القدس بعد بغداد.. خطايا السياسة السعودية

أكد الرئيس الأميركي” ترمب” في كلمته التي أعلن خلالها اعترافه بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني الغاصب، أنه ناقش الأمر مسبقا مع بعض الرؤساء العرب خلال اجتماعه معهم بقمة الرياض، وهو ما يعضد التصريحات المنسوبة للوزير الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” عن وجود تنسيق أميركي عربي مسبق لاحتواء ردة الفعل الفلسطينية على تلكم القرارات.

وفيما يتعلق بموقف السعودية نوه “كاتس” إلى أن الرياض تأخذ بعين الاعتبار في موقفها المصالح الأمنية المشتركة مع إسرائيل لاسيما في مواجهة إيران. ومن جهته اكتفى النظام السعودي بإصدار بيانات شجب واستنكار باهتة للقرارات الأميركية المتفقة عليها مسبقا.

هذا الأسلوب في عقد التفاهمات السرية التي تمس مقدسات الأمة وتعود عليها بالضرر ليس أمرا جديدا على السياسة السعودية، فقد سبق للملك “عبد الله بن عبد العزيز” عندما كان وليا للعهد أن أعلن رسميا قبيل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 تحبيذه استعمال الوسائل الدبلوماسية في التعامل مع النظام العراقي دون اللجوء لشن حرب تترك تداعيات سلبية على المنطقة.

هذا الموقف المعلن كان مخالفا للموقف السعودي الحقيقي، إذ كشف الصحفي وثيق الصلة بدوائر صنع القرار الأميركية “بوب ودوارد” في كتابه (خطة الهجوم) أن السفير السعودي لدى واشنطن آنذاك “بندر بن سلطان” التقى بالرئيس “بوش” 4 مرات خلال الشهور الخمسة السابقة لبدء الغزو للضغط عليه لشن الحرب، وعدم الاستجابة لمساعي الوساطة الهادفة لتجنب التصعيد، والتحذير من مغبة بقاء “صدام حسين” في سدة الحكم.

توهم النظام السعودي آنذاك أنه سيربح من إسقاط صدام، حتى أن “بندر” قال لبوش نصا (نأمل أن تضطلع المملكة العربية السعودية بدور رئيسي في صياغة النظام الذي سيبرز ليس في العراق فقط بل في المنطقة بعد سقوط صدام حسين). وأكد بندر على رغبة الأمير “عبد الله بن عبد العزيز” في بقاء الموقف السعودي سرا، فقال لبوش وتشيني في لقاء جمعهم بنوفمبر 2002 (بودنا أن يبقى كل شيء بيننا حميميا وسريا إلى حين).

وفي يناير 2003 تم اطلاع “بندر” على خطة غزو العراق بواسطة نائب الرئيس الأميركي “ديك تشيني” ووزير الدفاع “دونالد رامسفيلد” ورئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة “ريتشارد مايرز”. وتم الاتفاق على أوجه المساعدات السعودية والتسهيلات المطلوب توفيرها للجيش الأميركي لتنفيذ عملياته الحربية.

وفي نفس الشهر التقى بوش ببندر مجددا، وصارحه “بوش” بوجود تخوفات لدى أركان إدارته من حدوث رد فعل شعبي إسلامي وعربي واسع ضد الغزو يؤثر سلبا على المصالح الأمريكية، فأجابه ” بندر” (لن يذرف الناس أي دمعة على صدام حسين، وتذكر ما قيل لأبيك قبل حرب 1991 من أن العالم العربي سيهب من المحيط إلى الخليج، وهو ما لم يحدث آنذاك، ولن يحدث أيضا هذه المرة).

ثم قبل الحرب بأسبوع في 14 مارس 2003 قابل “بندر” الرئيس الأميركي للمرة الثالثة للتأكيد على أهمية القضاء على صدام حسين. ثم التقاه مجددا للمرة الرابعة قبل الحرب بيومين، ليتلقى وعدا من بوش بأن تكون السعودية أول دولة أجنبية تعرف موعد بدء الحرب، وهو ما حدث بالفعل قبل ساعات من بدء القصف الجوي الأميركي للعراق.

الشاهد أن الموقف السعودي من غزو العراق لم يكن موقفا تحركه المصالح الاستراتيجية للعالم الإسلامي والعربي، أو حتى المصالح الآنية الضيقة للنظام السعودي، إنما حركته مشاعر الانتقام الشخصي من “صدام حسين” وترتب على ذلك نتائج كارثية على السعودية التي تخلصت من “صدام” لتواجه بدلا منه مشروعا إيرانيا توسعيا يهدد وجودها.

فبعد سقوط النظام البعثي لم تتمكن السعودية من المشاركة في تشكيل النظام العراقي الجديد مثلما كانت تأمل، وسيطرت بدلا من ذلك إيران على مقدرات العراق، وتحكمت في مراكز صنع القرار به، ونجحت في ترسيخ نفوذها باليمن، فاشتعلت سلسلة الحروب ضد الحوثيين بدءا من عام 2004 كما نجح حزب الله اللبناني عام 2008 في الحصول على حق الثلث المعطل للحكومة، ومن ثم صار بإمكانه تجميد عمل الحكومات التي لا يرضى عنها.

واليوم ترتكب السعودية خطيئة أكبر، إذ يخوض الأمير “محمد بن سلمان” غمار رهان مدمر، فبعد تبديده لثروات بلاده بعقده اتفاقات ب350 مليار دولار مع أميركا، وشراءه  ليخت ب400 مليون دولار، ولوحة فنية بنصف مليار دولار في ظل حصار قاس يضربه على اليمن، ورسوم باهظة فُرضت مؤخرا على المقيمين الأجانب بالمملكة والمعتمرين، وتوقيف العديد من الأمراء والوجهاء ورجال الأعمال والتحفظ على أموالهم، آخذ الأمير الطموح يفرط في المقدسات الإسلامية ويرمي بثقله لإتمام صفقة القرن المشبوهة ويدخل في تحالف خاسر مع إسرائيل لتأمين نفسه من إيران.

إن الدور الأكبر المناط حاليا بعقلاء المملكة يتمثل في إيقاف نزيف تبديد الثروات والتفريط بالمقدسات، وتقليص المغامرات الخارجية غير المحسوبة، والتي تحركها نزوات شاب يود تولي منصب الملك على حساب أي شيء، ولو كان الثمن تحطيم بلده ذاتها.


التعليقات