تجفيــف المنـابع البشرية

رحلت الأنظمة الاستعمارية عن بلاد العالم الإسلامي منتصف القرن العشرين، ولكنها احتفظت بحق الهيمنة على المنطقة بصورة غير مباشرة عبر تنصيب أنظمة تابعة لها تعتمد سياسات قمعية تجاه أي قوى إسلامية تحررية تسعى لتحقيق نهضة حقيقية وتحرص على تخليص بلادها من ربقة الاستعمار الخفي الذي يستنزف ثروات الأمة ويصادر حق الشعوب في اختيار أنظمة الحكم المتسقة مع هويتها الحضارية والدينية.

وفي غمار الحرب التي تشنها الأنظمة القمعية على القوى التحررية، يبرز مصطلح “تجفيف المنابع” ويُقصد به تجفيف الروافد البشرية والمالية والفكرية التي تغذي تلك القوى الحرة وتكفل لها حيوية الاستمرار والبقاء.

وفي هذه التدوينة سأستعرض أبرز ملامح سياسة (تجفيف المنابع البشرية) التي اعتمدتها أنظمة الحكم المتعاقبة في مصرفي مواجهة التيارات الإسلامية منذ عهد الملك فاروق حتى عهد السيسي.

يمثل المكون البشري أحد أهم الركائز التي يُعتمد عليها في تكوين الجماعات وإحداث التغيير، وتأتي العوامل الأخرى تابعة له ومعضدة ، لذلك يحرص النظام المصري على تجفيف المنابع البشرية التي تغذي صفوف الإسلاميين بالأفراد، كما يعمل على سحق الإسلاميين أنفسهم.

وينفذ تلك السياسة عبر مستويين:

 

المستوى الأول: تصفية الرموز الكاريزمية

يحرص النظام على إعدام وتصفية القيادات السياسية والفكرية والحركية  الفاعلة، التي تقدم تنظيرات قوية أو تقدم رؤية عملية للتغيير أو تعمل كمغناطيس يتجمع الأفراد حولها، وقد أشارت تقديرات السفارة البريطانية بالقاهرة لهذا الأمر في سياق أحد تقييماتها المرفوع عنها السرية لتداعيات اقصاء الاستاذ “حسن البنا” عن  المشهد العام، إذ نصت على التالي (يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار للأبد إذا أزيح حسن البنا عن قيادتها لأي سبب، مع غياب أي خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية والذكاء اللذان يتمتع بهما البنا). وبالفعل اغتيل البنا عام 1949 على يد عناصر القسم المخصوص.

ومن ثم صارت هذه سياسة معتمدة للنظام المصري ، فأعدم النظام الناصري: القانوني والمفكر البارز “عبدالقادر عودة” ورفاقه في الخمسينات، كما أعدم المفكر الإسلامي الفذ “سيد قطب” وعدد من رفاقه في الستينات، وكذلك قام نظام مبارك بتصفية المتحدث الإعلامي باسم الجماعة الإسلامية د. “علاء محيي الدين” أثناء سيره في شوارع العاصمة القاهرة.

تصفية هذه الرموز تتسبب في عدة إشكالات للتيارات التي تنتمي لها، حيث تفقد هذه التيارات العقول التي تقودها مما قد يتسبب في انحراف المسيرة، أو يؤدي غياب القائد الكاريزمي للجماعة والذي تلتف حوله الجماهير  إلى تدهور شعبيتها، أو تفقد الجماعة القائد القوي الذي يديرها ببراعة فيتطلع البعض لخلافته، فيحدث النزاع وتنشغل القيادة الجديدة بمعاركها الداخلية وتتفتت وتنقسم، فيعين النظام بعض الأطراف ضد بعض ثم يضربهم جميعاً بعد وصول الجماعة لمرحلة ضعف تسمح له بتوجيه ضربة قاضية لها.

 

المستوى الثاني: توجيه ضربات قوية لباقي القيادات والأفراد

يحرص النظام على تصفية الكوادر الفاعلة أو تجميد أنشطتها، وقد أعدم نظام مبارك شنقاً ما يقارب 90 عنصرا من كوادر الحركة الإسلامية خلال عهده، فضلا عمن صفاهم في السجون والمقرات الأمنية مثل الأستاذ “كمال السنانيري” عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، و”طلعت فؤاد قاسم” أحد أبرز قادة الجماعة الإسلامية.

كما حرصت الأنظمة القمعية عبر العهود المختلفة على المحافظة على عادة سيئة تتمثل في استهداف العناصر النشطة بحملات دهم ليلية تنفذها قوات مدججة بالسلاح  لبث الرعب في نفوس الإسلاميين وإبقائهم في حالة دائمة من التوتر والقلق تحسباً من هذه المداهمات الوحشية، ولبث الشقاق والخلافات بين الأفراد وأسرهم الذين تُنتهك حرمة منازلهم ويتعرضون للإيذاء النفسي غالباً والجسدي أحياناً بسبب انتماءات أبنائهم، ولإيجاد فجوة بين أسر الاسلاميين والأسر الأخرى المجاورة لهم، حيث يخاف الجيران من التعامل مع افراد أسرة يتعرض منزلها بين الحين والاخر للاقتحام، ولتخويف كل من يشاهد هذه المداهمات أو يسمع عنها من السير في طريق الالتزام الديني أو الانتماء للتيارات الإسلامية خشية تعرضه هو الآخر لمداهمات شبيهة.

ثم عقب القبض على هذه العناصر، يتم تلفيق قضايا مفبركة لهم، ويتم تعذيبهم أثناء التحقيقات وداخل السجون إلى أن تصدر ضدهم أحكام بالإعدام أو السجن أو يقضوا مددا طويلة في الحبس الاحتياطي على ذمة القضايا قبل أن يخرجوا لفترات وجيزة ثم يُعاد اعتقالهم مجددا مما يضعهم في دوامة مستمرة من المشاكل والأزمات المادية والأسرية والنفسية التي تستهلكهم وتستنفذ طاقتهم.

إن هذه السياسات القمعية لا يجدي معها الاستسلام لها أو الانكسار أمامها، إنما يجدي معها الحل القرآني الوارد في قوله تعالى ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم  ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). فالقمع يزيده الاستسلام له انتفاشا ويجعل الأنظمة تعتمده كوسيلة مجربة وناجحة في ترويض الشعوب، أما الصبر والمدافعة يدفعان الأنظمة الفاسدة لليأس والتخبط فتنكشف حقيقتها، وتسقط ورقة التوت عنها، ويظهر عوارها، ويصبح تغييرها مطلب يسعى لتحقيقه الكثيرون.


التعليقات