غياب الشريعة .. أبعاد نفسية

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

بسم الله الرحمن الرحيم

حب الوحي

قضية تحكيم الشريعة عند المسلم قضية إيمان وتسليم، وهو معنى قول الله عز وجل: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).

والأساس في الإيمان والتسليم بقضية الحاكمية هو حب الوحي باعتبار أن الإحساس بالحكم.. صادر عن هذا الحب..

والجمال هو أعمق أبعاد الحب، لذلك كان حب الوحي إحساس بجماله، وكانت ورقة المصحف عند المسلم معياراً مطلقا للجمال..

عن أنس قال: «قَالَ أَبُو بكر لِعُمَرَ رضي الله عنهما بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أيْمَنَ رضي الله عنها نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهَا، بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أمَا تَعْلَمِينَ أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لرَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: مَا أبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَم أنَّ مَا عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرٌ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولَكِنْ أبكي أنَّ الوَحْيَ قدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّماءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى البُكَاءِ، فَجَعَلا يَبْكِيَانِ مَعَهَا».

والجمال هو أعمق أبعاد الحب، لذلك كان حب الوحي إحساس بجماله، وكانت ورقة المصحف عند المسلم معياراً مطلقا للجمال: عن أَنَسٍ بْن مَالِكٍ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّى لَهُمْ فِي وَجَعِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي تُوُفِّىَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ – وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ – كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سِتْرَ الْحُجْرَةِ فَنَظَرَ إِلَيْنَا، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ. ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَاحِكًا..».

قَالَ الإمام النَّوَوِيّ: “(كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ) عِبَارَة عَنْ الْجَمَال الْبَارِع وَحُسَن الْبَشَرَة وَصَفَاء الْوَجْه وَاسْتِنَارَته”، ويعلق عليه الإمام السندي فيقول: “وَالْمُصْحَف هُوَ عِبَارَة عَمَّا ذَكَرَهُ مَعَ زِيَادَة كَوْنه مَحْبُوبًا مُعَظَّمًا فِي الصُّدُور وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِخُصُوصِ الْوَرَقَة بِالْمُصْحَفِ وَجْه فَلْيُتَأَمَّلْ “.

ثم يقول: “وقوله: (ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ضَاحِكًا) سبب تبسمه صلى الله عليه وسلم فرحه بما رأى من اجتماعهم على الصلاة واتباعهم لإمامهم وإقامتهم شريعته واتفاق كلمتهم واجتماع قلوبهم ولهذا استنار وجهه صلى الله عليه وسلم على عادته إذا رأى أو سمع ما يسره يستنير وجهه”.

يقول ابن القيم في تفسير حديث: (إن الله جميل يحب الجمال): “المحمود من الجمال ما كان لله، وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له..

ومن حب الوحي كان حب الطاعة، ويبين هذا الأساس أفعال الصحابة تجاه قضية الطاعة، عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بناء له، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: عَوْف؟ قُلْتُ: نَعَم يا رَسُولَ الله! قال: ادخُل. فَقُلْتُ: كُلِّي أَمْ بَعْضِي. قال: بَل كُلُّك. قال: فقال لي: اعْدُدْ عَوْف ! سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ؛ أَوَّلُهُن: مَوْتِي. قال: فَاسْتَبْكَيْتُ حتى جَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يسكتني….).

ومن هنا كان جمال الطاعة مع جمال الوحي، فيقول ابن القيم في تفسير حديث: (إن الله جميل يحب الجمال): “المحمود من الجمال ما كان لله، وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب، والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه..

والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك، وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين..”

والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين، فأوله معرفة.. وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبده بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة والختان وتقليم الأظفار..

فيعرفه بصفات بالجمال، ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة..

فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه.

حب الحاكمية

وبحب الوحي وحب الطاعة كان حب الحاكمية، لأن حكم القرآن هو الحكمة من نزول القرآن، ولذلك يقول ابن القيم في تفسير الآية: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان:30): “هجر القرآن أنواع:

أحدها: هجر سماعه والإيمان به.

والثاني: هجر العمل به وإن قرأه وآمن به.

والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه.

والرابع: هجر تدبره وتفهم معانيه.

والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وكل هذا داخل في قوله تعالى: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض”.

ومن هنا كان حب القرآن هو حب الحكم به:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَزِيدِ بْنِ خَالِدٍ ، رضي الله عنهما أنهما كانا عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: «أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهْ مِنْهُ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: فَإِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ، وَإِنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، وَسَأَلْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَّنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَمَّا الْمِائَةُ َالشَّاةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبٌ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا».

ولعلنا نلاحظ مجيء الطرفان ومناشدة رسول الله القضاء بكتاب الله، وهذا الموقف دليل على طبيعة التعامل النفسي مع قضية الحكم بكتاب الله عز وجل، حيث جاء الزوج والأب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باحتمال الرجم للزوجة والابن.

ولعلنا ننتبه إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ الفداء بالشياه والخادم قبل أن يحكم بينهما بكتاب الله، وهي قاعدة تفسر معنى أن الإسلام هو قبول شرع الله ورفض ما سواه، فكان لابد من رفض ما سوى شرع الله قبل الحكم بشرع الله.

وفي هذا الإطار يأتي ذكر الأمثلة التي جاء أصحابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون إقامة حد الرجم عليهم، مثل ماعز والغامدية، اللذان طلبا بإصرار شديد أن يقام عليهما الحد..

لكن القضية لاتقف عند حد الإحساس بل إنها تستوعب كيان صاحب الإحساس ذاته من خلال التوافق بين الشريعة الإسلامية والطبيعة الإنسانية

لم يكن موقفا انفعاليا أو متحمسا.. إنه الرجم..

لم يكن موقفا عابرا.. لأنه الإصرار بعد أن راجعهم رسول الله عدة مرات، بل وكان يقول للمرأة كل مرة سببا يجعلها تغيب شهور.. حتى تضع.. حتى ترضع.. حتى تفطم.. ولكنها في النهاية تأتيه ومع ابنها كسرة خبز..!!

مواقف لا يمكن أن يكون إحساس المسلم بإقامة الشريعة بعيدا عنها..

ولكن القضية لاتقف عند حد الإحساس بل إنها تستوعب كيان صاحب الإحساس ذاته من خلال التوافق بين الشريعة الإسلامية والطبيعة الإنسانية، ومن قول الله عز وجل (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) نفهم حقيقة هذا التوافق حيث أن هذه الصيغة القرآنية لم ترد إلا في ثلاث مواضع:

– (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)

– (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:40)

– (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:36)

وفي المواضع الثلاثة يتوافق معنى الفطرة في الإنسان: (فِطْرَتَ اللَّهِ فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، مع الفطرة في الحكم: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، مع الفطرة في الكون والنظام الكوني (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

وقد أجمع المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30) على توافق معنى الفطرة الإنسانية مع الشريعة، فقال الإمام ابن كثير: «يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازمْ فطرتَك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: “إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم”.

وجمع الإمام القرطبي هذه الأقوال فقال: «معنى ذلك: فطر الله الناس ذلك فطرة. وقيل: معنى ذلك اتبعوا دين الله الذي خلق الناس له.. وسميت الفطرة دينا لأن الناس يخلقون له، قال جل وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}».

لا تبديل لخلق الله: أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد، بل حافظوا على الشريعة بالتفريق بين متشابهاتها، وسبر أحوال البشر، والتعرض بالأفهام زماناً لتصاريف الشريعة، وتوسم مراميها، وغاياتها والعصمة بوازع الحق عن الميل مع الأهواء.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة، وهي صنعة الله التي خلق الناس عليها، وهي: الإسلام.

جاء في المعجم: “القيم: السيد وسائس الأمر.. وقيم القوم الذي يقوم بشأنهم ويسوس أمرهم، وأمر قيم مستقيم”.

فيصبح معنى “القَيِّم” من ناحية الإنسان: هو خلق الإنسان وفقا لمقتضيات الشريعة..

ومن ناحية الشريعة: هو سياسة أمر الإنسان وفقا لفطرته.

ولعلنا نلاحظ في جواب الصحابة لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر والبلد واليوم “الله ورسوله أعلم” معنى التفويض المطلق لحكم الله عز وجل في الزمان والمكان..

وبالتوافق بين الفطرة الإنسانية والشريعة تمتد النصوص القرآنية به امتدادا كونيا يثبت توافق الفطرة الكونية مع الحاكمية في قول الله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:36)

حتى بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن فتح مكة وإقامة شرع الله فيها كان ضبطا للحركة الكونية كلها: عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَقَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: أَلَيْسَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ ؟ قُلْنَا : بَلَى..

ولعلنا نلاحظ في جواب الصحابة لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر والبلد واليوم “الله ورسوله أعلم” معنى التفويض المطلق لحكم الله عز وجل في الزمان والمكان، وبذلك يشمل معنى “الدين القيم” فطرة النفس وشريعة الحكم ونظام الكون..

وفي مقابل هذا التوافق يمثل غياب الشريعة أكبر خلل نفسي وسياسي وكوني..

هذا الخلل الذي يبلغ درجة المسخ الحقيقي..

فعندما تحايل اليهود على شرع الله بمعصية واحدة وهي الصيد في يوم السبت جعلهم الله قردة وخنازير..

رغم أنهم لم يعلنوا الخروج عليه أو رده ولكنهم تحايلوا على الحكم ، بدليل أنهم كانوا يبقون السمك في الماء حتى لا يخرجوه يوم السبت..

فما الظن بالتعطيل والتبديل والسخرية والاستهزاء.. ومحاربة من يدعو إلى إقامة الشريعة.. إنه المسخ أيضا! ولكن ليس في الصورة الظاهرة، بل في الطباع والتصرفات، ليكون كل الرافضين لشرع الله صور إنسانية ممسوخة يلتفون ويدورون في محاربة الشريعة بخفة القردة ويرغبون عن الطهارة الى النجس بطبيعة الخنازير ويعيشون تحت عنوان النفاق.

(ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء: 60-61]

يقول الإمام السعدي في التفسير “قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي: علة، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته، فصار بمنزلة المريض، الذي يعرض عما ينفعه، ويقبل على ما يضره”.

وزوال حاسة الصواب لم يحدث فجأة؛ إنما كان بطول الأمد حتى يبلغ مداه آخر الزمان بأن يكون الناس: (شَرٌّ من الحُمُر يَتَسَافَدُون كما تَتَسَافَد البهائم، وليس فيهم رَجُلٌ يقول مَهْ مَهْ) يعني وليس فيهم من يتساءل مجرد تساؤل ما الذي يحدث..!

ووصول الناس في آخر الزمان الى هذه المرحلة لن يكون فجأة ولكنه سيكون بطل الأمد فيتغير الناس مع كل أحداث الأمة إبتداءا بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بدأت أول العوارض النفسية الطارئة على الأمة:

عن أنس قال: (لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ ، أَوْ مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، قَالَ : وَإِنَا لَفِي دَفْنِهِ مَا رَفَعْنَا أَيْدِينَا عَنْ دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا).

ويبقى واجب المواجهة والسعي لإعادة الشريعة الى موقع السلطة في حياتنا .. ودائما يكون هناك ما يمكن عمله في كل الظروف والأحوال..

قال التوربشتي: “يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول صلى الله عليه وسلم من التأييد والتعليم ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق”.

ومن هنا كان تَغَيُّر الإنسان المسلم هو البداية..

يستمر التغير مع الشعور به حتى يفقد المسلم هذا الشعور..

لذلك لا تترك الجاهلية المسلم لنفسه ليشعر بمأساة حياته بعيدا عن شرع الله، فتسعى لإفقاده الغيرة على عرضه ودينه حتى لا يثور شعوره لغياب شريعته..

ومن هنا يكون إعادة الشعور بغياب الشريعة من أهم الواجبات..

ويبقى واجب المواجهة والسعي لإعادة الشريعة الى موقع السلطة في حياتنا .. ودائما يكون هناك ما يمكن عمله في كل الظروف والأحوال..

وغياب الشريعة من واقع الحياة، ثم غياب الإحساس بآثار تنحية الشريعة، ثم غياب الحديث عن الشريعة بعد تغييبها عن الواقع والإحساس … يتطلب جهد عظيم.

ـ ولكننا في البداية نستطيع الحفاظ على الشعور الفطري بالشريعة والارتكاز على عاطفة المسلمين نحو القرآن لتصب في الشعور بقضية الحاكمية، وربط الحكم بما أنزل الله في إحساس الناس بمصالحهم وأمنهم والبركة في حياتهم..

نستطيع إحياء الشعور بممارسة الأحكام الشرعية في مجالس الصلح بين الناس وفي مجال التحاكم في النزاعات الإجتماعية والزوجية والتخاطب بين المسلمين بالمصطلحات والتعبيرات والمفاهيم الإسلامية.

ـ ونستطيع تغذية الشوق الذي يملأ قلوب العباد إلى الحاكمية بإحياء النماذج التاريخية للقضاء الشرعي التي تمتليء بها كتب التاريخ “استعدى رجل على عليّ بن أبي طالب إلى عمر بن الخطاب، وكان عليّ جالساً في مجلس عمر ابن الخطاب، فالتفت عمر إلى عليّ فقال: يا أبا الحسن – وقال المؤيد: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك – فقام عليّ فجلس مع خصمه فتناظرا، وانصرف الرجل ورجع عليّ إلى مجلسه فجلس فيه، فتبين عمر التغير في وجهه فقال له: يا أبا الحسن مالي أراك متغيراً، أكرهت ما كان؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال: لأنك كنيتني، بحضرة خصمي، فالا قلت لي: قم يا عليّ فاجلس مع خصمك، فأخذ عمر برأس عليّ فقبل بين عينيه..” بغية الطلب في تاريخ حلب – (2 / 127)

نستطيع إحياء الشعور بممارسة الأحكام الشرعية في مجالس الصلح بين الناس وفي مجال التحاكم في النزاعات الإجتماعية والزوجية والتخاطب بين المسلمين بالمصطلحات والتعبيرات والمفاهيم الإسلامية.

كل ذلك واجب يستطيعه أي مسلم في أي ظرف يعيشه، على أن يكون ذلك في إطار المعالجة النفسية لغياب الشريعة وليست بديلا عن السعي بكل الجهد في إقامتها وتحكيمها .

فلا يخلو وقت من السعي و العمل..حتى يأذن الله بعودة الشريعة .. الحبيبة الغائبة.


التعليقات