منزلة البعد الإيماني و الغيبي في فهم التاريخ و استشراف المستقبل و إدارة الصراع

من الأهمية إدخال الجانب الإيماني و البعد الغيبي في تحليل و فهم النشاط الإنساني… فالبعد الغيبي لا ينفصل عن الواقع البشري و إن كان مستترا لكن أثره متحققا و ملموسا.

و اغفال هذا البعد يؤدي بأخطاء كبيرة سواء في تفسير و فهم التجارب الإنسانية و الحكم على الحوادث التاريخية و تحليلها.. أو في استشراف المستقبل المرتقب.. أو في تقييم موازين القوة.. أو التخطيط لإدارة الصراعات على الأرض.

ذلك لأن الخالق المدبر الحكيم كما جعل لحركة الأجرام و الأجسام قوانين .. جعل لحركة المجتمعات قوانين و سنن ثابتة.. هذه السنن قد يصعب قد يصعب على البشر إدراكها بأنفسهم.. و من هنا تأتي قيمة الوحي الذي يبين هذه السنن.

إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

ثم إن الوحي يوضح علاقة الإنسان بعالم الغيب.. و يحدد أبعاد هذه العلاقة و يرسم تصورا كاملا عنها.. فالنشاط الإنساني (عالم الشهادة) لا ينفصل عن عالم الغيب .. و إغفال أو إخراج هذا الجانب من المشهد هو اختزال مخل لحقيقة الصورة يحيد بصاحبه عن فهم و تصور الحقيقة كاملة.

فمثلا لايمكن أن يكون لدينا تصور صحيح عن ما يدور في الدنيا, إن لم يكن على أساس أنه امتداد للصراع القديم بين آدم و إبليس .. “قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ “

و أي تصور لا يبنى على هذا الأساس لا بد أن يعتريه الخلل و القصور .. و من هنا نفهم أن الإمبراطوريات و الممالك الجاهلية ما هي إلا ممالك شيطانية تمثل سلطان ابليس على الناس لكن في صورة بشرية.. فكل سلطة جاهلية ما هي إلا امتداد لسلطة إبليس الذي يجلس على عرشه لتنتهي إليه كل السلطات الجاهلية. “وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ“.

قد يقول قائل إن الصراع على الأرض يدخل فيه جوانب أخرى غير الجانب العقدى….كالنفوذ….والسيطرة على الموارد….والجانب الاقتصادى. …و هذا أمر لايمكن انكاره….ولكنه يدخل فى أز الشيطان لأوليائه …..فهو من حرض أمراء الصليبيين الأوائل الذين يفتقدون لاقطاعيات فى غرب أوروبا ليحكموها , فأطمعهم فى احتلال الساحل الشامى وإشباع طموحهم فى الحكم….أو دفع الغوغاء بدلا من اقتتالهم على الطعام هناك إلى المسير إلى البلاد التى تقطر عسلا ولبنا
قال تعالى” ألَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا

ومن إدخال البعد الغيبي فى معادلة الصراع….تقدير موازين القوة.
تعتمد إدارة الصراع على حساب قوة الخصم ومقابلتها بقوتك, وهنا يجب الأخذ في الاعتبار القوى الغيبيبة فى الصراع.. ثم النظر فى كيفية التعامل معها..

فهذه القوى الغيبية (الشيطان) داخلة فى المعركة فى محاور :

1) التخطيط والإلهام ونقل الخبرات :

قال تعالى “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ“.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلْمَلَكِ لَـمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَـمَّةً، فَلَمَّةُ الْـمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْـحَقِّ وَوَعْدٌ بِالْـخَيْرِ، وَلَـمَّةُ الشَّيْطَانِ تَكْذِيبٌ بِالْـحَقِّ وَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ».
قال تعالى ” أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْم طَاغُون“َ

2) حرب المواجهة والمشاركة الفعلية :

قال تعالى ” وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ“.

3) حرب الاستخبارات ونقل المعلومات :

وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ
فإن كان استراق السمع على حديث السماء ومايدور فى الملأ الأعلى فمن باب أولى كونه مع حديث الأرض

ومن الطريف هنا أنى قرأت فى أحد الصحف أن المخابرات الأمريكية تستخدم العرافيين للبحث عن الشيخ أسامة بن لادن وتحديد مكانه!!

و ادراك هذا الواقع ليس ترفا فكريا .. بل لا بد من البحث عن وسائل تناسب هذا الصنف من الحروب.. فعلى سبيل المثال كوسائل لمواجهة حرب الاستخبارات, يأتي الحرز و الرقية و الأدعية..
“إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ
لذا لما سأل النبي –صلى الله عليه و سلم – ابن صياد عن ما خبأه له ما هدي له .. فقال الدخ بدلا من الدخان .. لعل الشيطان الذي ألقى الى ابن صياد بالكلمة فر قبل اكمالها لحضور عمر “قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني خبأت لك خبيئاً. فقال ابن صياد: هو الدخ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك.”

و كما اعتبرنا حساب الفعل الشيطاني فلا بد من تقدير حقيقة قوته..

الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.”
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

و في المقابل لا بد من حساب القوى “الحليفة”

وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّك إِلاَّ هُوَ
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
” نصرت بالرعب مسيرة شهر”

و مما يميز المسلم عن غيره قدرته على استشراف المستقبلل .. ذلك لأن معه مفاتيح المستقبل .. و كتاب الغيب مفتوح بين يديه.. كما أن معه قوانين الحياة التي يجهلها غيره..

ما ترك قوم الجهاد إلا ذلُّوا
لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة

لذا فهو يؤمن و يرقب ما كشف الله له من أخبار الغيب المستقبلية, متيقنا من حدوثها, متماشيا في حركته معها..

فمثلا هو لا يعتبر دولة اليهود على فلسطين واقع لا مناص من الاعتراف به.. بل يعلم يقينا أنه إلى زوال ” تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ “.. و يعلم أن المسلمين سيذهبون بفتوحاتهم إلى روما.. بل سيبلغ هذا الدين كل جوانب الأرض و لن يترك بيت مدر ولا وبر إلا دخله.

و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.


التعليقات