خدعة القرن.. الثورة العربية الكبرى بعيون بريطانية

تمثل وثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنها السرية كنزا تاريخيا يشرح خلفيات الأحداث الكبرى التي وقعت في قلب العالم الإسلامي ويوضح كيفية تشكل خارطة المنطقة مطلع القرن العشرين.

لماذا حرّض الإنجليز الشريف “حسين” على الثورة؟

مثّل دخول تركيا الحرب العالمية في 1914 بجوار ألمانيا خطرا كبيرا على مصالح بريطانيا، عبرت عنه بوضوح مذكرة إستراتيجية أعدتها الدائرة السياسية البريطانية في وزارة الهند قائلة إن المخاطر تتمثل في “الخوف من ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددا”، ومن ثم أوصت المذكرة بقطع دابر تلك المخاطر عبر إضعاف الحكومة المنظمة الوحيدة القادرة على إعطاء زخم لفكرة الوحدة الإسلامية آنذاك ألا وهي الحكومة التركية.

بدأ الإنجليز مبكرا في مراسلة شريف مكة، الحسين بن علي، لتشجيعه على الثورة ضد الوجود التركي في الحجاز، واعدين إياه بمنصب الخليفة، وفي 30 أغسطس 1915 أرسل المندوب السامي البريطاني في مصر، مكماهون، لى الشريف رسالة تحريضية قائلا له: “إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة”.

وأخذ مكماهون يخاطب “الشريف” بألفاظ التعظيم، فراسله في 10 مارس 1916 قائلا: “إلى ساحة ذلك المقام الرفيع ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، قبلة الإسلام والمسلمين، معدن الشرف وطيب المحتد، سلالة مهبط الوحي المحمدي الشريف ابن الشريف، صاحب الدولة السيد الشريف حسين بن علي، أمير مكة المعظم، زاده الله رفعة وعلاء”. استجاب الشريف للإغراءات وأعلن الثورة على العثمانيين في 10 يونيو 1916، ما أسعد مكماهون، الذي أرسل إلى وزارة الخارجية في لندن في 14 أغسطس 1916 قائلا: “إن لدينا فرصة فريدة قد لا تسنح مرة أخرى في أن نؤمّن بواسطة الشريف نفوذا مهما على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية، وربما نوعا من السيطرة عليهما”.

أمدت بريطانيا الشريف بالمال والسلاح، ففي خلال العام الأول فقط من ثورته أعطته 71 ألف بندقية وأكثر من أربعين مليون طلقة، بل وأرسلت إلى نجلي الشريف، فيصل وعلي، ألف سيجارة لكونهما المدخنَين الوحيدَين في عائلتهما. كما عززت بريطانيا جيش الشريف بأعداد كبيرة من الأسرى العرب التابعين للجيش العثماني، وفي رسالة طريفة نصح الدبلوماسي البريطاني سايكس الجنرال كلايتون في أكتوبر 1917 بالتوجه إلى معسكر الأسرى العرب ليخطب فيهم قبل التحاقهم بالشريف قائلا:

“هل من واجبي، أنا الإنجليزي، أن أذكركم بآل بيت علي ومعاوية والعباس بالأولياء والأبطال الذين صنعوا أمجاد العرب في العالم، بالتأكيد إن ضمائركم تقول لكم ذلك. ولكنني كرجل إنجليزي سأقول لكم التالي: إن إمبراطوريات العرب دمرت وجعلت تراباً بالخلافات والتكاسل، وإن نير الترك كبل أعناقكم 900 عام لأنكم أتبعتم أهواءكم ولم تكونوا متحدين أبداً.. والآن بيدكم الفرصة التي إذا أضعتموها فلن يغفر الله لكم.. إن من الأفضل أن يكون المرء طاهياً في السرية العربية من أن يكون وزيراً خاضعاً للأتراك”.

اعتبر الإنجليز أن من إيجابيات انحياز الشريف لهم “رفضه إعلان الدعوة للجهاد ضد بريطانيا، تحجيمه النفوذ التركي في الحجاز، حيلولته دون تجميع المتطوعين للقتال في صفوف الجيش العثماني، وإيقافه مخطط إمام اليمن لمهاجمة المستعمرة البريطانية في عدن”.. وميدانيا، تمكن جيش الشريف من السيطرة على الحجاز، كما تمكن جيشه الشمالي، بقيادة نجله فيصل، من دخول دمشق بالتنسيق مع الجيش البريطاني.

أحلام الشريف وخدعة القرن

عاش الشريف أحلاما وردية مصدقا أن بريطانيا ستهبه حكم الجزيرة العربية والعراق والشام وفلسطين، حتى أن نجله فيصل عندما قال له “ماذا ستفعل إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟” احتد عليه الشريف قائلا “ألا تعرف بريطانيا العظمى؟ إن ثقتي فيها مطلقة”.

وفي فترة مبكرة حرصت بريطانيا وفرنسا على جس نبض الشريف، فقابله الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو في 24 مايو 1917 ليستطلعا رأيه بخصوص مدى قبوله سيطرةَ فرنسا على سوريا، فأجابهما قائلا: “إنه لا يمكنه أن يكون طرفاً في عمل يرمي إلى تسليم مسلمين لحكم مباشر من قبَل دولة غير إسلامية”. وجدير بالذكر أن بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قد تقاسمت تركة الدولة العثمانية بينها في اتفاقية “سايكس بيكو” في 1916، وحرص سايكس في برقية أرسلها إلى وزارة الخارجية بلندن في 17 مارس 1916 على التوصية بكتمان بنود الاتفاقية عن زعماء العرب.

جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ اندلعت ثورة البلاشفة الروس في أكتوبر 1917، ونشر البلاشفة الوثائق السرية التي عثروا عليها في مقر وزارة الخارجية الروسية بالعاصمة بتروغراد، ومن بينها اتفاقية “سايكس بيكو”، فوصلت أنباء الاتفاقية إلى الشريف، فبادر للاستفسار عن حقيقة الأمر، وهو ما شرحه المندوب السامي البريطاني وينغت في رسالة إلى وزير خارجيته في 16 يونيو 1918 قائلا:

“إن ملك الحجاز.. قد أرسل برقية شديدة إلى وكيله موعزاً إليه بالقيام بتحقيقات عن الاتفاق البريطاني الفرنسي ونطاقه. ولا بد أنك تتذكر أن الملك لم يُبلغ قط باتفاقية “سايكس -بيكو” بصورة رسمية.  نصحت الوكيل أن يقول إن البلاشفة وجدوا في وزارة خارجية بتروغراد سجلاً لمحادثات قديمة وتفاهم مؤقت وليس معاهدة رسمية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا”. وصدّق الشريف تبريرات الإنجليز، بل وهنأهم بكل سذاجة على سيطرتهم على القدس قائلا: “إن هذا النبأ مستلزم للفخر العظيم”، ظنا منه أن المدينة ستدخل ضمن نطاق مملكته المنشودة.

وعقب انتهاء الحرب، احتلت الجيوش الفرنسية سوريا، وطردت منها فيصل، نجل الشريف، كما فرضت بريطانيا الانتداب على فلسطين وبدأت في توطين اليهود، فرفض الشريف حسين تلك الإجراءات، وامتنع عن التوقيع على معاهدة فرساي، فتخلت عنه بريطانيا، ووجهت دعمها كله لأمير نجد، عبد العزيز بن سعود، الذي اجتاح الحجاز عام 1924، ما اضطر الشريف إلى الهرب إلى العقبة ليجبره الإنجليز على مغادرتها ليعيش في منفاه الإجباري في قبرص.

وبذلك تحققت إستراتيجية بريطانيا، التي عبر عنها مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة قائلا، في فترة مبكرة في 1916، “إن هدف الشريف هو تأسيس خلافة لنفسه.. نشاطه يبدو مفيدا لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية؛ وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقرارا من الأتراك؛ وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية؛ مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض؛ غير قادرة على التماسك.. وإذا تمكنا فقط من أن ندبّر جعل هذا التغيير السياسي عنيفا؛ فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسما على نفسه”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

*الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز) ترجمة “نجدة فتحي صفوة، المجلدان الثاني والثالث، ط. دار الساقي.


التعليقات