تحليل بدعة الأقانيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد…. هناك أساسيان يقوم عليهما الحسم السلفي لبدعة الأقانيم

الأول: مناقشة البدعة بالتصور السلفي لقضية الأسماء والصفات والأفعال، باعتبار أن الخلل الذي نشأت عنه هذه البدعة حدث في إطار هذه القضية، ضمن الخلل الذي أصاب كل قضايا النصارى.

الثاني: التأكيد على عبودية عيسى ابن مريم وروح القدس؛ لأن الادِّعاء بألوهيتهما هو موضوع هذه البدعة.

ومن التصور السلفي قد علمنا: أن الذات واحدة.. وأن الذات لها صفات.. وأن الصفة إما صفة ذات أوصفة فعل.. وأن الصفة إما لازمة أو متعدية.. ويلزم من القول ببدعة الأقانيم أن يكون المسيح صفة للذات الإلهية.. مما يعني أن اتحاد الصفة «الكلمة» بالذات «الآب عندهم» نشأ عنه تغير الذات، حيث تولد أقنوم الابن «الكلمة» من أقنوم الآب «الذات»، وظهرت خصائص وصفات جديدة للآب «الذات» بتولد الابن. وهو باطل لأن تعلق أي صفة بالذات لا يغير الذات، ولكن يغير الأفعال الناشئة عن تعلق هذه الصفة بها، فالذات لا تتغير.. ولكن الأفعال هي التي تتغير.. فالله رحيم، وتعلق صفة الرحمة بذات الله.. لا يغير ذاته سبحانه، ولكن تتغير أفعال الله بمقتضى رحمته، فتنشأ أفعال الرحمة بصورها المتنوعة. وبذلك يكون الخطأ عند النصارى هو القول بأن الذات مع الصفة يكون لهما حكم خاص، تتغير فيه الذات والصفة، فيصبح الآب هو الابن، والابن هو الآب، ولا يكون الفارق بينهما إلا في المسمَّى والاختصاص. وقد وقع النصارى في خطأٍ آخر، حين قالوا بالمساواة بين الأقانيم، وأن حكم الصفة مؤثر في الذات، فسوّوا بين الصفة والموصوف. وحسب قولهم بالتسوية بين الذات والصفة. وإذا كان لكل أقنوم صفة فلا بد أن تكون صفته مثله.. وإذا كانت هذه الأقانيم آلهة، وكل صفة هي إله ومن جوهر هذا الأقنوم- فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلهًا مثله؛ إذ هي من جوهره.. فيتسع الأمر في ذلك إلى ما لا نهاية من الآلهة..! وإذا قالت النصارى: إن المسيح هو الكلمة التي هي صفة الذات الملازمة لها منذ الأزل- انتفى معنى التولد باعتباره تولُّد شيء من شيء، إذ لا بد أن يسبق الوالد ما تولد منه، مما اضطرهم إلى الزعم بأن الابن يُراد به الابن بالوضع وهو المخلوق، والابن بالطبع وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه، ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمَّى القديم الأزلي ابنًا، ولا جعل له ابنًا قديمًا مولودًا غير مخلوق، ولا سمَّى شيئًا من صفات الله قط ابنًا. ومع ذلك فلم يخرجهم ذلك من التناقض؛ لأنهم سمَّوا الابن القديم الأزلي مولودًا أيضًا، وبذلك ينفي التولد صفة ملازمة الابن للأب، سواءً كان معنى التولد أزليًّا أو محدثًا. وسواءً كانت الولادة بمعناها المجازي أو الصريح فلا يخرج معناها عن أصل يتفرع منه فرع، وإلا لم يعد لها أي معنى أصلاً..! وإذا قال النصارى أن المسيحَ صفة فعلٍ لله فهذا يقتضي أن يكون المسيح هو جميع كلام الله، وليس كلمةً واحدةً فقط..! وإذا قال النصارى: إن الابن وروح القدس صفتان لازمتان «العلم» أو «الحكمة» فإن اختيار العلم والحياة للأقنومية لأجل الملازمة دليل على التناقض؛ لأن الصفة اللازمة هي التي لا تتعدى إلى الفعل والخلق. فإذا كان الابن صفة لازمة «الحكمة» أو «العلم» كان روح القدس هو الآخر ابنًا؛ لأنه صفة لازمة «الحياة»..! فالمسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الآب، والمسيح ليس هو الآب عندهم -بل الابن- فَضَلُّوا في قولهم من عدة جهات.. – من جهة جعل الأقانيم ثلاثة.. وصفات الله لا تنحصر في ثلاث..! ومن جهة جعل الصفة خالقة.. والصفة لا تخلق..! وتدور بدعة الأقانيم حول عدة مسائل: – الأزل والقدم – الاتحاد والانفصال – المساواة في الجوهر والطبيعة والمشيئة الأزل والقدم: ومسألة الأزل والقدم متعلقة ببداية الخلق، وهي من أخطر قضايا النصارى؛ لأن ابتداء وجود الابن متعلق بتفسير الأزل، والنصارى يقولون بأن الولادة ليست بترتيب زمني، ويفسرون ذلك بأن الابن كان مع الآب منذ الأزل، وأن الآب لم يسبق الابن..! ويؤكد النصارى هذا القول تأكيدًا جازمًا فيقولون: (وأما الذين يقولون: إنه كان زمان لم يوجد فيه.. وإنه لم يكن له وجود قبل أن يولد.. وإنه خُلق من العدم..أو إنه مادة أو جوهر واحد.. أو إن ابن الله مخلوق.. أو أنه قابل للتغيير أو متغير.. فهم ملعونون من الكنيسة الجامعة الرسولية..). وقد جمعت هذه العبارات بين عناصر البدعة ونقيضها في نفس الوقت..! كأن يدَّعوا أن النطق كان منذ الأزل.. وهذا ينفي أن يكون معنى النطق هو الولادة؛ لأن الولادة خروج شيء من شيء، فلا بد أن يسبق الوالد المولود الذي خرج منه..! وأما الأزلي الذي لم يزل ولا يزال فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنًا يقبل الوجود والعدم، بل كل ما قبل “بكسر الباء” الوجود والعدم لم يكن إلا محدثًا، وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله فهو محدث مسبوق بالعدم كائن بعد أن لم يكن(أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئًا) [مريم: 67]. وقد عالج التصور السلفي قضية بداية الخلق باعتبارها نفيٌ لاتخاذه سبحانه ولدًا، وإثبات لاسم الله «البديع»، وفي ذلك يقول الله عز وجل (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ? [البقرة: 116-117]. ?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 101]. واسم الله «البديع» يثبت الأولية لله سبحانه.. وكما تثبت الأولية تكون الآخرية.. يقول الله عز وجل: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد: 3]. ويقول رسول الله : «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء.. وأنت الآخر فليس بعدك شيء.. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء.. وأنت الباطن فليس دونك شيء» ([1]). وبذلك ارتبطت بداية الخلق مع نهايته كما في قوله تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]. ولذلك كان أخطر ما يفسد الاعتقاد في قضية بدء الخلق: هو الادِّعاء الباطل بأن لله ولد؛ لأن مضمون بداية الخلق هو مضمون النهاية.. كما قال سبحانه (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء: 104].

وأهم عناصر المضمون في بدء الخلق ونهايته: هو أن الله (هو الأول والآخر.. والظاهر والباطن) وادِّعاء أن الابن مع الآب منذ الأزل، وأنه سيبقى مع الآب- يعني أن الله ليس الأول وليس الآخر..! وقد بدأ الانحراف عند النصارى من هذه البداية بفكرة أن الابن هو «بكر الخلائق» أي: أولها، والحد الزمني للخلق هو الذي ينفي فكرة الولد الموجود مع الأب منذ الأزل؛ لأنهم بذلك أخرجوا عيسى من حد الزمن. وفي هذا الإطار جمع الحديث القدسي بين ذكر ادِّعاء الولد لله، والتكذيب بإعادة الخلق بعد بدايته، مما يدل على أن القضيتين ترتبطان معًا بعلاقة جوهرية.. قال رسول الله:  «يقول الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد» ([2]). وقال : «ليس أحد -أو ليس شيء- أصبر على أذى سمعه من الله.. إنهم ليدَّعون له ولدًا.. وإنه ليعافيهم ويرزقهم» ([3]). ولذلك أورد الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق حديث: «كان الله ولم يكن شيءٌ غيره» ([4]).. وفي رواية: «ولم يكن شيء قبله»  ([5])، ثم الحديث القدسي: «شتمني ابن آدم». فذكر الحديث في كتاب «بدء الخلق».. يدل على أن قضية بدء الخلق تمثل أساسًا ثابتًا لفهم حقيقة أن الله ليس له ولد.. ولذلك قال الإمام ابن حجر: ( «يشتمني ابن آدم»، الشتم هو الوصف بما يقتضي النقص، ولا شك أن دعوى الولد لله تستلزم الإمكان المستدعي للحدوث، وذلك غاية النقص في حق الباري سبحانه وتعالى). من أجل ذلك تحددت قضية خلق عيسى ابن مريم لتكون داخلة بإحداثياتها فيما بين بداية الخلق ونهايته، فذكر القرطبي في تفسير قول الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [لأعراف: 172]: (روح عيسى ابن مريم من تلك الأرواح التي أخذ الله عليها الميثاق في زمن آدم). وكما حسم القرآن بدعة ادِّعاء الولد لله من خلال إثبات أولية الله عز وجل.. حسمها أيضًا من خلال إثبات العدم للخلق قبل الإيجاد والخلق.. ، حيث جاء هذا الإثبات من خلال قضية عيسى في سورة مريم: (أَوَلا يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شيئًا) [مريم: 67]. وبذلك يتبين أن حسم قضية ادِّعاء الولد لا يكون إلا بمنهج الأنبياء، ولا يكون كذلك إلا بكلامهم وألفاظهم. فلفظ «القديم» في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء يراد به ما كان متقدمًا على غيره تقدمًا زمانيا، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه، كما قال تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس: 39]، وقال تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)  [يوسف: 95]، وقال الخليل: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 75-77].. والمقصود هنا: أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحُمِل كلامهم عليها أمرٌ واجبٌ متعينٌ، ومن سلك غير هذا المسلك فقد حرَّف كلامهم عن مواضعه، وكذب عليهم وافترى. فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الآب والابن، ومرادهم عندهم بالأب الرب وبالابن المصطفى المختار المحبوب، ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سمُّوا شيئًا من صفات الله ابنًا ولا قالوا عن شيء من صفاته أنه تولد عنه، ولا أنه مولود له. فإذا وجد في كلام المسيح عليه السلام أنه قال: عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس، ثم فسروا الابن بصفة الله القديمة الأزلية- كان هذا كذبًا بينًا على المسيح، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية. وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تُسمَّى روح القدس، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله تبارك وتعالى على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم- كان تفسير قول المسيح: روح القدس أنه أراد حياة الله كذبًا على المسيح.

ونلخص ما سبق فنقول: أن الولادة والبنوة تقتضي وجود سبق زمني بين الأقنومين، وأن محاولة تفسير العلاقة بينهما بأي وصف آخر كالعلة والسببية للهروب من إثبات هذا الفرق الزمني- لا يُخرج صاحبه من المأزق؛ لأن العلة تسبق المعلول زمنيًّا وإن اتصلا في الوجود، وأحدهما سابق للآخر، حتى ولو لم يكن بينهما فرق زمني محسوب، وبهذا لا يستحق أقنوم «الابن» -حسب ادعائهم- وصف القدم والأزل بأي وجه من الوجوه. الاتحاد والانفصال قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافًا متباينًا.. يقول الإمام ابن تيمية: (زعم قوم منهم أن الاتحاد: هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح، وهو قول الأكثرين منهم. وزعم قوم منهم: أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج. وقال قوم : هو أن كلمة الله قد انقلبت لحمًا ودمًا بالاختلاط. وقال كثير منهم : هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن. ثم قلتم في أمانتكم ([6]) إنه تجسم من روح القدس أو منه ومن مريم، وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس.. وإن كان تجسم من روح القدس فيكون هو روح القدس، لا يكون هو الكلمة التي هي الابن. ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه، فيكون حينئذ أقنومين: أقنوم الكلمة وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنومًا واحدًا..!) (وهم يجعلون الأقنوم اسمًا للذات مع الصفة، والذات واحدة، والتعدد في الصفات لا في الذات، ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى، ولا دون الذات. فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقًات دون الأقنوم الآخر، ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها، ولا إثبات إله حق من إله حق، ولا تسمية صفات الله مثل كلامه وحياته.. لا ابنًا ولا إلهًا ولا ربًّا، ولا إثبات اتحاد الرب خالق السموات والأرض بشيء من الآدميين، ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى، بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره.. لا علمه ولا كلامه ولا حياته ولا غير ذلك). ثم يفند الإمام رحمه الله عقيدتهم هذه من عدة وجوه، نقتصر منها على وجهين: الوجه الأول: أن يقال لهم -حسب اعتقادهم-: إن المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط.. أو بعبارة أخرى: إما الكلام مع الذات.. وإما الكلام بدون الذات.. فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة، وهذا باطلٌ باتفاق النصارى وسائر أهل الملل وباتفاق الكتب الإلهية، وباطلٌ بصريح العقل. وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلهًا خالقًا والمسيح عندهم إلهٌ خالقٌ، والصفة لا تخلق ولا ترزق وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء و(جلس عن يمين أبيه).. الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح.. إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد.. فليس ذلك باتحاد..! وإن قيل: صارا جوهرًا واحدًا -كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة أو اللبن مع الماء- فهذا يستلزم استحالة كل منهما وانقلاب صفة كل منهما؛ بل حقيقته، كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديد، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه.. وما وجب قدمه استحال عدمه، وما وجب وجوده امتنع عدمه، فإن القديم لا يكون قديمًا إلا لوجوبه بنفسه، أو لكونه لازمًا للواجب بنفسه.. وبهذين الوجهين تنتفي فكرة الاتحاد التي زعمها النصارى.. ويبقى أن نثبت الانفصال الذي حاولوا جاهدين نفيه للإبقاء علي زعمهم. يقول مؤلف علم اللاهوت النظامي: (كلمة «أقنوم» كلمة سريانية تدل على من يتميَّز عن سواه، بغير انفصال عنه). فَعَرَّف كلمة «الأقنوم» بالشيء ونقيضه.. لأن مجرد التميز بالصفات أو الخصائص -حتى مع زعم وحدة الطبيعة والجوهر- لا يعني سوى الانفصال الذي حاول أن ينفيه. وفضلا عن عشرات النصوص المبثوثة في الأناجيل، التي تدل دلالة قاطعة على الانفصال، نركز هنا على دليلين اثنين: الأول: أن انبثاق روح القدس من الآب يختلف عن تولد الابن منه فالابن مولود من الآب، بينما روح القدس منبثق، والانبثاق معناه التولد من الجمع، مثل انبثاق الماء، وهذا يثبت الفارق بين الابن «المتولد»، وروح القدس «المنبثق». والثاني: ما زعموه من صعود الابن والجلوس عن يمين أبيه يقول مرقس: (إن الرب بعدمًا كلمهم ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله) [16/19]. فيقول النصارى: إن الله سبحانه وتعالى اتحد بالمسيح، وأنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب. يقول ابن تيمية: (وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه، بل لما صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا، وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد وليس هو متصلاً به، بل غايته أن يكون مماسًا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر).

 والنسبة المكانية الصارخة في كلمة: «عن يمين» تدل على الانفصال. المساواة في الجوهر: يضطرب النصارى اضطرابًا بالغًا عند الحديث عن العلاقة بين أقانيمهم المزعومة، من حيث المساواة.. وخصوصًا عندما يحاولون تأويل النصوص القاطعة بوجود فرق بين الآب والابن..


التعليقات