه الدابة ويدعو الله مع أخذه بالسبب بأن يقتل الدابة إذا كان أمر الراهب أحب إليه من أمر الساحر فيقتلها ويمضي الناس فيعلم الغلام أن الحق الذي أكده قدر الله بقتل هذه الدابة هو الحق الذي عليه الراهب. ومعنى استغلال الغلام لموقف الدابة التي تسد على الناس الطريق هو حياة الدعوة في كيان الغلام فهذه الحياة هي التي جعلته يلتقط الموقف بمعناه الكامل وأبعاده النهائية وهذا شأن الدعوة حينما تكون حياة الداعية فينظر إلى كل شيء من خلالها ويفسر بها أي معنى أو حدث لأنها عقيدته وتصوره وواقعه وليست رغبة شخصية قد تتغير أو ميلاً بالفكر قد ينسى. وموقف لقاء موسى مع ربه سبحانه وتعالى مثالا لتلك الفاعلية؛ حيث ارتبط الموقف بالعصا التي كانت في يده {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]. وتجربة العصا هي نفسها مضمون قصة موسى مع فرعون، فالعصا مع موسى كانت منافع كما كان فرعون قبل بداية الصراع هو أيضًا منافع وتربية، وكما تحولت العصا بمنافعها إلى حية كان ذلك مثل تحول فرعون عن موسى إلى موقف محاولة القتل، وكان فرار موسى من الحية كفراره من فرعون. والآن يجب أن يعود موسى إلى الحية بوعد من الله أن تعود إلى سيرتها الأولى؛ قال تعالى: {خُذْهَا ولا تَخَفْ سَنُعيِدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21]. وكذلك يجب أن يعود موسى إلى فرعون بوعد من الله بحفظه من فرعون؛ قال تعالى: {لَن يَصِلُوا إلَيْكَ} [هود: 81]، وقال أيضًا: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وكما أعاد الله الحية عصا.. عاد فرعون عاجزا عن قتل موسى. لقد كان من المتوقع أن يقتل فرعون موسى بمجرد أن يراه؛ لكنه لا يزيد عن قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26]. ومن أجل ذلك كان الأمر الموجه إلى موسى من الله سبحانه وتعالى بالرجوع إلى العصا كان بصفته “من المرسلين” {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10]؛ ليكون الأمر بالرجوع إلى العصا بمقتضى الرسالة وبصفته “رسول”؛ لأن الرجوع إلى العصا في حقيقته تجربة رمزية كاملة للعودة إلى فرعون. فاعلية الرؤى: وباعتبار الرؤى من أهم صور الرمزية كان الشرع فاصلا بين رؤى الحق من الله وحلم الشيطان التي سترتكز عليها الرمزية الوثنية والنصرانية بصورة واسعة كما سيتبين إن شاء الله. ومن هنا كان من أهم صور الفاعلية الرمزية التأسيس عليها في النظام الإسلامي وإلتزام الدلالة المنهجية للرمز فيها مثلما كان من عمر بن الخطاب عن عطاء بن السائب قال: حدثني غير واحد أن قاضيا من قضاة الشام أتى عمر فقال: “يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم معهما نصفين، قال: فمع أيتهما كنت؟ قال : كنت مع القمر على الشمس، فقال عمر: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فانطلق فو الله لا تعمل لي عملا أبدا” [رواه ابن أبي شيبة]. الرمزية الوثنية: وباعتبار أن الوثنية هي التناقض المطلق مع الحق كان الرمز الوثني تعبيرا عن هذا التناقض. والرمزية الوثنية بكل صورها تكون في المسافة التي يتم بها الانتقال بالإنسان من هذا الحق إلى تلك الوثنية والمثال التاريخي الواضح في ذلك هو عبادة اللات والعزى ومناة حيث روى البخاري عن ابن عباس: «ود وسواع وغوث ويعوق ونسر: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا» وفي رواية: «فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت». فكان الصنم في البداية مجرد شيء يذكر بالناس الصالحين ثم تحولت هذه التماثيل في عقيدة الناس إلي آلهة [التحرير والتنوير – (ج 1 / ص 4578)] ولكن الوثنية لها حضارات ولتلك الحضارات نموذج جامع وهي الفرعونية. ومن هنا كانت الفرعونية هي أخطر نموذج لتفسير الرمزية الوثنية حيث يكون فيها التناقض مع الحق مضموناً أساسياً عاماً لها وأول حقائق هذا المضمون هو شيطنتها. وقد اتفقت جميع الديانات القديمة على عبادة الأفعى والشمس, تلك الظاهرة التي أقر بها جميع المؤرخين إذ يقول علماء الأديان القديمة: “إن الإنسان البدائي عَبَدَ الأفعى والشمس, وأن هذا التقديس نجده في جميع الحضارات التي أحاطت بالجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ تقريباً, سواء كانت الحضارة المصرية القديمة, أم الحضارة البابلية, أم الهندية, بل إن شعوب أفريقيا وغربها وشعوب أمريكا تشترك معها في هذه العقيدة كما اتخذ المصري القديم الأفعى رمزاً طوطمياً جاعلاً منها المعبود”. ثم نأتي إلى إثبات العلاقة بين الشمس والأفعى, فأسماء الأفعى وصفاتها في العبادات تكاد تتفق مع أسماء الشمس وصفاتها في الديانة العربية القديمة؛ فكانت الشمس في العبادات العربية القديمة تسمى “ذات الغدران” و “ذات اللون الذهبي” وهي أسماء وصفات خلعتها الحضارات القديمة على الأفعى فهي “ربة الغدران” “ربة المياه” وهي “المعبودة النبيلة ذات اللون الذهبي”, وهي “الحارسة” أو “الحامية” أو “الحافظة”. والربط بين اللات إلهة الشمس والحية ذكره صاحب لسان العرب في مادة “لوه” فيقول: “إن اللاهة هي الحية العظيمة وأن اللات اسم المعبودة وربما أخذ اسمه منها”. وفي جميع القارات وجميع الحضارات وجميع الأزمنة دون ما أدنى علاقة بين الشمس والحية. ودون أي صلة بين جميع القارات, وجميع الحضارات على مدى الزمن المقدر بآلاف السنين الذي تمت فيه عبادة هي الرموز الثلاثة؛ وهنا يقول التفسير الإسلامي للتاريخ كلمته الحاسمة والنهائية: إبليس هو العلاقة، إبليس يعيش الوجود البشري كله من خلق آدم وحتى يوم يبعثون، إبليس هو المصدر الذي أوحى بعبادة هذا الرمز في كل القارات والأزمنة المتباعدة. وهل يجوز لأي عاقل أن يقول غير هذا في تفسير هذه الظاهرة التاريخية الصارخة؟ الرمزية عند النصارى: تبين أن الشمس والحية هما أكبر رمز وثني، والعلاقة الوثيقة بين الوثنية والنصرانية يؤكدها من الناحية الرمزية العلاقة بين الشمس كأكبر رمز وثني وبين الصليب كأكبر رمز نصراني وهي العلاقة التي كشفها الحلم الذي حلمه قسطنطين الذي كان يصلي لآلهة الشمس واحتفظ بلقب كبير حراس عبادة الآلهة أو كبير كهنة الآلهة. يقول “ول ديورانت”: “أنه كان وثنيا مع الوثنيين، وأريوسيا مع الأريوسيين، وإسناثيوسيا مع الإسناثيوسيين؛ لتحقيق أغراضه السياسية”. وهو أول من رفع شعار الصليب بعد أن حلم حلما رأى فيه شكل الصليب بجوار الشمس وسمع من يقول له بهذا الرمز ستنتصر وقام على إثره برفع الصليب كشعار للنصرانية. وكذلك أخذت الحية نفس الصفة الرمزية للشمس في النصرانية فقال الرب لموسى: “اصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكل من لدغ ونظر إليها يحيا، فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية فكان متى لدغت حية انسانا ونظر إلى حية النحاس يحيا” (العدد 21: 5-9). “ويأتي حزقيا بن أحاز ليجد اليهود يعبدون الحية ويعظمونها ويوقدون لها النيران فيكسر التماثيل ويسحق الحية (4) هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى لأن بني اسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان” (ملوك ثاني: 18/4) تشبيه العهد الجديد للمسيح بالحية: “وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان (15) لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا: 3/14). يقول القديس أبيفانوس: “إن الحية تمثل المسيح”. ويقول القديس أوغسطينوس: “إن رفع الحية هو موت المسيح” وغيرهما (اقرأ شرح انجيل يوحنا الجزء الأول ص 228). وهناك من يعترض على دلالة رمز الحية على المسيح مثل الأب متى المسكين حيث قال: “لقد راجعنا الآباء في ما قالوه عن الحية النحاسية, غير أننا لم نعثر على كبد الحقيقة. إن هذه الآية إن حملت على معناها الظاهر منها, فهي تشكل إدانة صريحة للسيد المسيح عليه السلام لا فضيلة له, لما تحويه الحية من رمز “للخطيئة”, ورفعها لشفاء الناس من لدغ الأفاعي يعني أنه لا يمكن الشفاء إلا بجنس المرض” (شرح إنجيل متى للمسكين الجزء 1 ص 228). ولكن مثل هذه الاعتراضات الثانوية لا تلغي الصفة الأساسية لوثنية الفكر النصراني التي تنكشف بمثل هذه التحريفات القديمة والباقية. وقد جاءت الرمزية الوثنية إلى النصرانية المحرفة من الإلغاء العقلي الذي جعل من الأسلوب الرمزي في غيبة العقل منهجا عاما للتفكير. فعندما ُيفسر النص القائل: “لنا أخت صغيرة ليس لها ثديان” من نشيد الإنشاد بالقول أن الثدييين هما العهدين القديم والجديد تفسير القمص يعقوب ملطي لا نجد أساسا للرمزية. فما هي العلاقة الواقعية أو الطبيعية أو الموضوعية أو الوجدانية بين الثديين وبين العهدين القديم والجديد؟ وبذلك أصبح التفسير الرمزي في النصرانية من أكبر عوامل التحريف. أما البداية الأساسية للرمزية الوثنية في النصرانية المحرفة فقد كانت بلا شك بدعة التجسد. التجسد والرمزية الوثنية: ذكرنا أن الرمزية الوثنية بكل صورها تكون في المسافة التي يتم بها الانتقال بالإنسان من التوحيد إلى الوثنية مثل انتقال الشيطان بالإنسان إلى عبادة الأصنام وعقيدة التجسد عند النصارى هي نفس المسافة بصورتها الكاملة؛ لأن التجسد يعني أن تكون الحقيقة والرمز المعبر عنها شيئاً واحداً؛ ذلك لأن الله – بحسب زعمهم – تجسدت في صورة إنسان يعني أن “الله” حقيقة والصورة الرامزة إليها “المسيح” هي أيضا نفس الحقيقة. ولما أصبح التعامل عندهم مع الرمز والموضوع كحقيقة واحدة صارت الوحدة بين الرمز والحقيقة مسألة اعتقادية يجب التسليم بها ولايمكن مناقشتها ومن هنا كان قولهم “إن الرمزية المسيحية مُؤسسة على الكلمة المتأنس ابن الله الذى تأنس واتحد بالمخلوق بدافع من محبته وعبر هذه الهوة بين المخلوق وغير المخلوق. وبدون التجسد سيظل أى رمز عاجزًا عن عبور الهوة بين المخلوق والخالق (انظر أى 32:9). الرمز والحقيقة فى العبادة الأرثوذكسية د.جورج عوض إبراهيم وتحت هذا المعني كانت كل الطقوس الخاصة بأسرار الكنيسة فالتناول – وهو من أهم هذه الطقوس – هو أن يؤمن الناس أن الفطيرة بعينها هي المسيح بعينه. المسيح نفسه الذي أعطاهم الخبز كان هو الخبز نفسه، ولذلك يشهدون في سر التناول شهادات عدة أن الخبز نفسه هو المسيح ذاته، ولكن الشك لا ينعدم بل ويفرض نفسه على خطاب الكاهن. وذلك عندما يقول “أمين أمين أمين أمين أؤمن أؤمن أؤمن أؤمن” فيخرج الكاهن عن العدد ثلاثة التقليدى الثابت عند النصارى. ويقول: وأعترف إلى النَفَس الأخير أنّ هذا (مشيراً إلى الخبز) هو جسد المسيح ودمه. ويجمع كل التناقضات والشكوك التي يمكن أن تساور من يسمع الخطاب فيقول: “بالحقيقة أؤمن أنّ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين” ثم يعود ويكرر “أؤمن أؤمن أؤمن أنّ هذا هو بالحقيقة آمين”. وهل يبقى عندهم القول بأن الخبز نفسه هو المسيح ذاته عندما يهضم الخبز ويختلط جسد المسيح ببقايا الطعام التي في المعدة؟ نعم يبقى.. ولذلك كانت هناك إحتياطات طقسية دقيقة منها الصيام قبل التناول وبعده حتى لا يختلط جسد المسيح ببقية الطعام، ومنهاعدم البصق بعد التناول حتى لا يخرج شيء من جسد المسيح من فم المتناول، ومنها عدم إخراج أي بقية من الخبز تكون عالقة بين الأسنان بأصابع اليد حتى لا تلمس يد المتناول جسد المسيح “المقدس” الذي يكون بين الأسنان. وهذه البقية التي تكون بين الأسنان اسمها “الجوهرة” وهذا الإسم له مغزى وهو: الإعتقاد بأن البقية التي تكون بين الأسنان هي من جوهر المسيح وعندما يأكل المسيحي القربان يكون المسيح قد دخل فيه. ومن هنا يأتي التحذير النصراني من التبرع بالدم للمسلم؛ لأنه بهذا التبرع سيدخل المسيح جسد المسلم، علما بأن المسيح نفسه لم يمنع التلميذ الخائن من التناول بل وأعطاه اللقمة بيده فكان أول من أكل لحم المسيح ودمه هو التلميذ الخائن بل كان أكل لحم المسيح ودمه هو علامة الخيانة “أجاب يسوع هو ذاك الذي اغمس أنا اللقمة وأعطيه فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الاسخريوطي” وبعد أن تناول التلميذ الخائن جسد المسيح ودمه, كانت المفاجأة أن يدخله الشيطان بدلا عن دخول المسيح “فبعد اللقمة دخله الشيطان فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” (يوحنا: 13). ومن هنا أصبحت الرمزية تمثل أساساً تصورياً لقوانين الكنيسة الأساسية؛ فقانون منع إنتقال الأسقف من أسقفية إلى أسقفية أخرى أساسه اعتبار الكنيسة زوجة للأسقف ووفقا لتحريم الطلاق عندهم لا يجوز للأسقف أن يترك أو يطلق الكنيسة أو الزوجة. هذه هي أزمة الرمز في النصرانية، أن يكون الرمز – وفقا لعقيدة التجسد – هو ذات الموضوع وأن يكون الله هو المسيح، وأن يكون الخبز هو المسيح، وأن يكون الخروف هو المسيح. “هؤلاء سيحاربون الخروف والخروف يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون” (رؤيا: 17/14) وصورة الخروف على الصليب صورة تاريخية معروفة، رمزية باطلة تلك التي تأسس عليها الفكر النصراني المحرف. ولكن الله يعلم ويشهد أن المسيح هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 171].


التعليقات